31 أكتوبر 2024
سورية.. الحدود والطرق القاتلة
من البوكمال في أقصى الشرق إلى درعا جنوبا، يتموضع هلال مدن عربية مدمّرة، تفوح منها رائحة الخراب، ويصارع ما تبقى من سكانها بالتمسك بأهداب متقطعة لحياة غير مضمون غدها، وليس ثمة أمل بأفق أفضل، غير الحروب المتناسلة وسيطرة قوى الشر.
في قلب هذه الحياة المنطفئة، تزدهر المشاريع الجيوسياسية للقوى الكبرى والإقليمية، وباتت تتجمع في سورية القوى الخمس الكبرى، بالإضافة إلى القوى الإقليمية، حيث تتزاحم هذه القوى على ما يظهر أنه هوامش جغرافية لم يسبق أن وطأتها الحداثة، ولم تدخل يوماً في قائمة المواقع الاستراتيجية النافعة.
عقودا عدة، احتلت هضبة الجولان المرتبة الأولى في تصنيف الأمكنة ذات الأهمية الاستراتيجية الأولى في سورية، بل يمكن القول إنه تم اعتبارها المنطقة الوحيدة التي تستحق لقب الاستراتيجية، لإشرافها على سورية والأردن ولبنان وفلسطين، عبر جبل الشيخ المطل عليها. في ذلك الوقت، كان الشرق الأوسط لا يعني سوى إسرائيل والنفط، في ذهنية صناع الاستراتيجيات العالمية.
المنطقة الأخرى، والأخيرة، كانت قصر الرئاسة في دمشق، نظرا لأدوار لعبها الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، إذ شكّل أحد الروافد المهمّة في تنفيذ السياسة الأميركية في المنطقة، سواء في ضبط التفاعلات على الساحة اللبنانية، ودعم مشروع إدامة الحرب العراقية - الإيرانية، أو بإخراج سورية باعتبارها ساحة مقاومة لإسرائيل، وتحويلها إلى ساحة تفاوضية، تسند سلطته العائلية.
غير أن الجسد السوري سيتفتق، بعد الثورة، عن عشرات المواقع الاستراتيجية، البوكمال، التنف، منبج، إدلب، القصير، ودرعا والقنيطرة، وسواها، وتحتاج كل منطقة إلى حربٍ أو حروب لتوضيح صورة السيطرة عليها، وإعادة تقييمها استراتيجياً في ضوء المتغيرات الجديدة. وبذلك، تعيد سورية التخطيط الاستراتيجي العسكري إلى مراحله الأولى، حينما كان يتم اختصاره بعمليات السيطرة على أوراسيا، وشكلت مناطق القوقاز "حوافّ أوروبا وآسيا" قلبه الحيوي. وفي ذلك الحين، ظهرت نظرية الهارتلاند، قلب العالم، التي تدّعي أن من يسيطر على تلك المنطقة يسيطر على العالم، وبما أن تلك المناطق كانت معزولةً عن البحار والمحيطات، فإن القوى البرية، كروسيا وألمانيا، كانت الأكثر كفاءة في العمل فيها.
وبعد تقاعد طويل، وبسبب سيادة القوى البحرية، فرنسا وبريطانيا ثم أميركا، تعود أهمية البر وحوافه إلى واجهة الجيوبولتيك الدولي. وعلى الرغم من أن هذا السياق لم يكن مكتشفا، أو ربما لأن الأمور كانت تجري، بشكل انسيابي، وعبر ترتيبات إقليمية عادية، فإن تفجّر الثورة السورية والصراعات التي تناسلت عن هذا الحدث فتحت العيون على واقع جديد.
ظل سؤال لماذا الصراع على سورية، يشغل بال كثيرين، ذلك أن التقييم الاستراتيجي من الصعب أن يعطي أهميةً لبلد لا يملك ثرواتٍ كثيرة مصنفة استراتيجيا، النفط والغاز، وليس لديه ممرّات مائية، ولا حتى إطلالات بحرية حاكمة، فأين إذاً السر والأهمية؟
ليس سرا أن لسورية حدودا وبوابات ذات أهمية استراتيجية عالية، فهي تحد حلف الأطلسي وأوروبا من جهة الشمال عبر تركيا، وتحد دولة الاحتلال الإسرائيلي من جهة الجنوب، والخليج العربي عبر البوابة الأردنية، ومن الشرق والغرب تحيط بها المصالح الإيرانية في العراق ولبنان.
