19 أكتوبر 2024
سورية تحترق
شاهد السوريون الحرائق التي اندلعت بمحاصيل القمح والشعير، شرقاً حيث الرقة، وشمالاً حيث إدلب، وجنوباً في السويداء، وهناك حرائق كثيرة هنا وهناك، ولم يأت بعدُ شهرا يوليو/ تموز وأغسطس/ آب! بقدر ما شعروا بالسعادة من أمطار الشتاء الغزيرة، شعروا بالحزن وهم يراقبون الأرض، وقد ارتدت الأسود بعد احتراق آلاف الدونمات.. السؤال، وماذا فعل النظام وقوات سورية الديمقراطية (قسد) وكل قوى الأمر الواقع؟ ولماذا لم يتجهّزوا من قبل لإخماد النيران؟ لا قيمة للرأي الذي يكرّر أن الحرائق دائماً تشتعل، وتضرب البلدان المتقدّمة أحياناً، فلماذا تهولون من قصتنا وتجعلونها استثناءً. ولنقل إن لهذا الرأي وجاهة ما، والسؤال: هل تتعامل حكومات الأمر الواقع في سورية كما الحال مع الدول التي تحدث فيها الحرائق، فتعوّض للمتضررين. طبعاً، لا شيء من ذلك، والأنكى أن نقاشاً بين الكرد والعرب اشتعل إثر الحرائق في الرّقة، حيث حُملت "قسد" ذلك، ولاحقاً سَخِرَ بعض السوريين من بعض آخر، حينما أعلن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أنه يعاقب المرتدين.
أكلت الحرائق اليابس، بعد أمل كبير في الأخضر. وهي تأتي في وضعٍ كارثي يلمُّ بالسوريين. وبغض النظر عن أرقام احتياجات الاقتصاد السوري لينهض، وبغض النظر عن موعد البدء في إعادة الإعمار، وطبعاً كلما تأخرت الصفقة الدولية والإقليمية بخصوص سورية، ارتفع رقم النهوض بالاقتصاد من أربعمائة مليار دولار أكثر فأكثر. هنا يتضح أثر الحرائق، حيث انتظر الناس طويلاً الخيرات، وإيفاء الديون، والقيام باحتياجات الأسر، وهي تطاول كل شيء: إعادة بناء البيوت، وشراء سيارات بدل المحروقة أو المدمرة، وتزويج الشباب، وتعليم الأولاد، وغيره كثير.
سورية التي شهدت الاعتقال والقتل والدمار والتهجير واللجوء، وهذا يطاول أكثر من 12
مليون إنسان، وبعد ذلك كله، يأتي الاحتراق. هنا يكتمل المشهد المأساوي، وبالتالي من يرتكب ما ذكرناه، هل سينزعج من احتراق آلاف الدونمات، ولماذا ينزعج من أصله؟ المعارك في شمال حماه وجنوب إدلب وأرياف حلب واللاذقية أهم، فحسم المعارك هناك سيُغلق كل مساءلةٍ عما حدث في سورية، وسيعيد إنتاج النظام، وسيسهل مهمة الضغط على تركيا والأكراد وأميركا، لتعيد المساحات والسكان الذين يسيطرون عليهم إلى عبودية النظام. أليست الصفقات (اتفاقيات خفض التصعيد) التي عقدت بخصوص درعا والغوطة وشمال حمص، بمباركة أميركية وتركية، فلماذا نتعجّب مما يجري في إدلب، ومن قصة تحديد مسؤولية من أحرق محاصيل سورية!
عدا عن أفعال القمع المباشر، هناك المشكلات المتأزمة بين الكرد والعرب، وبين الطوائف، وهناك الاحتلالات الخارجية، وهناك ارتهان سورية، بشكل شبه كلي لصالح روسيا أولاً ثم إيران ثانياً، وبعدها كل من تركيا وإسرائيل؛ وبالتالي أين العجب، حينما تحترق محاصيل الناس من القمح والشعير، ما دام أنه لا قيمة لأهالي تلك المحاصيل.
تذكّرت، حينما شاهدت الناس، وهم يتراكضون في كل الاتجاهات لإطفاء النار، كيف فعلنا الشي نفسه في إحدى السنوات في أراضينا. المشهد مفجع بكل معنى الكلمة، لأناسٍ يضعون كل أحلامهم بحصاد مواسمهم. حينها والآن، لم يفكر الأهالي بأن للدولة دوراً في إخماد النيران، والأسوأ أن الدولة تشارك، أحياناً كثيرة، في حرق المحاصيل، وهناك ما هو أسوأ، فهل ننسى
حرق البيوت؟ هنا الكارثة تكتمل.
