11 نوفمبر 2024
سورية.. الحل السياسي في زمن الاحتلال الإيراني
بينما يسعى مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، إلى جمع أطراف المعارضة السورية على برنامج حوار لا يعرف أحد مآله وماذا ينتظره فيه، يعمل الإيرانيون، بأقصى ما يستطيعون من عزيمة وسرعة، لاستغلال التردد والغموض والتجاذبات القوية في الموقف الدولي، من أجل تكريس أمر واقع على الأرض السورية، يضمن ما يعتبرونها مصالحهم الاستراتيجية في المستقبل، من دون أدنى مراعاة حتى لمصالح حليفهم الأسد في الحفاظ على الحد الأدنى من مظاهر السيادة والاستقلال. فبعد أن وضعوا يدهم على مقاليد السلطة والأمر العسكري في سورية، من خلال تقديم المليشيات الطائفية و"الحشود الشعبية" وتمويلها وتدريبها على حساب تطوير الجيش السوري، وسيطرتهم على قطاعات عسكرية عديدة، وعلى غرف العمليات في جبهات القتال، وجديدها ما نشرته الصحافة، في الأسبوع الماضي، من وثائق عن وضع اللواء 47 دبابات المتمركز في ريف حماة تحت سيطرة الحرس الثوري الإيراني، بقرار من وزير دفاع الأسد، يبدون الآن في عجلة من أمرهم لتوسيع دائرة حضورهم المادي والبشري في المناطق والمدن الاستراتيجية التي يعتقدون أن عليهم الحفاظ عليها مستقبلاً، في إطار تقسيم محتمل لسورية، وتشكيل محمية إيرانية على شاطئ المتوسط الشرقي.
سورية من دون سوريين
في هذا السياق، تدخل حرب الإيرانيين المستمرة في القلمون منذ أشهر طويلة، وفيه يبرز تمسكهم في مفاوضات الهدنة التي جمعتهم مع وفد من "أحرار الشام" بإخلاء الزبداني وكامل مدن وقرى الغوطة الشرقية ووادي بردى من سكانه "السنة"، لإعداده لعملية استيطان جديدة بسكان يدينون لهم بالولاء، من المذهب الشيعي، عرباً كانوا أو آسيويين. وفي هذا السياق أيضاً، يأتي إعلان "مواليهم" من نظام الأسد، في الأسبوع الماضي، عن بدء تنفيذ مشاريع في المدن المستهدفة، في حمص ودمشق خصوصاً، تدخل تحت مسمى تنظيم المدن وإعادة الإعمار، وهي، في الواقع، مشاريع مقنعة لعمليات التطهير العرقي وتغيير البنية السكانية للمناطق.
وقد نشرت صفحة "دمشق الآن"، المحسوبة على أحد أفرع مخابرات النظام، قبل أيام، صوراً لتصميمات مشروع إعادة إعمار حمص الذي سيقام على مساحة 217 هكتاراً، ويضم 465 مقسما سكنيا، إضافةً إلى مباني الخدمات "المشافي والمدارس والمباني الاستثمارية والتجارية والترفيهية"، وهو يشمل "إعادة إعمار" أحياء بابا عمرو وجوبر والسلطانية، وهي مناطق كانت قد دمرت بالكامل، وهجر أهلها، ومنعوا من العودة إليها، بعد أن شهدت أبشع مجازر النظام بحق سكانها خلال النصف الأول من 2012.
وفي الوقت نفسه تقريباً، أعلنت محافظة دمشق التابعة لحكومة الأسد عن البدء بتنفيذ ما سمي مشروع حلم دمشق، وفي مقدمه بناء المجمع الإيراني الضخم الذي يغطي مناطق واسعة من حي المزة المكتظ بالسكان وسط العاصمة دمشق. وانطلقت، في اليومين الماضيين، بالفعل عمليات هدم منازل المدنيين في منطقة "بساتين المزة"، بينما منعت قوات الأمن التي كان يرافقها محافظ دمشق السكان من الاقتراب من منازلهم بالقوة، وأخرجت من تبقى في المنازل عنوة، ورمت مقتنياتهم وفرشهم في الشارع. وكان سكان المنطقة قد تلقوا إنذارات بالإخلاء في منتصف يونيو/ حزيران الماضي، فيما لم يتلق السكان، حتى الآن، أي تعويض أو بدل سكن أو منزل للإيجار.