وغير الحدود، تملك الطرق البرية السورية، على الرغم من عدم حداثتها، أهمية خاصة، لما تملكه من تأثير، سواء على صعيد التواصل والاتصال الجغرافي وبالتبعية التفاعل الاقتصادي في المنطقة، أو لجهة إمكانية التأثير في المعادلات العسكرية في المنطقة، وخصوصا في ما يتعلق بإيران وإسرائيل.
ولعل ما جعل الصراع يأخذ طابعاً صفرياً في سورية حقيقة انعدام البدائل الاستراتيجية، أو ارتفاع تكلفتها بدرجة باهظة، نزولا عند حقيقة حاكمية الجغرافية السورية، وموقعها الحاسم في التواصل الجغرافي الإقليمي، فهي الممر البري الوحيد للعالم العربي، وخصوصا المشرق والخليج ومصر، إلى أوروبا. وهي بوابة لبنان العربية، وبوابة العرب البرية إلى لبنان. وبوابة تركيا إلى العالم العربي والعكس. وهي طريق إيران إلى البحر المتوسط ولبنان. وفي الحسابات الإسرائيلية المستقبلية، طريق إسرائيل البري إلى تركيا وأوروبا.
وقد انعكست هذه المعطيات على استراتيجيات الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع، ورأت روسيا أنها أمام فرصة للسيطرة على المعادلات وتوظيفها لحسابها من باب
التحكم بالبوابات والطرق. لذا تصر على تغيير الوقائع في القصير ودرعا لمصلحتها، أما أميركا فرأت مصلحتها في إغلاق الطرق البرية بين العراق وسورية، والحصول على تأثير مهم في الجنوب.
وتحاول تركيا الإمساك بناصية الشمال والشرق ما أمكن، سواء بدعمها قوى المعارضة أو عبر انخراط قواتها مباشرةً في إدارة مناطق الحدود، وتستقتل إيران في السيطرة على حدود سورية مع العراق ولبنان، وتأمين الطرق الواصلة بينهما.
ولتثبيت السيطرة على الحدود والطرق في سورية، تجري محاولات حثيثة لتغييرٍ ديمغرافي، بغرض تكريس الوقائع، فالمعلومات الواردة من الشرق تفيد بأن إيران تحاول شراء البوكمال عقاريا، مثلما تحاول تركيا إفراغ عفرين من سكانها الأصليين. غير أن الخبرة التاريخية، ومعطيات الواقع الديمغرافي في سورية، توضح أن تحقيق هذا التغيير قد يحتاج حوالي عقدين، حتى يصبح واقعاً، فإننا أمام حرب مديدة، المتوقع أن تنهك جميع أطرافها من دون الوصول إلى أهدافها، فالمتغيرات جاريةٌ ومواقع الأطراف سريعة التبدّل، كما أن الأطراف مستنزفةٌ بدرجة كبيرة.
في قلب هذه الحياة المنطفئة، تزدهر المشاريع الجيوسياسية للقوى الكبرى والإقليمية، وباتت تتجمع في سورية القوى الخمس الكبرى، بالإضافة إلى القوى الإقليمية، حيث تتزاحم هذه القوى على ما يظهر أنه هوامش جغرافية لم يسبق أن وطأتها الحداثة، ولم تدخل يوماً في قائمة المواقع الاستراتيجية النافعة.
عقودا عدة، احتلت هضبة الجولان المرتبة الأولى في تصنيف الأمكنة ذات الأهمية الاستراتيجية الأولى في سورية، بل يمكن القول إنه تم اعتبارها المنطقة الوحيدة التي تستحق لقب الاستراتيجية، لإشرافها على سورية والأردن ولبنان وفلسطين، عبر جبل الشيخ المطل عليها. في ذلك الوقت، كان الشرق الأوسط لا يعني سوى إسرائيل والنفط، في ذهنية صناع الاستراتيجيات العالمية.
المنطقة الأخرى، والأخيرة، كانت قصر الرئاسة في دمشق، نظرا لأدوار لعبها الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، إذ شكّل أحد الروافد المهمّة في تنفيذ السياسة الأميركية في المنطقة، سواء في ضبط التفاعلات على الساحة اللبنانية، ودعم مشروع إدامة الحرب العراقية - الإيرانية، أو بإخراج سورية باعتبارها ساحة مقاومة لإسرائيل، وتحويلها إلى ساحة تفاوضية، تسند سلطته العائلية.
