سيْئون... يمن خارج الحرب

05 مايو 2018
أمام قصر السلطان الكثيري في سيئون (جون بولمر/Getty)
+ الخط -
في مدينة سيئون الصغيرة والنظيفة والمتنوعة كمركز لحضرموت الوادي يمكن ترديد النشيد الوطني للجمهورية اليمنية ورفع العلم اليمني من دون مخاوف، وهو أمر لا يمكن القيام به دون تبعات في أية منطقة أخرى في جنوب اليمن، ذلك لأن سيئون هي المنطقة الوحيدة من جغرافيا الجنوب التي لا يوجد فيها تشكيلات من جيش النخبة ولا من الحزام الأمني، كاستثناء قد لا يستمر كثيراً في ظل مساعي التحالف العربي لإخضاع الوادي الحضرمي الخارج عن بيت طاعته والموالي للرئيس عبد ربه منصور هادي حتى الآن.

كانت سيئون مركزاً للسلطنة الكثيرية حتى استقلال دولة الجنوب عن بريطانيا 1967، ثم تبعت إدارياً محافظة حضرموت وعاصمتها المكلا مركز السلطنة القعيطية حتى نفس الفترة، قبل أن تصبح حضرموت المحافظة الأكبر مساحة في الجنوب ثم في اليمن الموحد. ومع إحداث تعديلات محدودة على تقسيم اليمن إدارياً على مستوى المحافظات خلال تسعينات القرن الماضي، ولأن حضرموت تشكل ثلث مساحة البلاد، سعت صنعاء إلى تقسيم حضرموت إلى محافظتين مستقلتين بفصل سيئون/الوادي عن المكلا/الساحل، إلا أن رفض أبناء حضرموت لذلك وسفر وفد من أكثر من سبعين شخصية حضرمية للقاء الرئيس في ذلك الحين علي عبدالله صالح في صنعاء يومها، أدى إلى تعديل المشروع بحيث يحافظ على وحدة المحافظة ويعالج شكاوى أبناء وادي حضرموت من معاناتهم في متابعة مصالحهم في المكلا عاصمة المحافظة البعيدة عن سيئون. وبذلك أصبح وكيل محافظة حضرموت لشؤون الوادي والصحراء يتمتع بصلاحيات المحافظ، وتتبعه إدارات عامة للمكاتب التنفيذية تابعة مباشرة للمركز في صنعاء كمثيلاتها في المكلا، وهكذا أصبحت سيئون مركزاً موازياً للمكلا حتى اليوم، كما كانت قبل الاستقلال.


المنطقة العسكرية الشرقية، التي شملت كل حضرموت ومحيطها، لم تخضع للتقسيم حتى 2012 مع عملية إعادة هيكلة الجيش اليمني التي نفذها هادي، إذ تم تقسيم المنطقة إلى منطقتين عسكريتين (المنطقة الأولى ومركزها سيئون، والمنطقة الثانية ومركزها المكلا). ولا تزال المنطقة الأولى التي تضم 5 ألوية عسكرية موزعة على 16 مديرية في الوادي والصحراء بقيادة اللواء صالح طيمس، بنفس تشكيلة الجيش اليمني قبل الصراع الحالي، فأفرادها من كل مناطق اليمن. وشكلت أخيراً كتائب جديدة من أبناء المنطقة تقوم بضبط الأمن والتعامل مع الأمور العسكرية مع تبعيتها للمنطقة وقيادتها وليس للتحالف كالنخبة الحضرمية.

