لا أعرف لماذا شعرتُ كأنني سلحفاة تراقب خسةً قبل أن تبدأ بالتهامها، عندما قررتُ أن أذهب سيراً على القدمين إلى عملي، قبل الدوام بساعتين. تركتُ السيارة والدراجتين (الهوائية والنارية) مركونة في أماكنها المعتادة. ومشيت.
المسافة المفترضة بين البيت والعمل، لا تتعدى الثلاثين دقيقة في الأحوال العادية. في هذا اليوم الصيفي، كانت الرطوبة منخفضة، وشعرتُ بحاجة حقيقية إلى تحريك مفاصلي. خرجتُ من زاروب الحي، باتجاه زواريب أخرى، وتعمّدتُ الابتعاد عن الشوارع الرئيسية قدر المستطاع. لم أضع سمّاعات الهاتف للاستماع إلى الموسيقى. أردتُ التقاط "أنغام" الشارع ومن بينها أصوات بائعي الخضار، وحوارات النساء فوق الشرفات، والنداءات المتكررة لفتى "الدليفري" من أجل جلب أغراض من الدكان القريب، وضوضاء الأولاد الذين يلعبون في مداخل الأبنية.
أردتُ أن ألتهم ببطء كل صوتٍ وكل مشهدٍ وقعتُ عليه في الشوارع التي تعوّدتُ أن أمرّ بها مسرعاً على دراجتي (الهوائية أو النارية)، دون ان أعير اهتماماً لأيٍ من تفاصيلها.
أخرج من منطقة رأس النبع، سالكاً تقاطع السوديكو المزدحم، لأغوص من جديد في الزواريب القديمة لمنطقة الأشرفية، حيث ارتفعت لافتة تقول: "حي ذو طابع تراثي". المنطقة هادئة إلى حدٍ ما، بعكس محيطها. يعود ذلك لأسباب عدة، منها هجرة بعض أهلها، وتحوّل عددٍ من منازلها إلى مطاعم ليلية تتميز ببنائها القديم، المزيّن بالزخارف والقناطر. كما يعلو بعضها قرميد أحمر مثل ذاك الذي اعتدنا أن نراه في المنازل الجبلية، أو في كتب القراءة. وهذه منازل يعود بناؤها لفترات مختلفة من القرنين الماضيين، وتنتمي إلى مدارس مختلفة في فن الهندسة المعمارية. توقفتُ مراراً لألتقط صورا لجدران غطتها الطحالب والملصقات الممزقة. ملصقات لحفلات غنائية وحملات انتخابية بهتت ألوانها مع الأيام وتمزّقت فنمت فوقها إعلانات جديدة لغرف طلاب للإيجار.
يجلسُ أمام دكانه شبه الخالي. اعتدتُ أن أشتري منه علبة دخان عند مروري السريع. خطر لي أن تجاعيد وجهه تشبه زواريب بيروت، وأن ذاكرته مثل زحمتها التي لا تنتهي. فهو ينتظر من يلقي عليه التحية، ليفيض عليه بأكثر منها، وليقصّ أخبار زاروبه قبل الحرب، وخلالها، وقصص أشياء كثيرة أخرى.
أكمل سيري البطيء، تاركاً خلفي زواريب تنتظر من يأتي ليبدّل ما بقي منها بأبراجٍ من الإسمنت والزجاج. أتجه نحو أحياء أخرى، لها معالم مختلفة، وحكايات أخرى. وأنا مثل السلحفاة أكمل طريقي بينها، دون أن أكتفي منها، على أمل ألاّ أصل متأخراً إلى العمل.
اقــرأ أيضاً
المسافة المفترضة بين البيت والعمل، لا تتعدى الثلاثين دقيقة في الأحوال العادية. في هذا اليوم الصيفي، كانت الرطوبة منخفضة، وشعرتُ بحاجة حقيقية إلى تحريك مفاصلي. خرجتُ من زاروب الحي، باتجاه زواريب أخرى، وتعمّدتُ الابتعاد عن الشوارع الرئيسية قدر المستطاع. لم أضع سمّاعات الهاتف للاستماع إلى الموسيقى. أردتُ التقاط "أنغام" الشارع ومن بينها أصوات بائعي الخضار، وحوارات النساء فوق الشرفات، والنداءات المتكررة لفتى "الدليفري" من أجل جلب أغراض من الدكان القريب، وضوضاء الأولاد الذين يلعبون في مداخل الأبنية.
أردتُ أن ألتهم ببطء كل صوتٍ وكل مشهدٍ وقعتُ عليه في الشوارع التي تعوّدتُ أن أمرّ بها مسرعاً على دراجتي (الهوائية أو النارية)، دون ان أعير اهتماماً لأيٍ من تفاصيلها.
أخرج من منطقة رأس النبع، سالكاً تقاطع السوديكو المزدحم، لأغوص من جديد في الزواريب القديمة لمنطقة الأشرفية، حيث ارتفعت لافتة تقول: "حي ذو طابع تراثي". المنطقة هادئة إلى حدٍ ما، بعكس محيطها. يعود ذلك لأسباب عدة، منها هجرة بعض أهلها، وتحوّل عددٍ من منازلها إلى مطاعم ليلية تتميز ببنائها القديم، المزيّن بالزخارف والقناطر. كما يعلو بعضها قرميد أحمر مثل ذاك الذي اعتدنا أن نراه في المنازل الجبلية، أو في كتب القراءة. وهذه منازل يعود بناؤها لفترات مختلفة من القرنين الماضيين، وتنتمي إلى مدارس مختلفة في فن الهندسة المعمارية. توقفتُ مراراً لألتقط صورا لجدران غطتها الطحالب والملصقات الممزقة. ملصقات لحفلات غنائية وحملات انتخابية بهتت ألوانها مع الأيام وتمزّقت فنمت فوقها إعلانات جديدة لغرف طلاب للإيجار.
يجلسُ أمام دكانه شبه الخالي. اعتدتُ أن أشتري منه علبة دخان عند مروري السريع. خطر لي أن تجاعيد وجهه تشبه زواريب بيروت، وأن ذاكرته مثل زحمتها التي لا تنتهي. فهو ينتظر من يلقي عليه التحية، ليفيض عليه بأكثر منها، وليقصّ أخبار زاروبه قبل الحرب، وخلالها، وقصص أشياء كثيرة أخرى.
أكمل سيري البطيء، تاركاً خلفي زواريب تنتظر من يأتي ليبدّل ما بقي منها بأبراجٍ من الإسمنت والزجاج. أتجه نحو أحياء أخرى، لها معالم مختلفة، وحكايات أخرى. وأنا مثل السلحفاة أكمل طريقي بينها، دون أن أكتفي منها، على أمل ألاّ أصل متأخراً إلى العمل.