غير أن الجسد السوري سيتفتق، بعد الثورة، عن عشرات المواقع الاستراتيجية، البوكمال، التنف، منبج، إدلب، القصير، ودرعا والقنيطرة، وسواها، وتحتاج كل منطقة إلى حربٍ أو حروب لتوضيح صورة السيطرة عليها، وإعادة تقييمها استراتيجياً في ضوء المتغيرات الجديدة. وبذلك، تعيد سورية التخطيط الاستراتيجي العسكري إلى مراحله الأولى، حينما كان يتم اختصاره بعمليات السيطرة على أوراسيا، وشكلت مناطق القوقاز "حوافّ أوروبا وآسيا" قلبه الحيوي. وفي ذلك الحين، ظهرت نظرية الهارتلاند، قلب العالم، التي تدّعي أن من يسيطر على تلك المنطقة يسيطر على العالم، وبما أن تلك المناطق كانت معزولةً عن البحار والمحيطات، فإن القوى البرية، كروسيا وألمانيا، كانت الأكثر كفاءة في العمل فيها.
وبعد تقاعد طويل، وبسبب سيادة القوى البحرية، فرنسا وبريطانيا ثم أميركا، تعود أهمية البر وحوافه إلى واجهة الجيوبولتيك الدولي. وعلى الرغم من أن هذا السياق لم يكن مكتشفا، أو ربما لأن الأمور كانت تجري، بشكل انسيابي، وعبر ترتيبات إقليمية عادية، فإن تفجّر الثورة السورية والصراعات التي تناسلت عن هذا الحدث فتحت العيون على واقع جديد.
ظل سؤال لماذا الصراع على سورية، يشغل بال كثيرين، ذلك أن التقييم الاستراتيجي من الصعب أن يعطي أهميةً لبلد لا يملك ثرواتٍ كثيرة مصنفة استراتيجيا، النفط والغاز، وليس لديه ممرّات مائية، ولا حتى إطلالات بحرية حاكمة، فأين إذاً السر والأهمية؟
ليس سرا أن لسورية حدودا وبوابات ذات أهمية استراتيجية عالية، فهي تحد حلف الأطلسي وأوروبا من جهة الشمال عبر تركيا، وتحد دولة الاحتلال الإسرائيلي من جهة الجنوب، والخليج العربي عبر البوابة الأردنية، ومن الشرق والغرب تحيط بها المصالح الإيرانية في العراق ولبنان.
وغير الحدود، تملك الطرق البرية السورية، على الرغم من عدم حداثتها، أهمية خاصة، لما تملكه من تأثير، سواء على صعيد التواصل والاتصال الجغرافي وبالتبعية التفاعل الاقتصادي في المنطقة، أو لجهة إمكانية التأثير في المعادلات العسكرية في المنطقة، وخصوصا في ما يتعلق بإيران وإسرائيل.
ولعل ما جعل الصراع يأخذ طابعاً صفرياً في سورية حقيقة انعدام البدائل الاستراتيجية، أو ارتفاع تكلفتها بدرجة باهظة، نزولا عند حقيقة حاكمية الجغرافية السورية، وموقعها الحاسم في التواصل الجغرافي الإقليمي، فهي الممر البري الوحيد للعالم العربي، وخصوصا المشرق والخليج ومصر، إلى أوروبا. وهي بوابة لبنان العربية، وبوابة العرب البرية إلى لبنان. وبوابة تركيا إلى العالم العربي والعكس. وهي طريق إيران إلى البحر المتوسط ولبنان. وفي الحسابات الإسرائيلية المستقبلية، طريق إسرائيل البري إلى تركيا وأوروبا.
وقد انعكست هذه المعطيات على استراتيجيات الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع، ورأت روسيا أنها أمام فرصة للسيطرة على المعادلات وتوظيفها لحسابها من باب
وتحاول تركيا الإمساك بناصية الشمال والشرق ما أمكن، سواء بدعمها قوى المعارضة أو عبر انخراط قواتها مباشرةً في إدارة مناطق الحدود، وتستقتل إيران في السيطرة على حدود سورية مع العراق ولبنان، وتأمين الطرق الواصلة بينهما.
ولتثبيت السيطرة على الحدود والطرق في سورية، تجري محاولات حثيثة لتغييرٍ ديمغرافي، بغرض تكريس الوقائع، فالمعلومات الواردة من الشرق تفيد بأن إيران تحاول شراء البوكمال عقاريا، مثلما تحاول تركيا إفراغ عفرين من سكانها الأصليين. غير أن الخبرة التاريخية، ومعطيات الواقع الديمغرافي في سورية، توضح أن تحقيق هذا التغيير قد يحتاج حوالي عقدين، حتى يصبح واقعاً، فإننا أمام حرب مديدة، المتوقع أن تنهك جميع أطرافها من دون الوصول إلى أهدافها، فالمتغيرات جاريةٌ ومواقع الأطراف سريعة التبدّل، كما أن الأطراف مستنزفةٌ بدرجة كبيرة.