يخصّ المفكر البوسني أسعد دوراكوفيتش "العربي الجديد" بفصل من كتابه "من الاستشراق إلى علم الشرق" الصادرة ترجمته العربية حديثاً في عمّان، وهو عمل يُشكّل الاطلاع عليه مناسبة لنقرأ واقع ثقافتنا الممتد على قرون طويلة في مرآة حضارية أخرى، غير المرآة الغربية التي هيمنت على قراءاتنا بل وصادرتها في أحيان كثيرة.
تعايشت التراثات الأدبية للدائرتين الثقافيتين الكبيرتين، الغربية والعربية الإسلامية، على الدوام في ظل نمط خاص من سوء الفهم الجمالي والشعري. إن الأعمال الريادية للثقافة العربية الإسلامية لا يُنظر إليها في الغرب بالطريقة نفسها التي ينظر إليها في الشرق. وهذا ما بيّنته على النحو الأفضل أعمالهما الممثلة لهما، أو مجاميع الأعمال corpuses.
فمجموعة القصائد المذهّبات السبع للجزيرة العربية (المعلقات، القرن السادس) هي تمثيل رائع للكتابة العربية الإسلامية القديمة، والتي لا يمكن مقارنة مرجعيتها في هذا التراث بأية مجموعة شعرية أخرى. ومع ذلك، ففي الغرب- في الترجمات المتكاملة التي لا يتناسب تواترها مع أهمية المجموعة، ثمة تفسير آخر للاهتمام غير الكافي بها- فشلت على مدى قرون في الانتقال من دائرة اهتمام الفيلولوجيين المتخصصين أو من الدوائر الأكاديمية الضيقة. هذا، بالطبع، "ضارٌ" للتراثين: فالتراث العربي يُحرَمُ من إعادة تقديمه إلى تراث آخر من خلال أحد أشكاله الأكثر استثنائية، والتراث الغربي يُحرم من اللقاء الكافي مع المجموعة الأكثر موثوقية للحقبة القديمة من ثقافة ذات أهمية عالمية.
ثمة سوء فهم أكبر حتى في تلقي القرآن. ففي الشرق العربي الإسلامي، لا يعدّ القرآن فقط المصدر والمنبع المطلق والمكتفي ذاتياً للدين، بل هو أيضاً، في الوقت نفسه، معجزة الكلمة، بحيث إن له في هذا التراث تأثيراً قوياً بوصفه معجزة حقيقية من معجزات اللغة والإنشاء: قوته ومرجعيته لا تستندان فقط إلى مجادلة الأيديولوجيا، بل أيضاً إلى جمالياته.
ويمكن للثقافة الغربية أن تتحدث عن القبول العام أو الإنكار للقرآن على مستوى الأيديولوجيا، لكن هذا التصور يفشل عموماً في أن يأخذ في الحسبان قيمه الأدبية والجمالية الرفيعة، التي تستعمل، في حقل اللغة العربية المجادلة الجمالية لإثبات طبيعته الأدبية الخارقة للطبيعة super natural جمالياً وأسلوبياً ولغوياً.
ومن جانب دارسي اللغة العربية، فإننا مدركون لحقيقة أن المستوى الأدبي والجمالي لنص القرآن لا يمكن ترجمته بالكامل، أو على الأقل إلى حد كبير، إلى أية لغة أخرى: يظل معجزة الكلمة في اللغة العربية. هذا هو السبب في أن القرآن يُقرأ بشكل مختلف في كل ترجمة - ولا يعرفه الغرب إلا من خلال الترجمة - وهو السبب في أن تصوره في هذا الجانب المهم جداً يبقى ناقصاً. مع ذلك، ثمة مثال رئيسي مختلف.
في الغرب، منذ تقديم غالان الأول لكتاب ألف ليلة وليلة إلى أوروبا في أوائل القرن الثامن عشر، أعجبت به كل الأجيال، من كل الشرائح الاجتماعية والمستويات الفكرية: فهذا عملٌ ينظر إليه بوصفه معجزة من معجزات السرد والإنشاء، كعمل أساسي في تاريخ الثقافة.