وكانت مليشيات حزب الله، وحليفتها العراقية التي احتلت مدينة القصير، قد منعت سكان هذه المدينة وريفها من العودة إليها، وأحلّت مكانهم مستوطنين من جنسيات أخرى تابعين لها. ولا تزال مدن عديدة في المنطقة وقراها مغلقة على سكانها، ومنها مدينة حمص القديمة التاريخية التي تنتظر من دون شك مشاريع "إعمار" مماثلة. ويأتي هذا الجهد الاستيطاني ليكمل، أو ليعوض عن خسارة مشاريع عديدة، كانت طهران، قد عملت عليها في العقود الثلاثة الماضية، قبل ثورة مارس/آذار 2011، وبنت، في إطارها، مئات المراكز الدينية والحسينيات في مختلف البقاع، وفي أكثر المناطق تجانسا مذهبيا، وذلك لإيجاد وقائع مادية على الأرض، تحفظ نفوذ طهران، وتفرض الأمر الواقع المرتبط بها. وتعتبر منطقة السيدة زينب قرب دمشق مثالا لهذا الاستيطان الجديد الذي حوّل قرية صغيرة إلى مدينة ضخمة، تحتضن أكبر تجمع مذهبي عسكري ومدني طائفي متعدد الجنسيات في المنطقة.
وتستخدم حكومة الحرس الثوري في إيران النظام السوري، بعد أن ورطته في حرب خاسرة، وحشرته في الزاوية، من أجل خلق وقائع جديدة صلبة لا يمكن تغييرها. وهي تستفيد من تعبئة المهاجرين الشيعة في إيران نفسها من الأفغان والباكستانيين وغيرهم، وتستثمر الشعور بنشوة النصر لدى طائفة وجماعات عانت طويلاً من الشعور بالعزلة والهامشية والحرمان، من أجل قلب الأوضاع السياسية داخل المنطقة رأسا على عقب، وإعادة رسم الخرائط الجيوسياسية على حسب مطامعها وأحلامها.
بين إعادة الإعمار والاستيطان
تشكل مجموع هذه النشاطات، من تدمير منهجي للمدن والقرى وتهجير إجباري للسكان وتفريغ البلاد من سكانها، وتوطين أكبر عدد ممكن من الساكنين الأجانب، من إيران وباكستان وأفغانستان ولبنان والعراق والهند وغيرها، وحرمانهم من حقوقهم ومنعهم من العودة وتدمير منازلهم وبيئتهم الطبيعية وحرق قراهم ومحاصيلهم وخصخصة الأملاك العامة وسطو المليشيات الأجنبية عليها، واحتلال منازل الغائبين وإجلاء السكان عن أحيائهم ومدنهم، مهما أطلق عليها من أسماء، ومهما قدم لها من تبريرات، مشروعاً متكاملا للتطهير العرقي والإحلال السكاني وتمديد رقعة الاستيطان، بهدف تمكين دولة أجنبية من السيطرة على مقدرات الشعب السوري، وانتزاع حقه في تقرير مصيره وفرض مصالحها وأجندتها الإقليمية والدولية عليه. وهو إحلال سكاني مرتبط بمخطط استراتيجي للهيمنة الإقليمية، يستخدم جميع الوسائل، وأكثرها همجية ووحشية، من قتل وتمثيل وتعذيب واغتصاب لتحقيق هدفه. وهو يعكس التفكير الاستراتيجي الإيراني الراهن الذي يعتقد أن إبادة سورية العربية الراهنة الطريق الوحيدة من أجل إحلال سورية أخرى محلها، سورية إيرانية، تخضع لطهران وتندمج فيها، وتتحول إلى واحدةٍ من محافظاتها.
