نزلنا من الحافلة مضطرين قبل جسر التونسي، الذي يقع أسفله سوق الجمعة، ونصحنا السائق بقطع الطريق إلى الناحية الأخرى من الشارع لنصبح بموازاة المقبرة، ونتّجه مباشرةً إلى الأمام حتى نصل أسفل الجسر، لنصبح في حماية أهل المنطقة بسبب خطورة المكان هناك. كان لابد من المرور على أنقاض سكة حديد مهجورة، ويافطة متآكلة مكتوب عليها "خط حلوان"، وفي الخلف امتدت بعض القبور التي يتوسّطها بعض البيوت، وخلفها مباشرة يقع جبل المقطم، تتراص فوقه منازل شريحة أخرى من الطبقة المتوسطة المصرية.
البحث عن تاريخ سكة الحديد المهجورة في هذه المنطقة، يبيّن أنه خط "الترام" الذي تم إنشاؤه عام 1913، وكان يمتدّ من القلعة إلي منطقة الإمام الشافعي، لكن مع بداية التسعينيات بدأت الدولة في التخلّي عن مشروع الترامواي، لصالح شبكة المترو الجديدة أو لصالح (الفوضى والفساد)، فتقطّعت أوصال القاهرة، وتم إلغاء الكثير من الخطوط مثل ترام (الفجالة والضاهر)، وكذلك الخط الذي يربط بين حلوان والتبين، لخدمة منطقة مصانع الحديد والصلب.
بداية الجولة
استقبلتنا العيون بتربّص، ثلاثة شباب حاولوا الاقتراب بنظرات مرتابة وهجومية، فبادرناهم بالسؤال عن الطريق إلى السوق، كطلب الرخصة للمرور والدخول إلى المنطقة. بعدها كان أهل المكان يتراصون أمام بيوتهم، فكان لابد من احترام القوانين الخاصّة بالمنطقة، وهي التوقّف عن التصوير، والمرور سريعًا من دون التحديق، حتى لا نظهر كسيّاح أتوا للفُرجة، وهو ما يمثل إهانة للأهالي.
بحثتُ في السوق عن دولاب أو تسريحة أنتيكة، وفي ظل الأزمة الاقتصادية الحالية والارتفاع الجنوني للأسعار فإن هذا سيكلفني الآلاف في أيّ سوق أثاث عادي. يسلك أغلب شباب الطبقة الوسطى الآن نفس الاتجاه لتأثيث بيوتهم، فتجد إعلانات لا متناهية لبيع الأثاث المستعمل على الإنترنت، إلى جانب الأسواق البديلة للمستعمل في بولاق، وباب الخلق، وباب اللوق، وبالطبع السوق الأكبر هو سوق الجمعة، فالأزمة الاقتصادية الممتدّة التي تفاقمت تداعياتها مؤخرًا، سرعان ما تغربل وتطحن المصريين حتى تسقط كثيرين إلى تحته. ففقر الطبقة الوسطى له مظاهره، أماكن يسكنها أشخاص معينون، ونمط حياة لا يعرفها إلا أصحابها، كلها تختلف مثلًا عن منظومة العيش لسكان الأطراف، أو سكان العشوائيات. وهؤلاء بالتأكيد يختلفون عن سكان مقابر كوبري التونسي. كل هذا يثير فكرة أن مصر كبيرة ومتشعّبة بشكل لا يستطيع أحد استيعابه.
الفكرة هي أن حتى الفقر له اقتصادياته الخاصة، فعشوائيات الدويقة مثلا تضم أكبر مكبّ قمامة في القاهرة، تمثل مصدر رزق لأهل المكان، مصر القديمة تضم ورش الدباغة وورش الزجاج، ومنطقة كوبري التونسي تعتمد على تجميع الأثاث المستعمل الذي يتخلص منه أهل القاهرة من شرقها إلى غربها ليجتمع هنا، فكل شيء له وظيفة ومنفعة حتى لو كان "سكند هاند".
كلام مجّاني
في مدخل السوق تتراصّ أقفاص الحيوانات المفترسة في الغالب، حيث توجد الأسود والثعابين والتماسيح والكلاب المدرّبة على الحراسة، وكل هذه الحيوانات موجّهة للبيع، لهواة اقتناء الحيوانات المفترسة، بعدها يتفرّق السوق على عدة شوارع؛ لكل شارع رقم وعنوان وتخصّص؛ فهناك شارع لبيع مستلزمات الحمّامات والسِباكة، وآخر لبيع الأجهزة الرياضية، وواحد لبيع الصالونات والكتب والكراسي والمستلزمات المكتبية، وهناك شارع لبيع التُحف وديكورات البيت.
في البداية لفتني التنوع الهائل للمعروضات، فمقولة أنه يمكنك إيجاد أي شيء من الإبرة للصاروخ لم تعد مجرّد كلام مجاني.
توقفنا عند محل لبيع الأثاث المنزلي، كان صاحبه محمد يحاول إعادة ترتيب كرسيه المصنوع من السعف استعدادًا للجلوس. حين وقفنا على معروضاته، دعانا إلى الدخول للمحلّ، وبدا أنه متخصّص في بيع الكراسي والطاولات الخشبية الصغيرة، ولم يتردد في إطلاعنا على أسعار معروضاته؛ أربعة كراسي وطاولة مقابل سبعمائة وخمسين جنيها، وهذا السِعر زهيد جدًا مقارنة بالأثاث الجديد؛ حيث يصل سِعر الكرسي الواحد جديدًا من 300 إلى 500 جنيه، وغالبًا ما يحاول باعة الأثاث المستعمل مناغمة قطع جيّدة مع أخرى أقل قيمة، حتى يتم التخلص منها
سريعًا. حاول محمد أيضًا إقناعنا بشراء عمود من أعمدة الإنارة الضخمة قبل مغادرتنا.