وفي الوقت نفسه، ينظر إلى ألف ليلة وليلة بشكل مختلف في الشرق: في العصر الذهبي للثقافة العربية الإسلامية، فهو لم يتم تضمينه في حقل الأدب (بالمعنى الأوسع للمفهوم)؛ بل تُرك، بدلاً من ذلك، للأذواق الشعبية والتسلية. وفي يومنا هذا، في الاستشراق القائم على استشراق إدوارد سعيد بشكل معلن للشرق، يفشل كتاب ألف ليلة وليلة في اكتساب منزلة عمل فني ذي قيمة خاصة، رغم أن الكتَّاب العرب، المتعلمين في الغرب وهم أنفسهم ربما عارفون جيدون إلى حد بعيد بتراثه الأدبي، يحاولون أن يرفعوا شأن ألف ليلة وليلة وينشدون الإلهام منه. أما في الشرق فإنه يقرأ وينظر إليه بشكل مختلف.
ويمكن عرض أمثلة أخرى من تاريخ الأدب لإثبات هذه القاعدة، رغم أنه يكفي إدراج أعمال ومجاميع من أمّهات التراث ذاتها. وكذلك تنبغي إضافة اختلافين مهمين بين التراث العربي الإسلامي والتراث الغربي إلى ذلك. الأول، إن التاريخ الأدبي العربي هو غنائي بشكل عام، إذ لا توجد أية ملحمة في التراث؛ وهذه حقيقة أدبية وتاريخية تتطلب دراسة مستقلة.
والثاني، إن هذا التراث ليست فيه مسرحيات. فالدراما لم يتم إدخالها إلى الأدب العربي إلا في العصر الحديث، رغم أن قيمتها الفنية، وإنتاجها المتواضع وتلقيها الممانع نسبياً كل ذلك يبقيها سلعة مستوردة an import من التراث الغربي أكثر بكثير من كونها تعبيراً فنياً عربياً - إسلامياً أصيلاً. وقد تجاهل هذا التراث كتاب فن الشعر لأرسطو، رغم أنه ترجم عدة مرات وأن أرسطو خلّف تركة مهمة في الفلسفة.
من الواضح أنه كان ثمة صورٌ من التماسّ في اتجاهين بين التراثين في وقت مبكر تماماً، لكن اتصالهما الأكثر تأثيراً والأكثر إثماراً لم يحدث على مستوى أكبر، أو بالطريقة التي حدث بها في بعض المجالات الروحية الأخرى. ثمة استثناءات، أكثر حداثة، بشكل خاص وفذة تماماً - مثل غوته (1749 - 1832) على أحد الطرفين، أو جبران خليل جبران (1883 - 1931) على الطرف الآخر - لكن هذه تظل مجرد استثناءات وأعمال فردية، في حين أن التراثين الأدبيين بحد ذاتهما بقيا منفصلين تاريخياً.
إن السبب لعدم التواصل بين هذين التراثين متشعب: فالظاهرة أعقد وأعمق تجذراً في التاريخ من أن تفسر بسبب واحد بسيط. السبب الأساسي لمثل هذا الفصل المستمر يكمن في المصادر المختلفة للتراث العربي الإسلامي، حيث توجد عوامل أساسية محددة، مترابطة بشدة: فلسفة الزمن وفهم موقع الإنسان في العالم؛ وخصوصية الشعرية العربية، بالإضافة إلى الشعرية العربية الإسلامية.
إن مذهب شعرية poeticism الأرابسك هو المبدأ البنيوي والجمالي الأساسي، السائد دائماً في الفن العربي الإسلامي، كما في الفن الشرقي الإسلامي عموماً، خصوصاً في الأدب الذي هو شكل الفن الذي وجدت فيه العبقرية العربية والعربية الإسلامية تعبيرها الأكثر أصالة وقدرها الأكبر من الثقة المسوّغة بالنفس. وينبع الاختلاف المذهل عن أدب الثقافة الغربية من الشعرية العربية الإسلامية للأرابسك، الذي هو عاجز - أو غير راغب بشكل قانع - عن التكيف مع أي تراث قائم على مسلمات شعرية مختلفة. وهذا، بالطبع، يولد تصورات مختلفة للقيم الفنية العليا، لأن ما يُقيّم عالياً في التراث قد لا يكون خاضعاً لحكم القيمة نفسه في تراث آخر.
إن شعرية الأرابسك، بوصفها شعرية معيارية بشكل جلي، قد تم إعلاؤها في أبكر مراحل الإنتاج الأدبي الفني لهذا التراث - في العصر العربي الجاهلي، كما في المعلقات الذهبية بوصفها أشهر مجموعة شعرية والتعبير الشعري عن التراث العربي - الإسلامي ككل.
