سينما الروحانيات... هوليوود وقصص الأنبياء
ولمّا كانت السينما تدق على هذه الأوتار، في مكان وزمان واحد، فإنها تقترب بذلك من تلك المساحة داخل النفس الإنسانية المخصصة للجوانب الروحية. وقد اهتمت دراسات أكاديمية عديدة في الغرب بمسألة السينما والروحانيات من زاويتين. أولهما دور السينما في تشكيل هذا الجانب عند المتلقي، أي وسيلة للدخول إلى عالم آخر روحاني سامٍ، وثانياً دور السينما في تجسيد الروحانيات على الشاشة.
قبل أشهر قليلة، نشب نقاش حامِ حول فيلم نوح مثلاً، والذي يعد أحد نماذج العلاقة بين السينما والروحانيات. فالفيلم يعتمد على قصة نوح، عليه السلام، وركّز على الجانب الأشهر في القصة، وهو بناء السفينة والطوفان. وتعد القصة من القصص الديني المشترك عند الديانات السماوية الثلاثة. كما تعد نزوعاً واضحاً من السينما المعاصرة إلى تجسيد الشوق الروحي الذي يمثل ظاهرة لدى فنانين غربيين كثيرين، أخيراً، وهو اتجاه روحي قد يتقاطع مع الأديان أحياناً، وقد يمثل ممارسة روحانية صوفية مستقلة عن الأديان المعروفة في أحيان أخرى.
حاول فيلم نوح تلافي الجدال الديني؛ فلم يسمِ نوحاً عليه السلام بالنبي خلال الحوار، وحتى الله، سبحانه وتعالى، عبّر عنه بكلمة الخالق فقط؛ في محاولة لتجريد القصة من تفاصيلها التي تدخل بالعمل الفني إلى مساحة الجدال الديني واللاهوتي حول الروايات المختلفة لقصة نوح عليه السلام. أما أن المخرج نجح فنياً في هذا أو أخفق، فهذه مسألة أخرى، تتعلق بتفاوت الذائقة الجمالية لكل متلق على حدة ورأي النقاد. وبقيت عناصر القصة الأساسية حاضرةً وبقوة في الفيلم، من حيث مركزية شخصية النبي نوح عليه السلام، وخطايا بني آدم التي ملأت الأرض ومراحل بناء السفينة وسخرية قوم نوح منه وعصيان ابن نوح له، والطوفان بسيوله المنهمرة، وعيون الأرض المتفجرة والحيوانات المحمولة في السفينة. وكان واضحاً أن كاتب العمل متأثر بالقصة التي وردت في الإنجيل، من دون أن يصرح أو يلمح بهذا في العمل.
يمكن وضع الفيلم كأحد المحاولات المهمة في السينما لمعالجة القضايا الروحية، لولا الجدل الذي أثاره في بقاع مختلفة، كالنقاش الحالي حول فيلم الخروج، آلهة وملوك، محيياً إشكاليتي رقابة الدولة على الفنون ودور الفتاوى الدينية في هذا الإطار. ولأن مركز النقاش في الساحة العربية والإسلامية تلافى، أحياناً كثيرة، أصل المشكلة والخلاف حول هذه القضايا، فنحاول أن نركز على ما هو غائب في النقاش بشأن مثل هذه الأعمال السينمائية.
١- إذا بدأنا بما هو ديني، فمن المعروف أن السينما من الفنون المستحدثة، ويحتاج المفتي للقيام بعملية اجتهاد وقياس، لإصدار حكم شرعي بشأنها. ولأن القاعدة الفقهية تقول إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإن خوض الفقيه في هذه المساحة يلزمه أن يلم بجوانب هذا الفن، من ناحية آلية صناعته ودرجة تأثيره. والإلمام بنظرية الفيلم، مثلا، في هذا السياق، ليس ترفاً لكنه ضرورة؛ إذ لا يفلح مجرد القياس على الصورة المرسومة أو التمثال، وهي النماذج الفنية المتداولة في معظم كتب الفقه. وهناك شك في توفر السينمائي الفقيه أو الفقيه الملم بالسينما. وبالتالي، تظل عملية إنزال الحكم الشرعي على هذه الحالة تحوطها الشكوك وجوانب النقص، خصوصاً وأنها، في أحيان كثيرة، تتناول السيناريو أو الصورة المعروضة، مع إغفال السياق الدرامي ونوعية الموسيقى وترتيب الأحداث. وكلها عوامل أساسية في الحكم على أي فيلم. فضلا عن الدخول بالحكم الفقهي، المبني أصلاً على ظواهر الأمور، إلى مرحلة النيات والأحاسيس، وهي أمور قلبية محضة.
