شخصية عربية مركّبة
تبدو شخصياتنا الجماعية، كمذاهب أو إثنيات أو أوطان، مركّبة في أحيان كثيرة. نحتاج إلى بعض اللمسات من وقتٍ إلى آخر، لنصبح أكثر نضجاً وجنوناً. قد نتقلّب في شخصياتٍ كتقلّب شخصيات الممثل الأميركي، صامويل آل جاكسون، أو بصورة أكثر ميلاً إلى المراهقة، كشخصيات مواطنه، جوني ديب. الفرق الوحيد أن الاثنين يستفيدان من هوايتهما التي جعلاها مهنتهما لكسب المال الاحترافي، حتى ينتصرا على تحدّياتهما الخاصة في حياتهما الشخصية.
هنا الفرق. نحن لا ندرك هذا، كشعوبٍ عربية في الشرق الأوسط. تلبّسنا شخصيات البطولة والاستقامة والشجاعة والشرف والتضحية، ولم نكن مرة أبطالاً، ولا مستقيمين ولا شجعان ولا شرفاء ولا مُضحّين، وإن حصل فلومضة عابرة في ماضينا. اصطدمنا بالحقائق مرات كثيرة، لكننا أشحنا بوجهنا عنها، بحثاً عن مزيد من الكذب المخادع، أو تلبّس كل الشخصيات، عدا شخصيتنا. هكذا مرّ تاريخنا أمامنا. غزوات متلاحقة. مستعمرات بُنيت على أنقاض حضارتنا. نتفاخر بها على طريقة "الاحتلال كان هنا" أو "الاستعمار مرّ هنا"، ونخلّدها كآثار قيّمة، من دون التطلّع إلى آثارنا نحن، وتراثنا نحن، لنبني عليه غدنا نحن، لا غد الآخرين بواسطة دمائنا.
عبروا ويعبرون، شعوب من كل حدبٍ وصوبٍ. نشهد على عبورهم، من دون فعل شيء. لا نريد فعل شيء. تنتابنا المشاعر، أحياناً، في عدم قدرتنا على تحقيق ما نريد، أو فعل ما نشاء. مع أنها مشاعر كاذبة، لكننا نصدقها. تاريخنا يقولها. أضحت الحرب في ديارنا، ولم نقم ولا نقوم، وحتماً لن نقوم بما يمكنه إبعاد الكأس المرّة عنا. خصوصاً في الزمن الحالي الذي بات كل شيء فيه خارج السيطرة، وفقدنا معه المبادرة.
بتنا مثل منزل مشرّع الأبواب، لا الضيافة فيه مستحبّة، ولا الكرم فيه عنوان. بل باتت الدار مرتعاً للصوصٍ جاؤوا من مشارق الأرض ومغاربها، كما جاء آباؤهم وأجدادهم قبلهم. يحملون ما يريدون من أرضنا، ويعودون إلى بلادهم، تاركين لنا آثارهم التي سيتفاخر بها من سيأتي بعدنا، كمَعلَم سياحي ـ تاريخي ـ اقتصادي، واجتماعي، بما أن الغزوات أمست جزءاً من خلفياتنا الثقافية والاجتماعية.
هذا ليس قدراً، بل خياراً اخترناه بملء إرادتنا. يكفي النظر إلى شرق شرقنا الأوسط وغربه. إيران، بلاد فارس، عاشت من جديد. أوروبا، روما الجديدة، صنعت وحدتها بعد انهيار كتلة شيوعية حديدية. أما نحن، فأضعنا المزيد من فلسطين، وغرق لبنان في حربه الأهلية، واليمن في انقساماته التي لا تُحصى. السودان سودانان. ليبيا في مستنقع لبناني. مصر عادت إلى العسكرتاريا. سورية تموت باسم النظام. العراق لم يعد مارداً. تونس وحدها نقطة مضيئة في عالمنا الدامس.
كل هذا ليس قدراً بل خياراً. اخترنا مشاهدة الآخرين كيف يعملون، وكيف يصطادوننا. اخترنا أن يتمّ التلاعب بنا، بين امبراطوريات تتكرّر وتتناسخ. ينقصها فقط عودة المغول مع جنكيز خان وهولاكو من أقاصي الشرق. لم نشأ التدخل لحماية شرقنا وعالمنا، وإذا ما تدخلنا، فلكي نخوض صراع قبائل دهرياً، لم تدركه نهاية، وقد لا تدركه، بدلاً من اعتناق حرية واحدة، هي حقٌّ لنا وللأجيال الآتية.
ليست شخصياتنا مركّبة بمفهوم تعدديتها كقدر، بل مجرد خيار اخترناه، لاعتقادنا أنه خيار سهل وليس متعباً، على الرغم من الكلفة العالية التي تكبّدناها عبر التاريخ. غداً، حين تُدوّن أحداث عالمنا الحالي، ستُلخّصه عبارة واحدة "سكان هذا الشرق أحبوا القشور والتفاصيل المثالية حتى الكمال، من دون تطبيق أي بندٍ منها، وتحوّلوا عن القضايا الجوهرية لشعورهم بنقصٍ، أدّى إلى عجزٍ من أجل تحقيق انتصارهم فيها". قد يكون غريباً إدراك انشغال أمة بتفاصيل من دون الجوهر، ربما لأن ذلك متأصلٌ في أدبياتنا، حين نبكي حبيباً أو عاشقاً في أغنياتنا وقصائدنا، في تكريس لتاريخنا "البكّائي".