جاكوزي الفقراء
في شارع آخر، استوقفنا مشهد غريب، في المكان المخصّص لبيع مستلزمات المكاتب من كراسي خشبية وكنبات مصنوعة من الجِلد، اصطفت في رُكن من الأركان صالة مسرح كاملة تم تفكيكها وشحنها إلى هنا. يعرض البائع كل ثلاثة كراسي مجتمعة للبيع. اللافت أن حالة الكراسي ممتازة وتكاد تكون جديدة، ومن الصعب استبعاد فكرة أنها مسروقة، أو أنه تم التخلّص منها بغرض التجديد، دون شُبهة وجود فساد في المكان الذي أتت منه.
في شارع مستلزمات الأدوات الصحيّة تراصّت الأحواض وقاعدات الحمامات من كل الماركات، فقاعدة الحمام "الليسيكو" تستطيع شراءها بـ200 جنيه، بفارق ثلاثمائة جنيه عن الجديدة. هناك أيضًا الماركات الأغلى وأجهزة "الساونا" و"الجاكوزي" التي تباع لأبناء الشريحة العليا في الطبقة المتوسّطة، والذين يطمحون إلى اللحاق بركاب الطبقة الثريّة في شكل حياتهم ومواكبة طريقتهم للرفاهية. تأتي هذه البضائع الثمينة من "الكومباوندات" الجديدة في أكتوبر والشيخ زايد وغيرها، والتي تعتبر سوقًا مهمًا لاستيراد بضائع من هذه النوعية بشكل مستمر، فهناك العاملون داخل هذه التجمّعات- الخدم والسائقون ورجال الأمن- إلى جانب شركات نقل القمامة، يقومون بدور وسيط فيأخذون الأشياء التي يتخلّص منها أصحاب القصور والفيلات وبيعها لتجار الأثاث المستعمل. حيث تتراوح أسعار أجهزة "الجاكوزي" و"الساونا" والبانيوهات الفارهة من 800 إلى 5000 جنيه، ولكل سِعر زبونه، فهي بضاعة لا تبور أبدًا.
في شارع آخر، تجلس امرأة بملامح قوية ومسيطرة أمام محلّها الكبير، هي تعرف جيدًا قيمة ما تبيعه، فلا تتودد إلى الزبائن أو تدعوهم إلى زيارة معروضاتها. أخذَنا مساعد السيدة إلى الداخل. كان التجوّل في هذا المحل بمثابة التنقل في قصرٍ كبير يضم تحفا مختارة بعناية ومعروضة بعناية أكبر، كل قطعة تعرف مكانها وتعرف كيف تجذب زبونها. هناك دواليب التحف والفضيات باهظة الثمن.هنا لا تتعامل صاحبة المحل مع بضاعتها على أنها أثاث مستعمل، بل على أنها قطع فنيّة نادرة. وقبل مغادرتنا المكان، لفت نظرنا تمثال مصنوع من البرونز لعاشقين يحتضنان بعضهما، سعر التمثال يصل إلى 4000 جنيه، وهو سعر غال جدًا بالنسبة لأسعار السوق، لكنه أقل مقارنة بمحال التحف والإكسسوارات خارج السوق، وتعتمد نوعية هذه المعروضات على المزادات التي يباع فيها أثاث القصور التي أفلس أصحابها، أو التي توارثها أبناؤهم الذين لا يهتمون كثيرا بالتحف والفنون.
صوت العرب
في نهاية جولتنا في السوق، رأينا محلًا صغيرًا مغطى بالقصب، سقفه مرفوع على عمدان من الخشب، لفتت انتباهنا صورة وحيدة بالأبيض والأسود، لامرأة أنيقة ثلاثينية من زمن مضى، وجذبنا صوت الراديو المنبعث من الداخل. نظرنا إلى الداخل وكان صاحب المحل جالسًا باستكانة على كرسي عتيق، وأمامه حلاق يفرك ذقن زبونه بفرشاة الصابون، ويحاول إحداث موجة من الزبد على وجهه. ابتسم صاحب المحل ودعانا إلى الدخول، بالقرب منه كانت بندقية معلقة أخبرنا أنها لا تصلح للبيع، وإلى جانبه الراديو العتيق الذي كان يصدح في الخارج، كان عبارة عن صندوق من الخشب يعود تاريخه إلى ستينيات القرن الماضي، كُتبت عليه أسماء عواصم البلدان العربية، القاهرة، دمشق، بيروت، الرباط، بغداد، عمان والجزائر، ومنقوش عليه بحروف دقيقة كلمة "إذاعة صوت العرب"، ويصدح بأغنية لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب "لاء مش أنا اللي أبكي"، أخبرنا الرجل أن سعر الراديو يبلغ 1500 جنيه لأنه تحفة ويعمل بصوت واضح إلى الآن رغم قدمه، وأعلن عن رغبته في التفاوض بخصوص السعر إذا عدنا مرة أخرى، فودعناه آملين في زيارة أخرى لعلها تكون مثمرة. غادرنا المكان وتركناه تحت يد حلاقه مستمرًا في دندنته مع أغنية عبد الوهاب، بمزاج رائق وبال متسع.