سورية... لا شيء يمثل الثورة
يقول لي أحد الفلسطينيين الجامعين للدلائل والراكضين خلف المعلومات التي تدين المعارضة والتي تبيض سواد النظام السوري كونه حليفاً لـ"حزب الله"، والذي لا يرى فلسطينيون هكذا أنقى منه كمقاتل للكيان الصهيوني، يقول: مثلما هناك سجون أمنية حقيرة هناك سجن التوبة! وفي كل شارع في المناطق المحررة هناك معتقل عشوائي لا يتمكن أحد من تدقيق أحقيته بالاعتقال أو بسلب الحريات.
من هذا السؤال تتكون غالبية الأيديولوجيات التي تذهب نحو تأييد النظام السوري رغم بشاعته على أنه أفضل السيئين. وإن كان قد اعتقل وفظّع بالعباد، فما هذه الفظائع إلا من جملة انتهاكات يقوم بها كل الأطراف المتصارعة في سورية. وإن الثورة لم تأت بما هو أفضل مما أتى به النظام. إلا أن النظام هو مؤسسة متراصة ومعترف بها دولياً وما زالت حياة السوري في كنفها أفضل مما يعانيه من يعيشون في كنف البقية ممن يسيطرون على مناطق في سورية.
هذه الشمولية متعششة في فكر كل من يراقب الوضع السوري ويتجه لقذف الثورة بالحجارة. فالثورة ليست فصيلاً مستبداً ومتطرفاً. وليست قائداً متنفذاً يعتلي أسلحته ويتسلط على الناس. الثورة ليست طاولة مفاوضات تم فضح مموليها ومشغليها. الثورة ليست خطاباً إسلاموياً إقصائياً ينفي دور باقي الطوائف في إدارة البلاد والمشاركة بصياغة مستقبلها.
فثورتنا فكرة التغيير. تغيير كل ما هو سيئ ومستبد ويضر بالبلد وأهله وخيراته واحتكار العسكر والسلطة لها. هناك دائماً خيط أبيض يتوجب على كل ثوري أن يتبعه بعيداً من أي فصيل أو هيكل. هذا الخيط الأبيض هو الخلاص الذي سيدفع الثورة إلى التبلور في نفوس كل منا. هذا الخيط الأبيض يتمثل طبعاً في المتفوقين والمبدعين والكتاب الأحرار والفاعلين في قلب المجتمع السوري. الخيط الأبيض الثوري هو الأمل الذي يبثه مسعف لا يريد شيئاً سوى مساعدة أخيه السوري. ومترجم سوري لاهث خلف أخيه السوري ليترجم له لأنه يدرك حجم معاناته في مكاتب اللجوء.
الثورة هي قلب سوري أبيض يهاتف كل من يستطيع ليشد ازرهم وليدعهم بكل ما استطاع.
الثورة هي مكتب إغاثة لا سرقة فيه وتخفق قلوب مدرائه لمساعدة الناس وتقديم ما يحتاجونه. الخيط الأبيض هو الحق الذي في قلب معتقل نجا من معتقله ويبحث عن طريقة ليحاكم بها سجانه.
الخيط الأبيض هو النقاش الحر الذي يدور في كل يوم وكل لحظة بين السوريين في كل مكان دون أن يثير اختلافهم في الرأي أي ضغينة أو اقتتال. ولا بد لهذا الخيط الأبيض أن يتحول إلى صفحة بيضاء وإلى مجتمع أبيض. فهذا الخيط سيؤثر يوماً بعد يوم في نفوس الناس وسيدعوهم لنشر رسالته في كل مكان.
هذا الخيط الأبيض كان تأثيره خلال سنوات الحرب أقوى من تأثير الاقتتال. فاستطاع هذا الخيط اختراق النظام في عقل داره. وتغلغل في نفسيات كل مستبد. فعرف السوريون أن بالإمكان رفع صوتهم في وجه المستبد. وبإمكانهم أن يطالبوا بأي أمر يريدونه وبالطبع ما زال هناك سقف للحريات. فلم يكن السوري يتمكن من رفع رأسه أمام شرطي أو عسكري أو موظف مدني حتى. لكن بعدما أصابت الثورة مفاصل النظام، صار السوريون يرفعون أصواتهم بوجه كل مسؤولي الدولة دونما خوف. نتأمل من هذه الخطوة أن تمتد نحو ما هو أعمق. وأن يختفي سقف الحريات ويصرخ السوريون جميعاً بوجه رأس النظام ويخلعوه وقتما يريدون.
كسر السوريون خوفهم من وسائل الإعلام ومن تجربتها. فصارت للجميع إمكانية التقاط الصور في المكان الذي يريدونه. وصار بإمكان أي غير بعثي أن ينتقد البعث ويصور انتهاكات لمسؤوليه. هي تغيرات سطحية ولكنها ستتعمق في أذهان الناس يوماً بعد يوم. ويحاول النظام بالطبع نكران ذلك. ويعتبر أن مظاهر الحرية هذه كانت من قبل الثورة. لكنه يعرف تماماً أن هذا المد التحرري سيطاوله في يوم من الأيام ولا قدرة له على مواجهة التغير السلمي الذي ينخر في أعمدته.
ولا تتمنى هذه الثورة سوى أن يجتمع الأفراد الصالحون الذين ينتمي الشعب إليهم ويقودوا هذا الخيط الأبيض نحو نافذة تمكنه من صياغة حياة سياسية نقية للبلاد، وحياة كريمة للعباد. فإن اجتمعوا ستقوم على أياديهم ثورة على ثورة. وستمثل أفكارهم كل ما يتطلع إليه الشعب السوري المتعب.