وحصلت "العربي الجديد" على معلومات خاصة عن وجود استعدادات لتدشين الأقاليم رسمياً بدءاً من حضرموت/المكلا في 22 مايو/أيار الحالي الموافق للذكرى 28 للوحدة اليمنية، مع مباركة هادي لهذه الخطوة باعتبارها رداً على مساعي المجلس الانتقالي الجنوبي الساعي لانفصال الجنوب متضمناً حضرموت، والذي يتخذ موقفاً ضد هادي وحكومته. لكن الخطوة قد تكون أيضا عملاً ناعماً لإخضاع وادي حضرموت للنخبة الحضرمية والتحالف العربي باعتبارها المنطقة الجنوبية الوحيدة التي تتمتع بخصوصية كبيرة خارج قبضة وسياسات التحالف المباشرة حالياً، رغم أن كثيرين من أفراد النخبة الحضرمية هم من مناطق وادي حضرموت وليسوا من الساحل فقط.

مع سيطرة تنظيم القاعدة على المكلا مطلع إبريل/نيسان 2015 صدرت أوامر عسكرية لأفراد معسكرات المنطقة الثانية التي تقع المكلا في إطارها بمغادرة معسكراتهم، أو بشكل أدق تسليم المعسكرات والمدينة للتنظيم حسب ما تقول مصادر عسكرية مطلعة. ولأن أغلب أفراد تلك المعسكرات من أبناء المحافظات الشمالية لم يتمكنوا من العودة إليها حتى بعد استعادة التحالف للمكلا من القاعدة قبل عامين، لتصبح معسكرات المنطقة العسكرية الأولى هي الوحيدة في الجنوب التي تضم أفراداً وقيادات من الشمال، وبين وقت وآخر يجري اتهام المنطقة بالتواطؤ مع "القاعدة".

وحول تلك الاتهامات، قال مصدر خاص في المنطقة العسكرية الأولى، في حديث مع "العربي الجديد" إنه تم اعتقال قرابة عشرة عناصر من التنظيم منذ بداية العام في مناطق واقعة تحت مسؤولية المنطقة، وأنه تم مطلع إبريل إبطال عبوتين ناسفتين زرعهما "القاعدة" في سوق مدينة سيئون. كما رأى أن الاتهامات بالتواطؤ مع "القاعدة" تأتي في إطار عمل منظم لتشويه سمعة آخر جيش للجمهورية اليمنية لم تصله تأثيرات الصراع الراهن ويهدف أخيراً للسيطرة على وادي حضرموت عبر تسليمه للنخبة الحضرمية الموالية للإمارات. وذكر أن تظاهرة خرجت في المدينة قبل أسابيع دعت لإدخال النخبة إلى سيئون، بينما كانت دعوة المتظاهرين أساساً للتظاهر احتجاجاً على رفع أسعار المشتقات النفطية يومها فتم حرفها واستغلالها.

وقال نفس المصدر إن الأمر البديهي هو التساؤل عن تواطؤ جهات أخرى مع "القاعدة" سهلت للتنظيم دخول المكلا وسمحت له بالخروج منها بأسلحته التي نهبها من المعسكرات. وبعدما أشار إلى أنّ المخازن الاستراتيجية للجيش اليمني الواقعة في جبال الأدواس كان يمكن أن تدافع عن نفسها أمام التنظيم لسنوات، ويمكن أن تهزم القاعدة خلال ساعات، تساءل أين ذهب سلاح الجيش منها وهو احتياطي استراتيجي ضخم، ولماذا لم تتمكن المنطقة الثانية التي تقع المكلا في إطارها من هزيمة "القاعدة" وهي تمتلك أكثر من 100 دبابة و 35 مدرعة حديثة، بينما تمت مواجهة القاعدة ودحره بقوة عند محاولته احتلال سيئون في 2014، بعد إحراقه برج المطار ومهاجمة السنترال والبريد والبنوك، ثم لماذا لم تتم محاكمة عناصر القاعدة الذين يقولون إنه تم القبض عليهم في عدن أو أولئك الذين دخلوا إلى المكلا مثلاً؟

وتزايدت عمليات تنظيم القاعدة في وادي حضرموت بعد سيطرة التحالف على المكلا، ثم ارتفعت بعد أحداث عدن الأخيرة في يناير/كانون الثاني الماضي، ولولا تعاون الأهالي مع الجيش وتشكيل كتائب جديدة من أبناء المنطقة ربما كانت الأمور أسوأ، خصوصاً أن أفراد الجيش لم يستلموا مرتبات مايو/أيار 2017 إلا في فبراير/شباط 2018.