كان يمكن إدانة فقهاء كثيرين متصدرين لمثل هذه الفتاوى، من دون الإلمام بهذا التخصص، لولا وجود طبقة من السينمائيين في الشرق مسكونة بحتمية تحطيم التابو الديني، في ظل الكلفة الباهظة لتحطيم ما سواه من تابوهات سياسية لا تتسامح معها الأنظمة أو تابوهات اجتماعية محضة لا يقبلها الجمهور. وبالتالي، نزعت هذه الطبقة إلى إشهار سيف حرية التعبير في وجه أي اعتراض على أعمال سينمائية، تتناول الأديان، وتنجز في بيئات غير ديموقراطية أصلاً، بغض النظر عن قيمتها الفنية. ليبقى أصل النزاع منحصراً بين المدافعين عن قيم التراث والمنتقدين له باسم الفن، في غياب لنقاش سينمائي فني رصين. وهو نزاع فوّت فرصة التعامل مع سينما الروحانيات. هذا النوع من السينما الذي تجاوز نطاق السينما البديلة، أو المستقلة، في العالم ليدخل إلى مجال صناعة السينما الثقيلة في هوليوود، وتجسّد في فيلمي نوح وآلهة وملوك الذي يعرض قصة سيدنا موسى عليه السلام. وهناك حتى تجارب لجمعيات أهلية في هذا الإطار، مثل المهرجان الأوروبي للسينما الروحية ونادي السينما الروحية الذي يجمع محبي هذا النوع من السينما، في إطار محاولات للخروج بالسينما من نطاق تجارية سينما أفلام الشباك إلى جوهر السينما المتحررة من قيود السوق.
٢-سياسياً، هناك مشكلة تتعلق بالسينما، وبالإعلام المرئي بشكل عام أيضاً، في العالمين، العربي والإسلامي، تتلخص في أن العلاقة بين الجمهور والإعلام ينظر إليها كعلاقة الإمام بالمأموم أو الحاكم بالمحكوم. وهي إشكالية تاريخية تتعلق بالشكل الذي دخلت هذه الفنون المستحدثة إلى مجتمعات لم تمسك بعد بزمام أمورها، ولا تزال الدولة تفرض على أفرادها وصاية سياسية، وأحيانا دينية، وبالتالي، العلاقة بين الجمهور وهذه الفنون على علاقة ذات اتجاه واحد من أعلى إلى أسفل. أي من السلطة أياً كان شكلها، وعبر مقص رقيبها قبل أن تصل إلى المتلقي. حتى إن محاولات الإصلاح في هذا المجال لم تخرج عن هذا الإطار وتلك الطبيعة في العلاقة. فكثيرون يطمحون إلى إصلاح أحوال الفنون بإصلاح مقص الرقيب، ونشر فنون ذات مواصفات معينة، وليس تمكين المجتمع من التعبير عن نفسه بحرية، وأن يصبح الفن مرآة جمالية معبرة عنه، شأنه في ذلك شأن الشعر قبل قرون مثلاً. ومن هنا، كان البون الشاسع بين الشرق والغرب في صناعة واستيعاب والتعامل مع فن السينما. فالسينما دخلت إلى الغرب، بعد عمليات التحول الديموقراطي، وأتت دائماً من أسفل إلى أعلى، ولا ينظر لها على أنها إمام يعظ، ولكن مجرد تعبير عن ذائقة المخرج الجمالية، وفق قواعد فنية معينة يقبلها الجمهور، أو يرفضها، من دون فرض نمط من التفكير عليه.
3- إن النظرة الشائعة للسينما على أنها عمل ترفيهي بحت، أو أداة تغيير لحظي في المجتمعات تحد من إمكانية استفادة الجمهور العربي والمسلم منها. فجمعيات كثيرة في العالم تتعامل مع السينما أداة للعلاج والتغلب على المشكلات الشخصية. وأيضا طريقة للارتقاء والسمو الروحي، عبر الأبعاد المتعددة للجمال التي تعرضها السينما من قصة وصور وشخصيات وموسيقى... إلخ. وفي نهاية الأمر، الفيلم، بشكل عام، قطعة جمالية فنية قابلة لتأويلات عديدة، وقد وقعت ضحية أوضاعنا السياسية والفقهية الحالية.