سمك المرزوقي وبصل السبسي

06 ديسمبر 2014

تونسي يتابع أخبار الحملات الانتخابية (23 نوفمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

دخلت الحملة الانتخابيّة في تونس منعرجاً، قادها، مباشرة، إلى مطبخ الرئيس المنصف المرزوقي، بعد تسريب الفواتير المتعلّقة بنفقات الشراب والطعام.. والسمك! والمضحك أنّ التسريبات تجاوزت دردشة العامّة في مواقع التواصل الاجتماعيّ، وتحوّلت إلى حجج وبراهين عن "فساد ماليّ مؤكّد"، يروّجها قياديّون من "نداء تونس" وصحفيّون محترفون، أو (منحرفون عن ميثاق شرف المهنة).. وقبل ذلك التسريب بيوم، ظهر انشغال المترشّح الباجي قايد السبسي بمطبخ التونسيّين البسطاء، وبكى أمامهم في سوق شعبيّة، على أسعار "بقلها وفومها وقثائها وعدسها وبصلها"، ما يؤكّد أنّ القائمين على حملته مرّوا إلى خطط جديدة، تقوم على المقارنات المثيرة للضحك، حتّى يعرف الناخبون الفرق بين المتنافسيْن، فيستبدلوا "الذي هو أدنى بالذي هو خير"!

هكذا تكتمل الصورة، لكنّها كاريكاتوريّة إلى حدّ مبالغ فيه، فلا يصدّق أحد في تونس أنّ المرزوقي يمكن أن يسرق أموال شعبه الفقير، أو يهرّب المليارات إلى البنوك الأوروبيّة، كما فعل بن علي وبعض أعوانه وأصهاره.. ولو سرق الرئيس، لوجدوا بسهولة ما يورّطه، ما داموا قادرين على تسريب فواتير النفقات على المآدب والضيوف الذين أكلوا سمكاً بآلاف الدنانير، بدل أن يأكلوا حساءً قليل الدسم.

ومع ذلك، تعبر بساطة الأفكار الجديدة وسذاجتها عن مخطّط فاشل، يستهدف الأوساط الشعبيّة لخداعها بمثل ذلك التلفيق. وفي هذا السياق، يلاحظ المتجوّل في شوارع العاصمة، وبعض المدن الكبرى، معلّقات إعلانيّة، أنفقت عليها أموال طائلة، للتأثير على الناخبين بالأفكار التبسيطيّة التي تختزل المرحلة الانتقاليّة المؤقّتة في نتائج أو إخفاقات، باستعمال صور كتبت عليها بالبنط العريض عناوين مستفزّة، من قبيل  "الوسخ المؤقّت"، و" العنف المؤقّت" و"الفقر المؤقّت"، وكلّها إشارات إلى سنوات حكم الترويكا التي شهدت تقلّبات وصراعات مريرة، لإسقاطها، وإقصائها عن السلطة، بوسائل منها ضرب الاقتصاد، وتعطيل الخدمات والعبث بهيبة الدولة ورموزها.

والجديد، في هذا المسلسل الرديء، يستهدف المرزوقي، بوصفه (المؤقّت الوحيد) الذي ما زال يحافظ على منصبه. ولكنّه لم يعد يصلح للمشهد الحاليّ، بمنطق خصومه الذين طالبوا باستقالته، لأنّ "شرعيّته زالت بزوال المجلس التأسيسيّ الذي انتخبه". ويتعارض هذا المنطق مع وجود المؤسّسات التي انبثقت، بدورها، من المجلس السابق، ومنها الهيئة العليا للانتخابات، ومع التشريعات التي خطّها النوّاب المؤسّسون وعلى رأسها الدستور الجديد.

ولكنّ الغلبة كانت لمنطق الإقصاء والتجاوز، بتغييب الرئيس المرزوقي عن الجلسة الممتازة للمجلس النيابيّ الجديد. فمثّلت تلك السابقة رسالةً رمزيّةً، لا تخلو من سماجةٍ، واستجابة لرغبات مستمرّة تحاول ما استطاع أصحابها التقليل من أدوار الرجل، وإقصاءه عن المواعيد الوطنيّة التي تعتبر محطّات استراحة، تهدأ فيها النفوس، وتنخفض معها حدّة التوتر السياسيّ، الهدف الذي يجمّع أحزاباً ومنظّمات في المجتمع المدنيّ.