أضاف المصدر، كمن يتحدث دفاعاً عن النفس، نحن نواجه القاعدة بامكاناتنا الذاتية، ولا نعلم بضربات طائرات الدرونز إلا من خلال الإعلام كباقي المواطنين فلا يتم أي تنسيق معنا حولها. مع العلم أن القاعدة يقوم بتهريب المخدرات كأهم مصدر دخل له، وقد يكون ذلك تفسيراً لارتفاع عدد ضباط الأمن الذين يغتالهم التنظيم وهم يعملون على مكافحة التهريب وليسوا معنيين بمكافحة الإرهاب بشكل مباشر، وأيضاً من المعلوم أن منافذ تهريب المخدرات تبدأ من شواطئ البحر جنوباً وهي ليست خاضعة لسلطة المنطقة الأولى.

ويبدو تنظيم القاعدة مجرد ورقة مساومة وابتزاز لكل من يرفض الانخراط في معطيات اللحظة الراهنة، فالاغتيالات التي تحدث في الوادي ليست استثناء لما يحدث في عدن أو أبين وغيرها، ويتم توجيه أصابع الاتهام للمنطقة العسكرية الأولى دون سواها لأنها كما يبدو وحدها القادرة على عرقلة السيطرة على الوادي والصحراء لضمهما إلى مناطق هيمنة التحالف.

ولسيئون وباقي مدن وادي حضرموت خصائص مختلفة عن باقي المناطق، فسكان هذه المنطقة يتمتعون بالقدرة على التعايش بكل ود وتسامح مع كل أبناء اليمن، وإن كانت المنطقة لا تزال تشكو من تأميم الحزب الاشتراكي لأراضيها الزراعية خلال السبعينات والتي استعادتها بعد الوحدة.

خلال جولة في المدينة يتضح هذا التعايش جلياً. صاحب محل المفروشات من تعز وصاحب البقالة من إب وتاجر الملابس من وصاب، وسائق التاكسي من صنعاء وكلها مناطق شمالية. قال هؤلاء إنهم لا يسمعون كلمة "دحباشي" التي تطلق في أغلب مناطق الجنوب كتمييز عنصري ضد الشماليين، وإنهم يتعاملون مع أبناء سيئون بدون أن يشعروا بوجود اختلاف أو عداء أو كراهية.

كما استقبلت سيئون آلاف النازحين من صنعاء وعمران وتعز وصعدة، وتضاعفت أسعار إيجارات المساكن لأن هؤلاء النازحين اندمجوا مع أبناء المدينة ولم يتم وضعهم في مخيمات خاصة بهم. كما يوجد سوق للقات رغم الأسنان ناصعة البياض لأبناء سيئون التي تشير إلى عدم تناول أصحابها للقات، فأغلبهم لا يتناولونه إطلاقاً، وبعضهم يتناوله بشكل غير منتظم، لكنهم لا يضايقون من يبيعه ولا من يتناوله. ولمظاهر انفتاح تعايش أبناء سيئون مع كل اليمن وجه آخر. أحد أبناء سيئون كان متوجها لمناقشة أطروحته للماجستير في جامعة ذمار، قال إنهم هناك يمنحونه من المرونة والتفهم أكثر مما يمنحه المشرفون بجامعة حضرموت الأقرب إليه كونه موظفاً حكومياً ولا يستطيع الحضور للجامعة بشكل منتظم.

ولم يعد هناك لليمنيين من نافذة على العالم سوى مطاري عدن وسيئون، وهذا الأخير رغم عناء الوصول إليه عبر رحلة برية تصل إلى 24 ساعة من صنعاء أي ضعف الوقت الذي تحتاجه الرحلة إلى مطار عدن إلا أن كثيرين يفضلونه.

