سورية وجدلية القاتل والقتيل

02 يناير 2017
+ الخط -
لطالما كان الطموح إلى كشف بواطن الحدثيات التي تشكل المفاصل الكبرى في حياة الإنسان، والمجتمعات، المحرّك الأكبر لاجتهاد العقل البشري منذ فجر الحضارة الأول؛ بالتوازي مع السعي الذي لم تنقطع مسبباته لكل مفكّري المعمورة، كُلٌّ حسب منظاره لتفسير تلك الحياة وتغييرها. وقد لا يبالغ القائل في اعتبار التراجيديا السورية المتقيّحة تلخيصاً مكثفاً لمعاناة الإنسان الكوني المشخصة في تغوّل الأذرع العسكرية الضاربة للمصالح الاقتصادية، وما يستتبعها من اشتراطات جيوسياسية للشركات الكونية التي تحكم العالم من خلال وكلائها من السياسيين المُصنَّعين بحذاقة، سواء على طريقة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أو بفظاظةٍ على طريقة الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والأميركي المنتخب دونالد ترامب؛ على كل طموحات المقهورين في أرجاء الأرضين في تحقيق الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، والعيش الكريم، والعدالة الاجتماعية؛ وهي خلاصة طموحات كل المنتفضين في غير مكان في وجه الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة التي تكاد تلتهم الكرة الأرضية، لتلفظها هشيماً بيئياً غير صالحٍ للحياة في المستقبل المنظور، وركاماً مدمراً من النواحي الاجتماعية، والروحية، والاقتصادية، في إطار سعيها المحموم إلى تحقيق الربح السريع، وتعظيم الثروة، بغض النظر عن الأضرار الجانبية التي لابد منها في إطار ذلك، حسب ما يرى منظّرو ذلك النموذج البربري من الرأسمالية. وقد تكون الحروب الكونية المستمرة أحد أهم التمظهرات لذلك السعي المحموم، والتي تمثل الفاجعة السورية شكلها الأكثر إيلاماً وراهنية، وهي التي فرضت نفسها على مفكرين عرب كثيرين وغيرهم للتفكّر المستبصر فيها، علّ العقل يسعف في إيجاد مخرج من نفقها المظلم المهول.
في ذلك السياق، رأى المفكر جيلبير أشقر في مقاله، أخيراً، في مجلة ذي نيشن أنه "من دون اتفاق سياسي شامل يضمن رحيل بشار الأسد، وانتقالاً لحكومة إجماع وطني، لا فرصة لأي وقف إطلاق نار بأن يستمر بأي شكلٍ كان، حتى لو وافقت عليه المعارضة السياسية السورية، حيث إنه سوف يتجاوزه المقاتلون الذين يرون أن القبول بأي شيء أقل من رحيل بشار الأسد يضاهي قبول أن مئات الآلاف من القتلى السوريين، والمساحات الواسعة على امتداد الأرض السورية التي تم تدميرها، كانت كلها تضحيات من أجل اللاشيء"؛ وهو توصيف يتّسق مع تحليل المفكر طيب تيزيني الذي لخّص التراجيديا السورية بحكمة الفلاسفة المعلمين بأنها "جدلية القاتل والقتيل، القاتل الذي يرغب في استنفاذ قدرته على إحكام قبضته في إنهاء القتيل من طرف، والقتيل الذي لا يجد له مخرجاً سوى الموت دفاعاً عن كرامته الملوّثة بالدماء، وفق معادلة النصر أو القبر". وهو حقاً تصوير ثاقب تطابق معه إلى حد كبير تحليل المفكر نعوم
تشومسكي، في مقابلته، أخيراً، في صحيفة تروث آوت حول سورية، ورأى فيها، إضافة إلى ذلك، تعقد البعد الجيوسياسي للأزمة السورية، باعتبارها مكسر العصا بين الأقطاب الدولية المتصارعة على النفوذ كونياً، وعلى حساب دماء السوريين وحيواتهم فقط، والذي لا مخرج منه إلا بتبني منهج واقعي سياسي، يوحد كل قوى المعارضة السورية الحقيقية، ويأخذ في الحسبان قدراتها الفعلية، وموازين القوى التي تحكم قدرتها التفاوضية، في سياق أي اتفاق دولي مجحف بحق الشعب السوري المظلوم قد يلوح في الأفق المنظور، عقب انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة.