يكرّر الإعلام أن سورية لم تعد كما كانت 2011، وعلى الرغم من صحة الفكرة، فإن سورية لم تكن يوماً كما يحب السوريون. كانت دائماً تتعرّض للنيران، حيث حُكمت بديكتاتوريةٍ منذ الحركة التصحيحية، ونُهب اقتصادها بشكل ممنهج منذ ذلك الوقت. ومنذ حينه، بدأت عملية تسييس الهويات الما قبل وطنية، وأصبحت علاقات الناس في كثير من أوجهها قائمةً على تلك الهويات؛ بلد بكل هذه المواصفات، كيف سيتماسك مجدّداً، وعدا ذلك، ما تراكم منذ 2011. هذا يعني أن سورية لم تحترق فقط، بل وأصبحت، كما قال المرحوم طيب تيزيني، على الأرض، أي لم يعد هناك أي وجه للتراكم فيه. ولن أسرد حال الفقراء في سورية، وأن مستوى الفقر يتجاوز 85%، وأغلبية العائلات تعتاش على التحويلات المالية، أو أن يعمل كل أفراد العائلة، وبأجور متدنية، لتأمين إيجار المنزل، واحتياجات الحد الأدنى للحياة.
النظام وقد حمّلناه المسؤولية الكبرى عن أحوال سورية، ولكن ما هي مسؤولية المعارضة في ذلك كله؟ أية مؤسسات بنتها لمواجهة الكوارث التي تحيق بالناس؟ بدلاً من ذلك، يستمر التستر على فساد رجالاتٍ كثيرين فيها، رجالات فاعلين في المؤسسات الأساسية لها. النظام فاسد، والرجال الفاعلون في المعارضة فاسدون، وبالتالي عن أية سورية نتكلم؟ وماذا يعني احتراق
محاصيل الناس بالنسبة للمعارضة مثلاً؟
"عمّو معليش آخد حبتين كرز"، وشوشت الفتاة ذات السنوات الخمس صديقي السمّان بذلك؛ قال لي ذلك، حينما راحت تركض في الشارع، وصمتنا نحن الاثنان، فماذا ينفع الكلام بعدها؟ هناك حجم من الألم والتعب والشعور بالذل والضعف، يِخشى السوريون التفكير فيه، أو الكلام عنه، وحينما يُسمح بالكلام، لن يصمت السوريون أبداً. هنا، كما يبدو، أساس كل مآسي سورية، فلو أتيح المجال للتعبير، ربما انهار النظام برمته، ليس في 2011، بل ومنذ 1970، وطبعاً قبل ذلك، ولكن الطغاة لا يتعلمون أبدا أن الشعوب تصمت لأسبابٍ كثيرة، وتنفجر بلحظةٍ معينة، وحينها لا يمكن إعادة التاريخ إلى ما كان عليه؛ احتراق المحاصيل، ليس سوى تفصيل صغير في دولةٍ ومجتمعٍ ينهاران بشكلٍ كلي.
لن تنتهي الحرائق، ولن يتوقف الدمار، وسيظل الأهالي يدفنون أبناءهم العائدين من الجبهات، ويبكون من لا يعود، ولن تتوقف الحروب، ولن يجلس السوريون مع بعض أبداً. النظام لن يستمع للمعارضة (جنيف، أستانة، سوتشي وغيره وغيره)، والأخيرة أصبحت ضعيفة، ولم تعد لها قيمة في معادلة الصراع. الأدق هو القول إن النظام أصبح ضعيفاً، ولكن ليس بضعف المعارضة؛ فمع الاحتلالات، ليس من سيادة لدولة أو معارضة. كل تلك "اللنات" تكمل بعضها الآخر، ويدفعنا هذا إلى القول: سورية كلها تحترق، وليس محاصيلها فقط، ولم يبق منها إلا الرماد. والسؤال: هل يستطيع أهلها تشكيلها وفق أحلام ثورتهم، ربما نعم، وربما لا.
سورية التي شهدت الاعتقال والقتل والدمار والتهجير واللجوء، وهذا يطاول أكثر من 12
عدا عن أفعال القمع المباشر، هناك المشكلات المتأزمة بين الكرد والعرب، وبين الطوائف، وهناك الاحتلالات الخارجية، وهناك ارتهان سورية، بشكل شبه كلي لصالح روسيا أولاً ثم إيران ثانياً، وبعدها كل من تركيا وإسرائيل؛ وبالتالي أين العجب، حينما تحترق محاصيل الناس من القمح والشعير، ما دام أنه لا قيمة لأهالي تلك المحاصيل.