أما الأرابسك كشكل زخرفي فقد تم إعلاؤه في القرن التاسع، في أرابسك الأندلس، واكتمل لاحقاً في العالم الشرقي الإسلامي. ومع ذلك، فإن نوعاً من الأرابسك لا يمكن اختزاله إلى زخرفة إسلامية نمطية قد وجد أقدم بكثير - كمبدأ تكويني وجمالي - في أفضل الشعر الجاهلي، وفي القرآن وسلسلة كاملة من الأعمال المهمة، بما فيها ألف ليلة وليلة التي يطغى عليها هذا المبدأ ذاته في التكوين وعلم الجمال. إن الأرابسك الإسلامي الزخرفي هو مجرد تعبير واحد عن هذا المبدأ الجمالي، الذي قرّر أيضاً فن الكلمة بوصفه السمة السائدة للتراث عموماً.
■ ■ ■
لقد ذكرنا سابقاً أن شعرية التراث الجاهلي (خصوصاً المعلقات كأبرز مجموعاته الشعرية)، إضافة إلى مجمل التراث الأدبي العربي الإسلامي اللاحق، هي شعرية الأرابسك. فالقصائد المكونة من حوالي مئة أو أكثر من الأبيات مؤلفة بطريقة بحيث يكون بيت أو اثنان وحدات مستقلة المعنى. إن سلسلة من هذه الوحدات في قصيدة واحدة تشكل وحدة معنى من "مستوى أعلى" - ثيمة أو موتيف، والمزيد من هذه الثيمات أو الموتيفات تشكل قصيدة. كل هذه تجمعها العناصر المحددة للشكل - الوزن والقافية الفريدين.
إن السمة الأساسية للقصيدة في هذا التراث هي بشكل واضح نوع من "التذرر/ التذري" atomisation، تجزيء من مستوى البنى الصغرى إلى أعلى الوحدات البنيوية. وينبغي أن يوضع في الذهن أن هذا التقطيع يتميز بتوازي parallelism العناصر. وهذا يشكل نموذجاً لشعرية الأرابسك. إن قافية القصيدة ووزنها الفريدين يشبهان جذع الأرابسك، نظراً لأن "محور" - بسبب عدم وجود كلمة أفضل - البنية هو مجرد وهم.
في ضوء هذا التقطيع والتوازي، وإضافة إلى التناسج الأرابسكي، النوعي، للتفاصيل في الكل، يمكن استنتاج أن مواقع العناصر ليست ثابتة بمثل هذه الطريقة لتجعلها غير قابلة للتغيير. هذا هو السبب في أنها كانت شائعة، ولذلك ليس مفاجئاً بشكل خاص في الشعر العربي التراثي (وفي تراثات أخرى كثيرة من الدائرة الشرقية - الإسلامية)، أن توجد نسخ أو طبعات مختلفة من القصيدة الواحدة، مع تغيير مواقع الأبيات واعتبار كل موقع صحيحاً بالقدر نفسه.
هذا ممكن فقط في بنية الأرابسك، حيث يكون المعنى مأسوراً ومكتفياً بذاته في بناه الصغرى وعناصر الشكل ليست العوامل الرابطة من النوع الذي يتطلب تسلسلات متماثلة بشكل مطلق من البنى الصغرى في كل الأوقات. ثمة حالات متواترة في هذا التراث "تفتقد" فيها إحدى طبعات قصيدة بضعة أبيات نجدها في طبعة أخرى، لكن القصيدة تبقى غير ممسوسة- إذ تكون جذابة بذاتها ولا مبالية بفضل بنيتها الأرابسكية. وبالنتيجة، تكون هذه القصيدة غير مكترثة بأيّ بنية تراتبية:
إن ما يصفه التراث الغربي بأنه بداية- وسط- نهاية لا يراعى إلا قليلاً هنا، وقد ينظر إليه على أنه غير ضروري، وتكون تبعات هذه الشعرية عظيمة للغاية بحيث لا يمكن استيعابها إلا بصعوبة: إنها تقع بين ما ندعوهما التراثين الغربي والشرقي - الإسلامي؛ بسبب الاختلاف في الرواية بين التراثين كما هو مبين أعلاه. ومع ذلك كان للقصيدة العربية نمط تقليدي من الثيمة أو الإنشاء (إذ كانت تفتح بمقدمة غنائية للحبيبات - النسيب، وتنتهي، على سبيل المثال، بمديح النفس - الفخر)، لكن هذه مسألة معيار عقلاني في الشعرية، أكثر مما هي مسألة الشعرية نفسها، إذ إن القصيدة الواحدة يمكن أن تفتتح بأبيات الفخر - في الواقع من الممكن تماماً إعادة ترتيب موتيفاتها وبناها الصغرى بشكل مختلف - بدون أية تبعات على القصيدة ذاتها.