وهذا وحده ما يمكن أن يفسر التكتيك الحربي الوحشي الذي استخدمه قادة الحرس الثوري المؤطرون لجيش الأسد ومليشياته، وهو تكتيك لا يبقي فرصة لأي حوار أو تفاهم أو تسوية بين السوريين، ولا يمكن أن يقود إلا إلى تدمير البلاد وتقسيمها. فمن دون التدمير الشامل والمنظم للبئية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، والاستهداف اليومي للمدنيين، والقضاء على كل أمل في الحياة بقصف المشافي والأسواق الشعبية والمدارس، وفرض الحصار والتجويع وقطع الماء والكهرباء ومواجهة السكان بالأسلحة الكيميائية وكل أنواع العنف الممكنة، ما كان من الممكن تفريغ المدن والمناطق من ساكنيها، وتيئيسهم، وقطع أي أمل لهم بالبقاء، وإجبار أكثر من نصف سكان البلاد على الرحيل عن منازلهم ومدنهم، وتركها خاوية لمن يريد أن يستوطنها.
ولا ينفصل هذا المشروع، أيضاً، عن طبيعة الاستراتيجية التي تبنتها قيادة الأسد، بتوجيهات من قادة الحرس الثوري الإيراني وخبرائه، القائمة على عدم الدخول في أي حوار أو تسوية، والاستمرار في الحرب أطول فترة ممكنة، وتعطيل كل المبادرات العربية والدولية. فليس هناك أي ضمانة في أن تنجح سلطة الاحتلال في تغيير الوقائع، وفرض الأمر الواقع الجديد على الأرض، من دون التخفي وراء لهيب الحرب وتبرير خرق كل القوانين والعهود الوطنية والدولية والإنسانية، فمن نافل القول إن حرب كسر العظم التي اتبعتها القوى الحليفة في سورية تجاه الشعب الثائر والمعارض ليست في مصلحة النظام، ولا في مصلحة الطائفة التي يدّعي النظام حمايتها. ولا يوجد مستفيد حقيقي منها سوى سلطة الاحتلال وحلم التوسع الإيراني.
ليس لهذه العمليات الممنهجة أي علاقة بإعادة الإعمار، وليس هناك أي منطق في إطلاق عملية إعادة إعمار من طرف واحد، وبمساعدة الحكومة والشركات الإيرانية وحدها، ولا لبناء مساكن ومَشاف وأسواق، بينما تقوم البراميل المتفجرة والمدفعية والصواريخ الاستراتيجية بتدمير مثيلها كل يوم في جميع المدن والأنحاء السورية. وليس هناك منطق في فرض الأمر الواقع، وتوسيع دائرة الاستيطان للجماعات المرتبطة بطهران، في الوقت الذي يطلق فيه المبعوث الدولي وروسيا مفاوضات التسوية السياسية، إلا إذا كان الهدف قطع الطريق على أي مفاوضات، ودفع المعارضة إلى رفض المشاركة فيها.
ما يحصل تحت اسم إعادة الإعمار هو تأكيد على منطق الحرب، وتوسيع دائرتها لتشمل عمليات التوطين وتجريد السوريين من ملكياتهم، لخدمة أهداف استراتيجية، وهو يعكس سياسة الهرب إلى الأمام، ويشكل برهانا قاطعا على غياب أي إرادة للانخراط في حلول سياسية.
تكاد سياسة "أسد طهران"، وطهران نفسها، تتطابق تماما مع سياسة تل أبيب في فلسطين وتجاه الفلسطينيين الذين لا ترى وسيلة للتعامل معهم سوى الحرب، لإبعادهم وتهجيرهم، أو إخضاعهم لمشيئتها من دون أي تسوية أو تفاهم على حل. وإذا تحدثت عن السلام والمفاوضات، فليس ذلك بهدف التوصل إلى تسويةٍ، تضمن ولو الحد الأدنى من الحقوق السياسية للفلسطينيين، وإنما لكسب مزيد من الوقت، للتمكن من طردهم واستكمال مشروع الاستيطان الكامل لفلسطين، وليس في تصور الإسرائيليين أي مكان للفلسطينيين في فلسطين، باستثناء الاختفاء في تجمعات مغلقة ومعزولة عن بعضها، تماما كما حصل للهنود الأميركيين. وكما تنقض الحكومة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية لتصادرها، وتعلن مشاريع مستوطنات جديدة، رداً على أي عمل فلسطيني قوي ضد الاحتلال، ترسل طهران ودمشق براميلها المتفجرة وآلتها الدموية الرهيبة، لتزرع الدمار والرعب في أي بلدة أو مدينة تخرج عن سيطرتها، لتجبر سكانها جميعاً، أو أغلبيتهم الساحقة على النزوح والهجرة حفاظا على أرواحهم.
