فقدت المعارضة السوريّة المسلحة، اليوم السبت، أبرز منافذها إلى لبنان؛ بلدة الزارة، أحد آخر معقلين للمعارضة على جانب الحدود اللبنانية والمؤدية إلى مدينة حمص، والمعقل الآخر هو قرية الحصن القريبة.
البلدة التي شهدت حصاراً مطبقاً استمر لما يزيد عن 500 يوم، ودارت على أطرافها معارك عنيفة على امتداد أسابيع، لم تُمنح الاهتمام الإعلامي الذي تستحقه، لجهة موقعها أوّلاً، ووضعها الإنساني ثانيّاً. وخسارة الزارة تعني "نهاية الثوّرة في غرب حمص"، حسب ناشط ميداني من أبناء المنطقة.
تتموضع الزارة في وسط مثلث سني ـ تركماني؛ رؤوسه تلكلخ والحصن والمتراس. القرية المتصلة في الجغرافية والتاريخ بمحافظة طرطوس الساحلية وسهل عكار، والتابعة إدارياً لمحافظة حمص، لم تعد مجرد قرية صغيرة على التخوم الجنوبية الشرقية لمعاقل النظام، ولم تعد مجرد جارة وادعة إلى الجنوب من وادي النصارى، لقد أصبحت الزارة شيئاً آخر.
ينزف ريف طرطوس، عشرات الشبان العلويين ممن لقوا مصرعهم على تخوم القرية خلال شهر من المعارك، وهم ممن التحقوا بقوات "الدفاع الوطني" لدوافع شتى أبرزها عدم الثقة بأي شيء خارج دائرة النظام.
الجنائز تطوف طرطوس وريفها، والمقتلة أكبر من أن يتم تحميل وزرها، كما يشتهي النظام السوري، لقرية صغيرة كالزارة، وكبيرة على أن يستوعبها أولئك الواثقون بوعود النظام السوري.
من مقتضيات الوطنية في "سوريا الأسد" ألا يقتل المواطنون بعضهم بعضاً تحت أي ذريعة بما فيها ذريعة الدفاع عن النفس، إلا أن كثيرين من هؤلاء الوطنيين أنفسهم يعودون الى نبش التاريخ، ليقولوا، إن هؤلاء التركمان، أهالي القرية، جاءت بهم السلطنة العثمانية إلى جوار قلعة الحصن الحصينة كحامية عسكرية لتثبيت سلطانها.
على أن هذه الأقوال تحمل اعترافاً مُضمراً بحقيقة الجهة التي فتحت المعركة أصلاً، ذلك أن الجميع في وادي النصارى وريف طرطوس القريب، يعرفون أن أبناء الزارة، لم يهاجموا أحداً ولم يقطعوا طريق أحد بداية الأمر. الزارة الصغيرة بدأت في التعاطف المكتوم مع الثوار السوريين، واستقبال النازحين من حمص وريفها، وربما تمرير الدعم القادم عبر تلكلخ إلى حمص بعد اشتداد المعارك هناك، ثم انتقلت إلى التظاهر، ثم سريعاً جداً إلى الحصار والحرب.
لكن اكتمال الصورة يقتضي القول: إن الزارة لم تتردد لاحقاً حتى في احتضان مسلحين من طرابلس اللبنانية بعد اشتداد المعارك في محيطها، ولم تتردد أيضاً عن مهاجمة قوات النظام، التي لا تزال تقصفها وتقصف بلدة الحصن المجاورة منذ عام ونصف، وهي تستقبل كل أولئك المقاتلين الرافضين المصالحة التي عقدت في تلكلخ.
باختصار، في الزارة، ثمة مقاتلون، وربما ثمة سلفيون أيضاً، على أن هذا لا يغير شيئاً في حقيقة الأمر، ذلك لأن النظام وقوات "دفاعه الوطني" يحاصرون الزارة منذ أشهر طويلة، وهم الذين يهاجمونها اليوم تحت ذرائع معلنة ومستترة، لا أول لها ولا آخر، أما فتيل هذه المعركة بالذات، فكان خط النفط الذي يمر في مزارع القرية.
أولئك "المخربون" فجروا خط النفط واحتجزوا الموظفين الحكوميين، والنفط ليس لبشارالأسد، النفط للوطن، ولو كانوا وطنيين لما فعلوها، هذا ما يقوله النظام السوري وأنصاره. لكن الحقيقة، أن مسلحي المعارضة في الزارة قايضوا النظام على 1800 ربطة خبز مقابل السماح لموظفي الصيانة بالدخول وإصلاح خط النفط، وعندما تخلف النظام عن تنفيذ ما تعهد به، احتجزوا الموظفين وقايضوهم لاحقاً بالخبز.
في سوريا يقايض النظام حياة "مواطنيه" وحقوقهم بالخبز، هنا جذر "المسألة الوطنية" في سوريا، وهذا جذر المسألة في الزارة أيضاً، التي لا يتحدث الإعلام "المغرض"، عنها كما تستحق، في غمرة "جنيف2" ومعارك القلمون.
ويزج النظام السوري بالشبان المنضوين تحت لواء قوات "الدفاع الوطني" في أحراش الزارة الوعرة، حيث يلقى أغلبهم الموت.
إذ يذهب مئات الشبان إلى القتال ضد ثوار الزارة مدفوعين بالفقر والتضليل والوهم، وقاتل أبناء الزارة ببسالة منقطعة النظير دفاعاً فقط عن توقهم الى الحياة.
واليوم، أعلن النظام السوري سيطرته على قرية الزارة، كمقدمة لإخضاع أبنائها لسلطانه. في المقابل، لقنت الزارة النظام درساً على طريقتها، درساً وقوده لحم أبنائها ودماؤهم وخبزهم المسروق، ووقوده لحم أبناء طرطوس، وريفها ودماؤهم وأحلامهم المحبوسة في الخوف.