وقد يحق للقارئ الحصيف أن يضع تلك التصورات الموشورية في صورتها الكبيرة التي تفصح عن نفسها بأنها أكثر تعقيداً عمودياً وأفقياً من أن يكفي رحيل بشار الأسد عن سدة الحكم في سورية، أو اتفاق زعماء الحرب بالوكالة في سورية على لفلفة الفاجعة السورية لحلحلتها، لجملة من الأسباب البنيوية والتاريخية التي تراكمت خلال عقود البؤس الخمسة منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة في سورية في 1971، وتحويله الوطن السوري إلى دولة أمنية شمولية عمقاً وسطحاً، غيّبت كل ملامح المجتمع المدني السوري، وصيّرت المواطنين السوريين قطيعاً من البشر، لا يوحدهم سوى وجودهم في المكان والزمان نفسه، وأنّ خيارهم الوحيد في الحياة هو صبرهم اليومي على تجرّع الحقيقة المرة أن لا فرصة لهم في الخروج من سجنهم الكبير في وطنهم إلا بالرحيل عنه، بغير عودة في معظم الأحوال؛ وهي الحقيقة السورية السرمدية التي تفصح عن نفسها بشكل عياني مشخص راهناً في الرّهاب، حتى نقي العظم لدى كل المهجرين السوريين من أرضهم، سواء في بؤسهم السوداوي في دول الجوار، أو حتى أولئك الذين حالفهم الحظ مؤقتاً، وتمكّنوا من الوصول إلى حرارة أحضان القارة الأوروبية التي بدأت في حنجلة الكشف عن وجهها العنصري البغيض، بشكلٍ مخاتلٍ يتسق مع انزياحها باتجاه اليمين المتطرّف الذي ينتظر فقط أوان التكشير عن أنيابه ومخالبه؛ من احتمال العودة إلى سراديب الدولة الأمنية، ومنظومات الفساد والإفساد، واحتقار كل ما يمت بصلة لكرامة الإنسان، آخذين بالاعتبار حقيقة أن بشار الأسد لا يمثل إلا رأس هرم تلك الدولة الأمنية العميقة، وأن استبداله بأيٍّ من رموز طغمته الأمنية والعسكرية الحاكمة لا يغيّر من واقع الأمر شيئاً؛ وهو ما يسعى الساسة الأوروبيون، بيمينهم ويسارهم، إلى تحقيقه من تحت الطاولة، للخلاص من أكداس اللاجئين السوريين في دولهم، كما تشي التسريبات الصحافية التي أظهرها للعلن الصحافي المرموق، غلين غرنيولد، في صحيفة ذي إنترسيبت، ما يحيل، في المآل الأخير، كلاً من أولئك اللاجئين إلى وقود محتمل لا خيار له سوى الانخراط في هشيم السرطان الداعشي، إن أرغمه أي ترتيب سياسي تلفيقي إلى العودة إلى وطنه، من دون رحيل نظام بشار الأسد بكليته.
وعلى المقلب الآخر، يقف هول التغيير الديموغرافي في سورية على طريقة التطهير العرقي الفاشي في كوسوفو، والاستيطان الصهيوني البربري في أرض المعذّبين الفلسطينيين، والذي يقوم به، بشكل منظم، كل تلاوين المرتزقة الذين استجلبهم النظام السوري ممن يدورون في فلك التنظيمات العسكرية، أو شبه العسكرية التي تديرها إيران في العالمين العربي والإسلامي، والذين استوطنوا في بيوت السوريين المهجرين وأراضيهم، وبدأوا بالاستحصال على الجنسية السورية بغير حق أو عرف. ما يشي بتعقد التناقضات الاجتماعية والديموغرافية على المستوى المحلي المصغر في كل زوايا الجغرافيا السورية، بما يجعل من الصعب تصوّر إمكانيات حلحلة التراجيديا السورية برحيل بشار الأسد، من دون نظام دولته الأمنية العسكرية. وإلى حين تحقق ذلك، يبدو أن جدلية القاتل والقتيل سوف تظل الفاعل والمفعول به في الجحيم السوري المتقيّح.
3F551E00-D2AC-4597-B86B-AF0030A9D18D
مصعب قاسم عزاوي

كاتب وطبيب سوري مقيم في لندن، له عدد من المؤلفات