وكما الحال في المسألة الفلسطينية، لن يكون لمفاوضات شكلية، تنظم للتغطية على فشل الأمم المتحدة وعلى تعارض المصالح الإقليمية والدولية، أي قيمة، ولا أي دور في وقف العنف وإيجاد حل للنزاع، بمقدار ما سوف تستغل من محور الحرب في طهران ودمشق، لكسب مزيد من الوقت، والتغطية على مشروع التقسيم والاستيطان المرتبط به، قبل وضع السوريين والعالم أمام الأمر الواقع. وعلى الذين يعتقدون أن المفاوضات ربما تخلق دينامكيتها، كما يقول دي ميستورا والمبخّرون لمبادرته، نسوق مثال المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من ربع قرن، من دون أي نتيجة تذكر، سوى تمدد الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية، والمزيد من التعنت والتشدد ضد الفلسطينيين من الساسة والرأي العام الإسرائيليين، وبناء مزيد من جدران العزل العنصري التي يشكل وجودها واستمرارها إدانة للعالم أجمع.
لا حل من دون إرادة دولية قوية
ما لم تبرز إرادة دولية قوية لوضع حد للحرب، وتسمية المسؤول عن استمرارها وإيقاد نارها بالاسم، وتحديد مسؤوليات الأطراف، وإظهار الرغبة في الانخراط الجدي وتقاسم المسؤوليات تجاه محنة الشعب السوري من الأطراف الدولية، وخصوصاً الدول الديمقراطية، لن يكون هناك أي حل، وسوف تتحول المفاوضات إلى سراب يدفع السوريين إلى الركض وراءه من دون أن يجدوا أمامهم سوى الحرب المستمرة، وفي ظلها تحقيق طهران مزيدا من التطهير المذهبي والإثني الذي تسعى إليه في المناطق الاستراتيجية التي تريد البقاء فيها.
والحال، كما حصل بالنسبة لفلسطين، لا تبدي الدول أي إرادة في الانخراط، ولا في تحمل المسؤولية، ولا تبدي أي موقف واضح من أطماع طهران التي هي اليوم الموقدة الرئيسية في نار الحرب، وتكاد هذه الدول تكون فاقدة العزيمة، وراضية عن التضحية بمبدأ الحق والقانون والعدالة، وقابلة للتخلي عن التزاماتها الدولية في مقابل الحفاظ على مصالح سياسية أو تجارية أو استراتيجية، تنطوي عليها العلاقات الحسنة مع طهران وموسكو وبعض العرب الضالين.
وكما أنه لم يوجد من يقول لتل أبيب كفى تهربا وتوسعا واعتداء على حقوق الفلسطينيين، ويتخذ الإجراءات التي تفرضها مواثيق الأمم المتحدة لحماية هذه الحقوق، لم نر اليوم من بين الدول الكبرى والصغرى التي تخفي انتهازيتها وأنانيتها وراء كلمات الحل السياسي المعسولة، من يعترف بما تقوم به طهران في تمديد أمد الحرب الأهلية، لخدمة مصالح لا تخفيها هي نفسها عن أحد، ولا من يطالبها بالتوقف عن اللعب بمصير السوريين، وسحب قواتها ومليشياتها من سورية، وإدانة دفاعها عن رئيس قاصر، دانته جميع تقارير المنظمات الدولية بجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية. وطالما استمرت الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا، في تجاهل حقوق الشعب السوري والتضحية بها، لتعميق تحالفها أو تعاونها أو تفاهمها مع طهران، لن يكون هناك حل، وسوف يستمر السوريون في الدفاع عن حقوقهم والعمل بكل الوسائل لوضع حد للتدخل الإيراني وجميع التدخلات الأجنبية التي دمرت حياتهم وأحرقت وطنهم.