ومن المثير للاهتمام أن نقارن هذا الدور وبنية التكرار بالتكرار في شعر الثقافات والشعوب الأخرى. فقد أشار رومان ياكوبسون إلى وجود التوازي في الشعر الفولكلوري الروسي، وفي الشعر الهندي القديم، وفي الفولكلور الأوغرو - فنلندي، كما في النَّظم الصيني والكتابي (التوراتي). لقد ركز على التوازي والتقابلات النحوية، وهي الأدوات نفسها التي اعتقد سورياو Souriau أيضاً أنها كان لها الدور نفسه الذي تلعبه طريقة الاستفادة من البنى في الفنون الأخرى. وقد أدت هذه الوفرة في الأصناف وظائف مختلفة. ففي بعض الأحيان خدمت هدف الاستذكار السهل، وفي بعض الأحيان خدمت هدف خلق موتيف فكاهي، في نوع من الحشو tautology، وفي بعض الأحيان يصبح التوازي النحوي النابض الدافع للفعل.
إن التكرار هو أيضاً إحدى السمات الأساسية للسرديات في الثقافات التي لا تعرف القراءة والكتابة، وأحد الإجراءات الجمالية الأساسية (ربما يكون السبب الغالب، في الحقيقة، هو التقنيات التذكيرية mnemotechnics. إن الجناس الاستهلالي alliteration، تكرار المقاطع بقافية واحدة، الظاهرات العروضية - كل هذا هو الأساس للشعر عموماً، التي تُعكس فيه الأبيات المنفردة أحدها في الآخر وتُكرر في أنساق مختلفة. هذا هو السبب في أن تودوروف أشار محقاً إلى التنظيم المكاني للخطاب الشعري كعنصر سائد من عناصره.
ومع ذلك، فإن ثمة بعض السمات النوعية لهذا في شعرية التراث الجاهلي: لا نصادف النمط نفسه من التكرار، ولا نصادف بالتأكيد أي تقابل للمقولات النحوية. إن (الأبيات) قابلة للاستبدال بشكل متبادل وليست قائمة على التضاد. كما رأينا، أنها مسألة تنظيم عدد زوجي في أبيات، يجمعها بعضها إلى بعض الوزن والقافية، وإن تكن بدون تكرارات لفظية وافرة.
بالطبع، هنا أيضاً تستعمل القافية كعنصر ضامّ. يجمع قطعاً مختلفة ويسهل استذكار الشعر. إن هذا المثال تحديداً هو الذي يوضح بالشكل الأفضل الطبيعة الأرابسكية للشعر الشرقي- الإسلامي، حيث يمكن بسهولة تحريك أجزاء مختلفة ومبادلتها في ما بينها، وحيث يمكن العثور على موتيفات مقياسية مختلفة في قصائد مختلفة كالمعلقة.
إن غياب البنية الخطية (بداية - وسط - نهاية) المعلنة هو المبدأ الشعري الحاسم الذي بسببه يعزز العمل الفني العربي - الإسلامي التراثي البهجة أكثر مما يعزز التوق. إن المبدأ الشعري بداية - وسط - نهاية، الذي رسخه أرسطو بمثل هذا الشكل المقنع والسائد بهذا الشكل في التراث الغربي لزمن طويل، هو في الواقع مهم بشكل خاص في الدراما - الدراما التقليدية لا يمكن تصورها بدونه، وهذا أحد الأسباب الرئيسية في أن التراث العربي لم يعرف الدراما فهي متعارضة مع الفلسفة العربية - الإسلامية، ومع روح ذاك العالِم ومع تراثه. لأنه بقبول المسلّمات الشعرية لأرسطو حتى بشكل افتراضي، فإن هذا التراث الوافر الثراء، المكتفي بذاته، سيكون قد ارتكب نوعاً من الانتحار. لقد أظهر التاريخ أن هذا التراث في انعزاله الذاتي قد قام باختيار فطري، معلل لصالح النزعة التراثية بدلاً من اختيار إلغاء الذات.