وقد أثار ذلك الغياب موجة من التعليقات والتساؤلات في الأوساط السياسيّة والصحفيّة، وبعضها لم يخل من تبريراتٍ على صلة بالصراع بين المرزوقي ومنافسه قايد السبسي، اختزلها عدنان منصر مدير حملة المرزوقي بقوله: "يفترض أنّنا ندير دولة، بمؤسّساتها ونواميسها، وليس مزرعة عائلية، ولكنّ منطق المزرعة العائلية العائد إلينا من الماضي الكريه يروق لناسٍ كثيرين فيما يبدو".. ولعلّ منصر لا يستثني مصطفى بن جعفر، في إشارته إلى الناس الذين يروق لهم منطق المزرعة، لأنّ حديثه عن الأسباب البروتوكوليّة التي حالت دون توجيه الدعوة للرئيس المرزوقي لم يقنع أحداً، وحجّته تتعارض، بوضوح، مع المفهوم الاصطلاحيّ للبروتوكول، أيّ المراسم التي تشمل ما ينبغي مراعاته "من قواعد المجاملة الراسخة التي تحدّد السلوك السليم فيما يتعلّق بأصول الدبلوماسية وشؤون الدولة، كإظهار الاحترام المناسب لرئيسها..."

وبناء على ما تقدّم، نلاحظ كيف تتوالى التجاوزات، خدمة لقايد السبسي ولحزبه نداء تونس. فبعد أنْ وقع تجاهلُ الدستور بخصوص آجال التكليف لتشكيل الحكومة، خُرق، ثانيةً، باتفاق أغلبيّة النواب على تأجيل انتخاب رئيس البرلمان، في جلسته الافتتاحيّة، لتُستأنف المشاورات الرامية إلى مقايضة المناصب العليا في الدولة مع ضماناتٍ تتعهّد بها القوى السياسيّة الكبرى، لمساعدة قايد السبسي على الفوز بمنصب الرئاسة. وخُرق القانون الانتخابيّ بلافتاتٍ إعلانيّةٍ مستفزّة، تستبق الحملة الانتخابيّة للجولة الثانية. وأُلغي البروتوكول الذي يراعي الأصول والآداب في التعامل مع رموز الدولة. وتُمارس مع تلك التجاوزات ضغوطٌ كبيرة على فريق المرزوقي، لسحب طعونه، وعدم استئنافها حتّى تُقتصرَ المسافات، وتنظّم الانتخابات في أقرب الآجال، بدعوى أنّ مصلحة البلاد لا تحتمل مزيداً من التمديد للوضع المؤقّت الذي لا يمثّله، اليوم، إلاّ الرئيس المنتهية ولايته.

لكنّ المرزوقي لم يستجب لضغوط الحوار الوطنيّ، ولم يرضخ لوساطة الغنوشي، ولم يقتنع بفكرة التعجيل بالجولة الثانية التي تتبنّاها الهيئة العليا للانتخابات، فتمسّك بكلّ حقوقه القانونيّة في تقديم الطعون واستئنافها، لإرهاق خصمه العَجول الذي خذلته قواه، في منتصف الطريق، ولم يعد قادراً على تحمّل طول الرحلة إلى قصر قرطاج. ولذلك، كثرت هفواته وزلاّت لسانه، في الفترة الأخيرة. وانزلقت حملته إلى مستوى الدسائس والتسريبات الملوّثة برائحة السمك... وتلك البضاعة الفاسدة لا تقنع التونسيّين الذين يفضّلون مناظرة راقية، تجمع بين المترشّحيْن، لتعيد التنافس الديمقراطيّ إلى قواعده وأصوله المرعيّة. فهل سيستجيب قايد السبسي لدعوة المرزوقي التي تبقى قائمة، أم أنّه سيكتفي بدموع البصل، وما يُحضّر في مطابخ القوى السياسيّة التي تغازله وتناصره، وتنتظر ولائمه؟

42AEC1D7-8F5A-4B18-8A1C-9045C7C42C2B
عبد الرزاق قيراط

كاتب وباحث تونسي من مواليد 1965. من مؤلفاته كتاب "قالت لي الثورة" سنة 2011. وكتاب "أيامات الترويكا" سنة 2014. له مقالات متنوعة بصحف ومواقع عربية عديدة.