لن ينجح الإيرانيون في تحقيق حلمهم الدموي، ولن يحول جورهم دون استمرار السوريين في الدفاع البطولي عن حقوقهم وهويتهم وبلادهم، ولا دون انتصارهم الحتمي. لكنهم سوف يخلفون جرحاً غائرا في سورية والضمير العربي والعالمي، تماما كما هو جرح فلسطين الذي لا يدمل ولن يدمل قبل أن تقلع اسرائيل عن سياسة الإبادة القومية التي اتبعتها، وتعتذر عن ماضيها وأخطائها.
سورية من دون سوريين
في هذا السياق، تدخل حرب الإيرانيين المستمرة في القلمون منذ أشهر طويلة، وفيه يبرز تمسكهم في مفاوضات الهدنة التي جمعتهم مع وفد من "أحرار الشام" بإخلاء الزبداني وكامل مدن وقرى الغوطة الشرقية ووادي بردى من سكانه "السنة"، لإعداده لعملية استيطان جديدة بسكان يدينون لهم بالولاء، من المذهب الشيعي، عرباً كانوا أو آسيويين. وفي هذا السياق أيضاً، يأتي إعلان "مواليهم" من نظام الأسد، في الأسبوع الماضي، عن بدء تنفيذ مشاريع في المدن المستهدفة، في حمص ودمشق خصوصاً، تدخل تحت مسمى تنظيم المدن وإعادة الإعمار، وهي، في الواقع، مشاريع مقنعة لعمليات التطهير العرقي وتغيير البنية السكانية للمناطق.
وقد نشرت صفحة "دمشق الآن"، المحسوبة على أحد أفرع مخابرات النظام، قبل أيام، صوراً لتصميمات مشروع إعادة إعمار حمص الذي سيقام على مساحة 217 هكتاراً، ويضم 465 مقسما سكنيا، إضافةً إلى مباني الخدمات "المشافي والمدارس والمباني الاستثمارية والتجارية والترفيهية"، وهو يشمل "إعادة إعمار" أحياء بابا عمرو وجوبر والسلطانية، وهي مناطق كانت قد دمرت بالكامل، وهجر أهلها، ومنعوا من العودة إليها، بعد أن شهدت أبشع مجازر النظام بحق سكانها خلال النصف الأول من 2012.
وفي الوقت نفسه تقريباً، أعلنت محافظة دمشق التابعة لحكومة الأسد عن البدء بتنفيذ ما سمي مشروع حلم دمشق، وفي مقدمه بناء المجمع الإيراني الضخم الذي يغطي مناطق واسعة من حي المزة المكتظ بالسكان وسط العاصمة دمشق. وانطلقت، في اليومين الماضيين، بالفعل عمليات هدم منازل المدنيين في منطقة "بساتين المزة"، بينما منعت قوات الأمن التي كان يرافقها محافظ دمشق السكان من الاقتراب من منازلهم بالقوة، وأخرجت من تبقى في المنازل عنوة، ورمت مقتنياتهم وفرشهم في الشارع. وكان سكان المنطقة قد تلقوا إنذارات بالإخلاء في منتصف يونيو/ حزيران الماضي، فيما لم يتلق السكان، حتى الآن، أي تعويض أو بدل سكن أو منزل للإيجار.