نشاط المطار الذي تضاعف أخيراً، ضاعف النشاط التجاري والعمراني في المدينة لتعود فنادق كانت قد توقفت عن العمل لتوقف السياحة خلال السنوات الأخيرة لممارسة نشاطها، وإن كانت المدينة تشهد أزمة في توفير عمال البناء والكهرباء والسباكة الذين يأتي أغلبهم من المحافظات الشمالية. وهناك نهضة تجارية كبيرة فبعض الوكالات الكبيرة فتحت فروعا كبيرة أخيراً في سيئون للمبيعات والصيانة، وتم افتتاح أكثر من 8 مصانع للمياه المعدنية خلال سنوات الحرب، بعد أن كان هناك مصنعان فقط.

كما أن المنطقة باتت مقصداً للعلاج. أحد أبناء صنعاء كان يراجع أوراقه الطبية في مقهى الشاي الحضرمي الشهير في سيئون، وعند الحديث معه نفى أن يكون مسافراً للخارج للعلاج على غرار كثر، قائلاً إن الأطباء في سيئون يتمتعون بالأمانة والكفاءة مقارنة بنظرائهم في أية مدينة يمنية بما فيها العاصمة صنعاء، وأنهم يجددون خبراتهم وأجهزتهم باستمرار، وأنه يفضلهم من خلال تجربته على أطباء مصر والأردن، وهما أكثر دولتين يقصدهما اليمنيون للعلاج.

في سيئون أيضاً يوجد فرع حزب الإصلاح الوحيد الناشط في مناطق الجنوب دون مضايقات، وقام طاقم مسلسل (همي همك) الشهير في اليمن بتصوير حلقاتهم للعام الماضي في وادي الذهب بحضرموت الوادي لعدم قدرتهم على ذلك في مناطق تهامة غربا كما جرى في الأجزاء السابقة من المسلسل.

وتشتهر سيئون إلى جانب وادي حضرموت عموماً بزراعة أجود أنواع البصل الذي يصدر إلى السعودية وعمان والإمارات ومناطق اليمن الأخرى، وأغلب العمالة في هذه المزارع يأتون من الشمال. كما أنهم يجلبون حيوانات الماعز والأغنام الصغيرة من الصومال وهي صغيرة لتربيتها على الأعلاف المحلية فتتغير صفاتها وتصبح لحومها أكثر لذة كمثيلاتها اليمنية.

في سيئون أيضاً أكاديمية للمتفوقين والموهوبين ساعدت عشرات الشباب على تطوير مواهبهم من الرسم والخط العربي إلى الروبوت والذكاء الاصطناعي. وشاركت الأكاديمية في عشرات المسابقات الدولية للروبوت وأحرزت مراكز متقدمة تفوقت في بعضها على المشاركين من أميركا وبريطانيا. وحصد هؤلاء الشباب أواخر مارس/آذار الماضي ست جوائز في البطولة العربية المفتوحة للروبوت في شرم الشيخ كما قال المهندس سالم السبايا رئيس الفريق في حديث مع "العربي الجديد".

وإزاء هذا الواقع، تبرز تساؤلات  حول ما الذي سيضيفه دخول النخبة الحضرمية إلى سيئون، المدينة التي تعيش بخصوصيتها المدنية الجميلة، وتطور نفسها بهدوء وصمت، وتتقبل كل الوافدين إليها دون تمييز، وكيف سينعكس عليها قرار تدشين إقليم حضرموت رسمياً إن حدث في مايو القادم كما يفترض. وهل سيسمح لسيئون بالاستمرار في يمنيتها وتسامحها وتطورها، وهل سيستمر علم الجمهورية اليمنية يرفرف في سمائها دون منازع ولا منافس كاستثناء غير مرضي عنه كما يبدو.