وبعد العمل الجادّ لإعلاء فن الشعر poetics على يد أرسطو، تأتي شكاوى القرطاجني (القرن الثالث عشر) بأن طريقة أرسطو غير مفهومة، نظراً لأن أرسطو لم يكن قد عرف التراث الشعري العربي - الإسلامي؛ ولو أتيح له ذلك لكان قد تعلّم الكثير منه ولكان بذلك قد استطاع أن "يغني قواعده الخاصة به".
ومن الضروري، بالطبع، أن نشير إلى أنه في الشعرية الأرسطوية، بقي التراث العربي - الإسلامي في أرض صحراوية قاحلة، لأن هذا التراث أكد تصالح الإنسان مع العالم، وتناغمه معه، لكن أيضاً لأنه كان ثمة مثل هذا الإدراك القوي لعدم تدخل الإنسان بلغة الخلق. ولقد ذكرنا من قبل أن الداخل الاستشراقي الهيغلي لا يتحقق في الخارج؛ بل، بالأحرى، يتكشف فيه بتناغم تام. وينبغي القول أيضاً إنه في التاريخ العربي - في العصر البطولي القديم من هذه الثقافة - لم يكن ثمة أنصاف آلهة كأسمى تعبير عن رغبة الانسان في التداخل في مجال اختصاص الله والقدرات الإلهية.
وتبدو هذه هي العناصر الأساسية لتمايز العالم الحديث أيضاً: الغرب يُحدث التدخلات الجذرية في العالم، متحدياً بشكل واضح بقاءه بالذات، في حين أن الشرق لا يزال يحلم بنهضته الخاصة، يائساً في وجه التدخلية الجائحية العالمية للغرب.
على كلٍّ، بالعودة إلى القضية الأساسية لهيمنة شعرية الأرابسك، ثمة قطعتان أشير إليهما في بداية هذه الورقة يجب أن تؤخذا في الاعتبار هنا أيضاً.
أدى مبدأ بنية الأرابسك في القرآن إلى الكمال الذي لا يبزّ. فكل سورة، وكلّ آية فيه هي مكتفية بذاتها ومكونة، في الوقت نفسه، من سلسلة من البنى الصغيرة (المتوازية). علاوة على ذلك، فإن ترتيب الآيات هو شرطي، (من) عمل الإنسان، أكثر مما هو توقيفي من عمل المؤلف الجليل Sublime Author. لا شك في أنه كان بالإمكان صنع متوالية مختلفة من الآيات، بدون أي تأثير على مغزى الوحي.
مع ذلك، فإن القرآن استثنائي بأي حال، لأن شكله- خلافاً للأعمال الأخرى في حقل الفن العربي- الإسلامي- غني بالمضمون بحيث إنه بالكاد ينجح في حمله. لا يوجد في أي مكان آخر- كما يوجد في القرآن- مثل هذا السحر المسخّر للتغلب على خصوصية القطع الفردية ودمجها في المجموع الفخم، كما أنه لا يوجد في أي مكان آخر في ذاك التراث مثل هذا التجلّي الفخم للمضمون- الشكل.
إن بنية اللغة العربية مفضية بشكل خاص إلى شعرية الأرابسك. وينبغي أن يجري تحليل مستقل لذاك المستوى، نظراً لأن هذه الظاهرة تستحق ذلك بالتأكيد، لكن لا بد من توضيح أشياء قليلة هنا.
تتميز اللغة العربية، خصوصاً العربية الكلاسيكية، بتخلف نسبي في أشباه الجمل التابعة المعقدة. فاللغة تطغى عليها الجمل التي تضم أشباه جمل مستقلة. إن الرابطة الضعيفة بين أشباه الجمل هذه إنما تؤكدها حروف العطف المحققة للتناسق، التي، في الواقع، تؤكد توازيها. تضاف إلى ذلك المقدرة فوق العادية للغة العربية على إحداث المجاورة على أي مستوى تركيبي، فمن الواضح أن توازي الأرابسك وتقطيعه هما في صميم هذه الثقافة وروحها. أما في ما يتعلق بمورفولوجيتها، فإن الكلمات تنشأ عن الكلمات الجذرية (المصادر) الثلاثية الحروف الساكنة، التي تنشر دوائر من الثروة المعجمية عبر الحقل الدلالي عن طريق الاشتقاقات والتصريفات الدقيقة. إنه دوماً انتصار المبدأ الواحد نفسه.
