تستحضر سناء تراثاً غنائياً بحيوية ومثابرة، وهذا ما يرحب به المتلقي، لكن ذلك لن يكون كافياً للتعويل عليه طوال الوقت، الأمر الذي تدركه سناء جيداً، وعليه كانت "الصفقة" مفادها: مثلما لديك توقعاتك، فلك أن تقبل اقتراحاتي في تعديل النص التراثي، بما يضيئه، أكثر من إصدار نسخة إضافية منه طبق الأصل.
في هذا الحيز الفني، حققت المغنية قبولاً جيداً، منذ أسطوانتها الأولى "إشراق" إلى الأخيرة "هاجس". وفي الحفل الذي نظمته مجموعة الروزنا الشبابية الفلسطينية، قدمت سناء أداءً أكثر تنوعاً، حتى في الأغاني القديمة التي أعادتها بناءً على رغبتها، أو رغبة الجمهور.
غنت من تراث وطني سياسي يعود إلى قرن إبان الاستعمار البريطاني (طلّت البارودة)، أو حديث كما هي الحال مع أغنية "هدّي يا بحر هدّي، طوّلنا في غيبتنا" لمنشد الثورة الفلسطينية "أبو عرب"، وهذه أغنية واسعة الانتشار ارتبطت بالنكبة الفلسطينية العربية وما بعدها.
كما غنّت من تراث اجتماعي لا تحدد حقبته التاريخية، في الحب والأرض والمجتمع البسيط، مثل "منديلي ضاع يا حلو" أو تلك الخلطة الغنائية من أقصى شمال إلى أقصى جنوبها، التي تنتسب إلى بيئات متعددة في هوية واحدة، مثل "يا زارعين السفرجل حول أراضينا، يخضرّ ويصفرّ وانتو تواعدوا فينا". فهذه قد تنشأ في منطقة سفرجلية، لتطلق طبعة أخرى وتبدل السفرجل بالعنب.
أو أغنية "يا واردة عالميّ اسقيني بديّاتك.. عطش ما فيي عطش قصدي محاكاتك"، أو "مدي ديّاتك يا مريم يا هي، قومي تا نحطّب يا مريم يا هي".
بالطبع، فإن الهوية ذاتها قد تكون فلسطينية خالصة، يحددها الظرف التاريخي، أو منتسبة لهوية شامية واسعة. وفي كل هذا يأتي الاقتراح الفني من سناء موسى، والأسماء التي كان لها دور تأسيسي وفي مقدمتهم الموسيقار سيمون شاهين، ليقول شيئاً مختلفاً، محمولاً على موسيقى مختلفة.
يحيط بسناء عازفو العود والناي والقانون والإيقاع، وكان يفترض حضور عازف الكونتراباص، لكن حضرت آلته على المسرح، بينما لم يحضر العازف القادم من اليونان إلى الدوحة، بعد أن باغتته وعكة صحية.
وبدت المغنية في الحفل أكثر ثقة في ما لديها، تلك الثقة الناتجة عن خبرة تفصل اللقاء الأول مع جمهورها في الدوحة عام 2012 عن هذا العام. فقد غنّت سناء في عشرات المناطق في فلسطين وفي دول خارجها، وأصبحت الأغنيات التي غُني بعضها قبل أزيد من عشر سنوات ذات هوية سنائية، مع أنها متوافرة على الإنترنت بطبعات مختلفة، قديمها وجديدها.
إلا أن الباحث عن هذه الأغنيات التراثية، سيجد حكماً حضورها أكثر لدى هذه الفنانة، التي قدمتها لأول مرة بتوزيع موسيقي مختلف، وفي أداء مختلف. البيانو دخل مبكراً، وأعطى منذ أول مرة مذاقاً جديداً لأغنية تراثية، تستخدم في الدارج أدواتها المحلية.
في تجربة الأمس، حضرت حصة مقدرة من العزف المنفرد. حتى الجمهور الذي حدد قائمة أغانيه عن ظهر قلب، وجد نفسه أمام استعراضات "صولو" للقانون والناي، والإيقاع، وكانت موفقة وانتزعت التصفيق مطولاً.
غنت سناء من أسطوانة "إشراق" "نيالك ما أهدى بالك يا طير البيت، جبت السعد لحالك وانا ظليت"، و"غابتلنا الشمس يا ابن شعلان، واريد اروح على بلادي، قلبي من شوقي لها انقطع، وديني اشوف احبابي".
ومن "هاجس" التي أطلقتها في 2016 "يا رايح الشام على مهلك"، وموال "يا طارش الدرب لا سلّم ولا كلّم"، و"لفّي محرمتك" من كلمات جدتها وطفة، التي رددتها الجدة إبان رحيلها عن قريتها إلى لبنان عام 1948.
وأخيراً لا بدّ من "طلت البارودة والسبع ما طل" التي طلبها الجمهور، ذلك أن الفقد المؤلم للشهداء، بات دارجاً باللهجات الدارجة وفصائل الدم الواحد.