وكانت مليشيات حزب الله، وحليفتها العراقية التي احتلت مدينة القصير، قد منعت سكان هذه المدينة وريفها من العودة إليها، وأحلّت مكانهم مستوطنين من جنسيات أخرى تابعين لها. ولا تزال مدن عديدة في المنطقة وقراها مغلقة على سكانها، ومنها مدينة حمص القديمة التاريخية التي تنتظر من دون شك مشاريع "إعمار" مماثلة. ويأتي هذا الجهد الاستيطاني ليكمل، أو ليعوض عن خسارة مشاريع عديدة، كانت طهران، قد عملت عليها في العقود الثلاثة الماضية، قبل ثورة مارس/آذار 2011، وبنت، في إطارها، مئات المراكز الدينية والحسينيات في مختلف البقاع، وفي أكثر المناطق تجانسا مذهبيا، وذلك لإيجاد وقائع مادية على الأرض، تحفظ نفوذ طهران، وتفرض الأمر الواقع المرتبط بها. وتعتبر منطقة السيدة زينب قرب دمشق مثالا لهذا الاستيطان الجديد الذي حوّل قرية صغيرة إلى مدينة ضخمة، تحتضن أكبر تجمع مذهبي عسكري ومدني طائفي متعدد الجنسيات في المنطقة.
وتستخدم حكومة الحرس الثوري في إيران النظام السوري، بعد أن ورطته في حرب خاسرة، وحشرته في الزاوية، من أجل خلق وقائع جديدة صلبة لا يمكن تغييرها. وهي تستفيد من تعبئة المهاجرين الشيعة في إيران نفسها من الأفغان والباكستانيين وغيرهم، وتستثمر الشعور بنشوة النصر لدى طائفة وجماعات عانت طويلاً من الشعور بالعزلة والهامشية والحرمان، من أجل قلب الأوضاع السياسية داخل المنطقة رأسا على عقب، وإعادة رسم الخرائط الجيوسياسية على حسب مطامعها وأحلامها.
بين إعادة الإعمار والاستيطان
تشكل مجموع هذه النشاطات، من تدمير منهجي للمدن والقرى وتهجير إجباري للسكان وتفريغ البلاد من سكانها، وتوطين أكبر عدد ممكن من الساكنين الأجانب، من إيران وباكستان وأفغانستان ولبنان والعراق والهند وغيرها، وحرمانهم من حقوقهم ومنعهم من العودة وتدمير منازلهم وبيئتهم الطبيعية وحرق قراهم ومحاصيلهم وخصخصة الأملاك العامة وسطو المليشيات الأجنبية عليها، واحتلال منازل الغائبين وإجلاء السكان عن أحيائهم ومدنهم، مهما أطلق عليها من أسماء، ومهما قدم لها من تبريرات، مشروعاً متكاملا للتطهير العرقي والإحلال السكاني وتمديد رقعة الاستيطان، بهدف تمكين دولة أجنبية من السيطرة على مقدرات الشعب السوري، وانتزاع حقه في تقرير مصيره وفرض مصالحها وأجندتها الإقليمية والدولية عليه. وهو إحلال سكاني مرتبط بمخطط استراتيجي للهيمنة الإقليمية، يستخدم جميع الوسائل، وأكثرها همجية ووحشية، من قتل وتمثيل وتعذيب واغتصاب لتحقيق هدفه. وهو يعكس التفكير الاستراتيجي الإيراني الراهن الذي يعتقد أن إبادة سورية العربية الراهنة الطريق الوحيدة من أجل إحلال سورية أخرى محلها، سورية إيرانية، تخضع لطهران وتندمج فيها، وتتحول إلى واحدةٍ من محافظاتها.
وهذا وحده ما يمكن أن يفسر التكتيك الحربي الوحشي الذي استخدمه قادة الحرس الثوري المؤطرون لجيش الأسد ومليشياته، وهو تكتيك لا يبقي فرصة لأي حوار أو تفاهم أو تسوية بين السوريين، ولا يمكن أن يقود إلا إلى تدمير البلاد وتقسيمها. فمن دون التدمير الشامل والمنظم للبئية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، والاستهداف اليومي للمدنيين، والقضاء على كل أمل في الحياة بقصف المشافي والأسواق الشعبية والمدارس، وفرض الحصار والتجويع وقطع الماء والكهرباء ومواجهة السكان بالأسلحة الكيميائية وكل أنواع العنف الممكنة، ما كان من الممكن تفريغ المدن والمناطق من ساكنيها، وتيئيسهم، وقطع أي أمل لهم بالبقاء، وإجبار أكثر من نصف سكان البلاد على الرحيل عن منازلهم ومدنهم، وتركها خاوية لمن يريد أن يستوطنها.