إن مبدأ الأرابسك قد حاك نسيج ألف ليلة وليلة- القطعة (الأدبية) الممثلة شعرياً للتراث العربي- الإسلامي، والممثلة أيضاً للتصورات المختلفة في التراثين. ففي التراث الأدبي العربي- الإسلامي، الذي يطغى عليه الشعر، اعتبرت ألف ليلة وليلة في المرتبة الثانية في أحسن الأحوال، في حين كان موقعها في منظومة قيم التراث الغربي مختلفاً تماماً- عالياً جداً، في الحقيقة.
إن أحد الأسباب الأساسية للشعبية العامة والتصفيق الأكاديمي العالي لألف ليلة وليلة ينبع من بنيتها، أو بالأحرى طبيعتها السردية، التي سحرت الغرب فوراً وإلى ما لا نهاية، في حين أن بنيتها الأرابسكية، التي تمثل ألف ليلة وليلة ذروتها، كانت طبيعية تماماً بالنسبة للغة العربية وأدبها، ومن هنا كانت خالية من أية صفات إكزوتيكية (غرائبية): ما يسحر الغرب هو كلي الوجود في الثقافة العربية - الإسلامية، جلي في جوهر ثقافتها وفلسفتها.
تحاول ساندرا نداف Sandra Naddaf وهي تناقش ألف ليلة وليلة، أن تقيم توازياً بين الأرابسك الزخرفي كأسلوب بحد ذاته، وكهروب من تمثيل الصور البشرية ومن الفن التمثيلي عموماً، والأرابسك السردي كهروب من تمثيل العالم "الواقعي"، بخلق "كون سردي" كأسلبة للحياة. فهي بذلك تتحدث عن انحراف عن المبدأ المحاكي mimetic principle كسمة مهمة لفن الأرابسك الزخرفي أو الأدبي( ). فالأرابسك لا يحيل إلى عنصر خارجي، بل بالأحرى ينسب "حمولة المعنى" إلى العلاقة بين كل عنصر على حدة والعناصر السابقة أو التالية له؛ الأرابسك، في جوهره، هو أساساً ذاتي المرجعية self referential.
إن أسلبة للـ أرابسك يتم التعرف عليه بسبب مبدئه المضاد للمحاكاة، حيث الخطاب السردي يرسخ الموقع العقلي للواقع النصي؛ لهذا ليس مفاجئاً أن ما بعد البنيوية والأدب ما بعد الحداثي الغربيين، وهما نفساهما يتخليان عن المحاكاة mimesis لصالح القص diegesis، قد فُتنا بألف ليلة وليلة وما تمثله. ومع ذلك، ثمة شيء ما آخر يتعلق بها يستحق الانتباه.
في الغرب، يُقرأ كتاب ألف ليلة وليلة مثل قطعة راعت إلى الحد الأعظم مبدأ البداية - الوسط - النهاية الشعري الأرسطوي: في البداية ثمة وحشية شهريار، تهديد مباشر ضد حياة شهرزاد، ويندفع القارئ عبر قصة تلو الأخرى نحو النهاية، أي نحو حل resolution. هذه هي عادة الخطية، التي تولد التشويق والرغبة.
ثمة إيضاح بارع لمفهوم الرغبة في الشعرية الغربية موجود في كتاب "القراءة من أجل الحبكة" Reading for the Plot من تأليف بيتر بروكس Peter Brooks. يرى بروكس أنّ السردية ذاتها هي شكل من الرغبة الإنسانية والحاجة إلى قصها هي حاجة إنسانية أولية إلى سحر وإغواء وحتى إخضاع المستمع. وليس مفاجئاً أن هذا المؤلف يرى ألف ليلة وليلة بوصفها قصة كل القصص، لأن السردية، وفقاً له، يجري تقديمها نابضة بالحياة توقظ وتديم الرغبة، مؤجلة لحظة تحقيقها.
ومن المثير للاهتمام أن نفهم كم يقرر التراث الشعري القراءة المختلفة للعمل الواحد في الغرب وفي الحضارة العربية - الإسلامية. ينبغي تأكيد أن هذا لا يحيل فحسب إلى القراءة من قبل منظري الشعر ودارسيه، بل أيضاً من قبل أيّ قارئ عادي. هذا يعيدنا إلى بروكس وعنوان كتابه، الذي يقدم بشكل واضح قراءة من أجل الحبكة (في الحقيقة، قراءة بسبب الحبكة)، أي، لكي نحل الرغبة في الإنهاء وبذلك نحرز الإشباع. لهذا فإن بروكس مهتم بالدرجة الأولى بقضيتي التسلسل والتوالي الزمنيين؛ أي الحركة التقدمية للحبكة، باتجاه النهاية.
