سياسة الجنازات في المغرب
محزنٌ أن تصبح لقاءات الطبقة السياسية في المغرب في المقابر، ومقتصرة على تبادل واجب العزاء، وما يقال في مثل هذه المناسبة الأليمة، ثم يتفرق كل إلى خلافاته، إلى أن يأتي حادث جديد، اسمه الموت، يعيد تذكير الطبقة المسيّرة للشأن العام بأن للقصة نهاية. لكن الخضوع للحظة لا يدوم مسافة العزاء، حتى يرفع الستار عن فصل جديد من فصول الممارسات السياسية التي تغرف من الحضيض.
مناسبة هذا الكلام أن ألوان الطيف السياسي في المغرب حجّت إلى جنازة أحمد الزايدي، القيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي، والذي عاجله الموت، وشاء القدر أن تنتهي حياته غرقاً في ظهيرة يوم صحو. وكان رحيله، وهو الوجه السياسي المعروف، مفجعاً حقاً، وقد هز منطقته الصغيرة، في ضواحي الرباط، وفاجأت وفاته رفاقه في التيار السياسي داخل الحزب العريق، والذي كان رأس حربته، بعدما فسدت الأمور، وسدّت الخيارات بين تيار "الديمقراطية والانفتاح" الذي كان الراحل يقوده رفقة وجوه معروفة، والمسؤول الأول في حزب الوردة، إدريس لشكر.
وهذه ليست المرة الأولى التي تقع فيها خلافات في حزب المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد، ولكن، في كل مرة، كان يحصل فيها خلاف على مدار عقود من حياة حزبٍ نشأ في كنف المعارضة، ومرّن عضلاته في مواجهاته مع النظام، كان يفقد ريشه من دون رحمة، ويطرد المختلفين معه "حتى البحر، بالماء والشطابة". وخرجت من ضلعه أحزاب صغيرة، بعضها عاد إليه في صيغة اندماجية، وأخرى تعسّرت عليه العودة، أصيب بمرض "رهاب الانشقاقات". لذلك، كان يضرب بيدٍ من حديد، على كل من يختلف مع قيادته، ويعتبر المشروعية الوحيدة للمؤتمر الذي هو سيد نفسه، ساحباً من الأقلية حقها في التعبير أو الاختلاف، ودعاها إلى الانضباط لـ"ديكتاتورية الأغلبية".
وليس هذا حال الحزب مع المختلفين معه من أبنائه، ولا مع المنشقين عليه، بل أيضاً، مع أحزابٍ يسارية قريبة من مرجعيته، فهو يعتبر نفسه "أب العائلة الاتحادية"، وعلى كل هؤلاء أن يعودوا إلى الأصل الذي خرجوا منه، بشكل أو بآخر. لذلك، كانت دعوات التجميع، في السنوات الماضية، تصطدم بعقبات، معظمها "نفسي". والقائمون على تلك المبادرات، بينهم من صنع الحداد من ذيول شخصية، ساهم في تسميمها الأسلوب الاحتوائي لوزير الداخلية الشهير، إدريس البصري. وخطته كانت تقضي بشراء النخب السياسية وإفساد الجامعة، ونشر الإشاعات والعمل بالملفات، وتقديم الجميع للسلطات العليا في البلاد، على أنهم انقلابيون. لذلك، عندما وعى الملك الراحل، الحسن الثاني، اللعبة والفخ المنصوب، جاء بالاتحاد الاشتراكي للمساعدة في مرحلة انتقال الحكم منه إلى ولي عهده.
ولعل وسم المختلفين مع السواد الأعظم بأنهم "وليدات إدريس البصري" كان يحمل أحد شيئين: الأول، هاجس أمني مبالغ فيه، تحول إلى أداة عقاب. والثاني، خدمة مجانية، عن غير وعي، لأطراف في الدولة، أو في "المخزن"، أو في الطبقة السياسية التي أصبحت تدمن اللكمات من تحت الحزام، والتفاوض في الكواليس، وبناء التربيطات الغريبة.
فماذا كانت النتيجة، بعد عقود من التعددية السياسية؟ الجواب يقدمه عبد القادر الشاوي، الكاتب والمعتقل السياسي السابق والسفير المغربي حالياً في تشيلي، في كتابه "من قال أنا؟"، و"يفضح" الشاوي فيه الطريقة التي يتمّ بها صنع النخب، وطبيعة الانتخاب الاجتماعي الذي تمارسه أطراف متعددة، منها داخل مؤسسات الدولة، في شق النخبة وتسميمها، بفعل تناوب عمل "الأيدي القذرة" ونشاط الاستقطابات القائمة إلى تمتيع بمكتسبات ريعية.
كانت الصور التي تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي، في جنازة الزايدي، مؤشراً على تمزق المجتمع السياسي المغربي، ونفاقه بالجلباب الأبيض والطربوش الأحمر والنظارات السوداء، وكأن معنى محمود درويش يصح في هذا المقام "يحبونني ميتاً، كي يقولوا كان منا، وكان لنا".