ولا ينفصل هذا المشروع، أيضاً، عن طبيعة الاستراتيجية التي تبنتها قيادة الأسد، بتوجيهات من قادة الحرس الثوري الإيراني وخبرائه، القائمة على عدم الدخول في أي حوار أو تسوية، والاستمرار في الحرب أطول فترة ممكنة، وتعطيل كل المبادرات العربية والدولية. فليس هناك أي ضمانة في أن تنجح سلطة الاحتلال في تغيير الوقائع، وفرض الأمر الواقع الجديد على الأرض، من دون التخفي وراء لهيب الحرب وتبرير خرق كل القوانين والعهود الوطنية والدولية والإنسانية، فمن نافل القول إن حرب كسر العظم التي اتبعتها القوى الحليفة في سورية تجاه الشعب الثائر والمعارض ليست في مصلحة النظام، ولا في مصلحة الطائفة التي يدّعي النظام حمايتها. ولا يوجد مستفيد حقيقي منها سوى سلطة الاحتلال وحلم التوسع الإيراني.
ليس لهذه العمليات الممنهجة أي علاقة بإعادة الإعمار، وليس هناك أي منطق في إطلاق عملية إعادة إعمار من طرف واحد، وبمساعدة الحكومة والشركات الإيرانية وحدها، ولا لبناء مساكن ومَشاف وأسواق، بينما تقوم البراميل المتفجرة والمدفعية والصواريخ الاستراتيجية بتدمير مثيلها كل يوم في جميع المدن والأنحاء السورية. وليس هناك منطق في فرض الأمر الواقع، وتوسيع دائرة الاستيطان للجماعات المرتبطة بطهران، في الوقت الذي يطلق فيه المبعوث الدولي وروسيا مفاوضات التسوية السياسية، إلا إذا كان الهدف قطع الطريق على أي مفاوضات، ودفع المعارضة إلى رفض المشاركة فيها.
ما يحصل تحت اسم إعادة الإعمار هو تأكيد على منطق الحرب، وتوسيع دائرتها لتشمل عمليات التوطين وتجريد السوريين من ملكياتهم، لخدمة أهداف استراتيجية، وهو يعكس سياسة الهرب إلى الأمام، ويشكل برهانا قاطعا على غياب أي إرادة للانخراط في حلول سياسية.
تكاد سياسة "أسد طهران"، وطهران نفسها، تتطابق تماما مع سياسة تل أبيب في فلسطين وتجاه الفلسطينيين الذين لا ترى وسيلة للتعامل معهم سوى الحرب، لإبعادهم وتهجيرهم، أو إخضاعهم لمشيئتها من دون أي تسوية أو تفاهم على حل. وإذا تحدثت عن السلام والمفاوضات، فليس ذلك بهدف التوصل إلى تسويةٍ، تضمن ولو الحد الأدنى من الحقوق السياسية للفلسطينيين، وإنما لكسب مزيد من الوقت، للتمكن من طردهم واستكمال مشروع الاستيطان الكامل لفلسطين، وليس في تصور الإسرائيليين أي مكان للفلسطينيين في فلسطين، باستثناء الاختفاء في تجمعات مغلقة ومعزولة عن بعضها، تماما كما حصل للهنود الأميركيين. وكما تنقض الحكومة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية لتصادرها، وتعلن مشاريع مستوطنات جديدة، رداً على أي عمل فلسطيني قوي ضد الاحتلال، ترسل طهران ودمشق براميلها المتفجرة وآلتها الدموية الرهيبة، لتزرع الدمار والرعب في أي بلدة أو مدينة تخرج عن سيطرتها، لتجبر سكانها جميعاً، أو أغلبيتهم الساحقة على النزوح والهجرة حفاظا على أرواحهم.