تذكّرت، حينما شاهدت الناس، وهم يتراكضون في كل الاتجاهات لإطفاء النار، كيف فعلنا الشي نفسه في إحدى السنوات في أراضينا. المشهد مفجع بكل معنى الكلمة، لأناسٍ يضعون كل أحلامهم بحصاد مواسمهم. حينها والآن، لم يفكر الأهالي بأن للدولة دوراً في إخماد النيران، والأسوأ أن الدولة تشارك، أحياناً كثيرة، في حرق المحاصيل، وهناك ما هو أسوأ، فهل ننسى
يكرّر الإعلام أن سورية لم تعد كما كانت 2011، وعلى الرغم من صحة الفكرة، فإن سورية لم تكن يوماً كما يحب السوريون. كانت دائماً تتعرّض للنيران، حيث حُكمت بديكتاتوريةٍ منذ الحركة التصحيحية، ونُهب اقتصادها بشكل ممنهج منذ ذلك الوقت. ومنذ حينه، بدأت عملية تسييس الهويات الما قبل وطنية، وأصبحت علاقات الناس في كثير من أوجهها قائمةً على تلك الهويات؛ بلد بكل هذه المواصفات، كيف سيتماسك مجدّداً، وعدا ذلك، ما تراكم منذ 2011. هذا يعني أن سورية لم تحترق فقط، بل وأصبحت، كما قال المرحوم طيب تيزيني، على الأرض، أي لم يعد هناك أي وجه للتراكم فيه. ولن أسرد حال الفقراء في سورية، وأن مستوى الفقر يتجاوز 85%، وأغلبية العائلات تعتاش على التحويلات المالية، أو أن يعمل كل أفراد العائلة، وبأجور متدنية، لتأمين إيجار المنزل، واحتياجات الحد الأدنى للحياة.
النظام وقد حمّلناه المسؤولية الكبرى عن أحوال سورية، ولكن ما هي مسؤولية المعارضة في ذلك كله؟ أية مؤسسات بنتها لمواجهة الكوارث التي تحيق بالناس؟ بدلاً من ذلك، يستمر التستر على فساد رجالاتٍ كثيرين فيها، رجالات فاعلين في المؤسسات الأساسية لها. النظام فاسد، والرجال الفاعلون في المعارضة فاسدون، وبالتالي عن أية سورية نتكلم؟ وماذا يعني احتراق
"عمّو معليش آخد حبتين كرز"، وشوشت الفتاة ذات السنوات الخمس صديقي السمّان بذلك؛ قال لي ذلك، حينما راحت تركض في الشارع، وصمتنا نحن الاثنان، فماذا ينفع الكلام بعدها؟ هناك حجم من الألم والتعب والشعور بالذل والضعف، يِخشى السوريون التفكير فيه، أو الكلام عنه، وحينما يُسمح بالكلام، لن يصمت السوريون أبداً. هنا، كما يبدو، أساس كل مآسي سورية، فلو أتيح المجال للتعبير، ربما انهار النظام برمته، ليس في 2011، بل ومنذ 1970، وطبعاً قبل ذلك، ولكن الطغاة لا يتعلمون أبدا أن الشعوب تصمت لأسبابٍ كثيرة، وتنفجر بلحظةٍ معينة، وحينها لا يمكن إعادة التاريخ إلى ما كان عليه؛ احتراق المحاصيل، ليس سوى تفصيل صغير في دولةٍ ومجتمعٍ ينهاران بشكلٍ كلي.
لن تنتهي الحرائق، ولن يتوقف الدمار، وسيظل الأهالي يدفنون أبناءهم العائدين من الجبهات، ويبكون من لا يعود، ولن تتوقف الحروب، ولن يجلس السوريون مع بعض أبداً. النظام لن يستمع للمعارضة (جنيف، أستانة، سوتشي وغيره وغيره)، والأخيرة أصبحت ضعيفة، ولم تعد لها قيمة في معادلة الصراع. الأدق هو القول إن النظام أصبح ضعيفاً، ولكن ليس بضعف المعارضة؛ فمع الاحتلالات، ليس من سيادة لدولة أو معارضة. كل تلك "اللنات" تكمل بعضها الآخر، ويدفعنا هذا إلى القول: سورية كلها تحترق، وليس محاصيلها فقط، ولم يبق منها إلا الرماد. والسؤال: هل يستطيع أهلها تشكيلها وفق أحلام ثورتهم، ربما نعم، وربما لا.