وكما الحال في المسألة الفلسطينية، لن يكون لمفاوضات شكلية، تنظم للتغطية على فشل الأمم المتحدة وعلى تعارض المصالح الإقليمية والدولية، أي قيمة، ولا أي دور في وقف العنف وإيجاد حل للنزاع، بمقدار ما سوف تستغل من محور الحرب في طهران ودمشق، لكسب مزيد من الوقت، والتغطية على مشروع التقسيم والاستيطان المرتبط به، قبل وضع السوريين والعالم أمام الأمر الواقع. وعلى الذين يعتقدون أن المفاوضات ربما تخلق دينامكيتها، كما يقول دي ميستورا والمبخّرون لمبادرته، نسوق مثال المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من ربع قرن، من دون أي نتيجة تذكر، سوى تمدد الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية، والمزيد من التعنت والتشدد ضد الفلسطينيين من الساسة والرأي العام الإسرائيليين، وبناء مزيد من جدران العزل العنصري التي يشكل وجودها واستمرارها إدانة للعالم أجمع.
لا حل من دون إرادة دولية قوية
ما لم تبرز إرادة دولية قوية لوضع حد للحرب، وتسمية المسؤول عن استمرارها وإيقاد نارها بالاسم، وتحديد مسؤوليات الأطراف، وإظهار الرغبة في الانخراط الجدي وتقاسم المسؤوليات تجاه محنة الشعب السوري من الأطراف الدولية، وخصوصاً الدول الديمقراطية، لن يكون هناك أي حل، وسوف تتحول المفاوضات إلى سراب يدفع السوريين إلى الركض وراءه من دون أن يجدوا أمامهم سوى الحرب المستمرة، وفي ظلها تحقيق طهران مزيدا من التطهير المذهبي والإثني الذي تسعى إليه في المناطق الاستراتيجية التي تريد البقاء فيها.
والحال، كما حصل بالنسبة لفلسطين، لا تبدي الدول أي إرادة في الانخراط، ولا في تحمل المسؤولية، ولا تبدي أي موقف واضح من أطماع طهران التي هي اليوم الموقدة الرئيسية في نار الحرب، وتكاد هذه الدول تكون فاقدة العزيمة، وراضية عن التضحية بمبدأ الحق والقانون والعدالة، وقابلة للتخلي عن التزاماتها الدولية في مقابل الحفاظ على مصالح سياسية أو تجارية أو استراتيجية، تنطوي عليها العلاقات الحسنة مع طهران وموسكو وبعض العرب الضالين.
وكما أنه لم يوجد من يقول لتل أبيب كفى تهربا وتوسعا واعتداء على حقوق الفلسطينيين، ويتخذ الإجراءات التي تفرضها مواثيق الأمم المتحدة لحماية هذه الحقوق، لم نر اليوم من بين الدول الكبرى والصغرى التي تخفي انتهازيتها وأنانيتها وراء كلمات الحل السياسي المعسولة، من يعترف بما تقوم به طهران في تمديد أمد الحرب الأهلية، لخدمة مصالح لا تخفيها هي نفسها عن أحد، ولا من يطالبها بالتوقف عن اللعب بمصير السوريين، وسحب قواتها ومليشياتها من سورية، وإدانة دفاعها عن رئيس قاصر، دانته جميع تقارير المنظمات الدولية بجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية. وطالما استمرت الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا، في تجاهل حقوق الشعب السوري والتضحية بها، لتعميق تحالفها أو تعاونها أو تفاهمها مع طهران، لن يكون هناك حل، وسوف يستمر السوريون في الدفاع عن حقوقهم والعمل بكل الوسائل لوضع حد للتدخل الإيراني وجميع التدخلات الأجنبية التي دمرت حياتهم وأحرقت وطنهم.
لن ينجح الإيرانيون في تحقيق حلمهم الدموي، ولن يحول جورهم دون استمرار السوريين في الدفاع البطولي عن حقوقهم وهويتهم وبلادهم، ولا دون انتصارهم الحتمي. لكنهم سوف يخلفون جرحاً غائرا في سورية والضمير العربي والعالمي، تماما كما هو جرح فلسطين الذي لا يدمل ولن يدمل قبل أن تقلع اسرائيل عن سياسة الإبادة القومية التي اتبعتها، وتعتذر عن ماضيها وأخطائها.