إنه مهتم بالحدود الخارجية للنص، حوافه وخطوط تحديده (وسيتضح أن لرولان بارت نظرة مختلفة حول ذلك ويبدو مفهومه أقرب إلى الشعر الشرقي - الإسلامي). ولا يوجد مع ذلك، مثل هذا التوالي الواضح في شعرية الأرابسك، بسبب الزمن اللاخطي، ولأن الهدف من تأليفه ليس الحصول على تعاقب خطي واضح. لهذا، تقتضي الشعرية العربية - الإسلامية قراءة مختلفة: النوع من القراءة الذي يستمتع فيه بكل لحظة منفردة، وحيث لا يكون الهدف هو القراءة، بل الشعور باللذة والبهجة الجليلة لأجزاء النص المختلفة.
وبسبب هذا المبدأ لبنية الأرابسك يمكن قراءة ألف ليلة وليلة بالطريقة التي يقترحها بروكس. وبالانتقال من: "البداية" إلى "الوسط"، يدرك القارئ أن كل قصة على حدة هي كلٌّ (مستقل)، لكنها أيضاً جزء لا يتجزأ من كل آخر، كما في (لوحة) أرابسك. علاوة على ذلك، فإن القراء الذين هم أنفسهم معتادون على هذا المبدأ البنيوي، ينسون في أحيان قليلة - مع أن ذلك بشكل أكثر تواتراً- قدر شهرزاد عندما تأسرهم سلسلة لا نهاية لها من الأقدار الأخرى.
بذلك تُحول الرغبة البدئية إلى بهجة، عندما يتأكد القارئ، وهو يغوص تماماً في النص، أنه يمكن أن يقطع القراءة في أي نقطة مع إحساس بالإشباع والاكتمال. ولا شك في أنه أثناء معظم القراءة، سيكبت قارئ ألف ليلة وليلة توقع قدر شهرزاد. إنه يصبح في نهاية المطاف نوعاً من "الخداع" البنيوي والسردي. أي، يكون المبدأ البنيوي من القوة والديمومة بحيث إن الخطية الأصلية يتم الإفراط في تمكينها، وحتى تحويلها إلى نقيض لذاتها: "سبيل أو "قدر" شهرزاد يصبح دائرة هائلة، ذات سلسلة لا نهاية لها من الدوائر الأخرى المتراكزة (المتحدة المركز) بداخلها؛ إن أهمية القدر تجعلها نسبية في اندماجها المثالي في شكل الأرابسك. وحالما يعرف قدر شهرزاد، لا يعود يؤثر على القارئ بالقوة نفسها التي يتوقعها المرء في ضوء "البداية". وليس هذا هو النوع من الكتابة التي تُقرأ بالطريقة نفسها التي تقرأ بها الكتابة ذات البنية الأرسطوية المتساوقة من البداية مروراً بالوسط إلى النهاية.
يقرأ العرب كتاب ألف ليلة وليلة بشكل مختلف- فبالنسبة إليهم، إن الأرابسك (اللاخطي) الذي يفرض سيطرته المتراكزة على "الفضاء السردي" برمته، لا يحفز الرغبة. بل يؤكد اللذة. كما يتبين في النهاية أن البهجة ليست في الحل resolution، بل في الرحلة journey عبر مشاهد سردية لا نهاية لها.
دعونا الآن نتفحص كيف تُرى بداية نص سردي ونهايته في الشعرية الغربية وفي النظرية الأدبية الحديثة. ترتبط النهاية عند بيتر بروكس دوماً بالغناء. فالرغبة السردية هي، في الحقيقة، القوة الدافعة (التي تسأل دوماً، ماذا يحدث بعد ذلك؟) التي تدفع إلى الأمام، نحو النهاية، التي هي أيضاً رغبة في التحقق (نهاية السردية) وكذلك إرجاء مضطرد للنهاية، إرجاء للتحقق.
هذا هو السبب في أن أي إنهاء لسردية هو أيضاً موت من نوع رديء "رغبة النص هي في نهاية المطاف الرغبة في النهاية، في ذاك التسليم الذي هو لحظة موت القارئ في النص"؛ ومع ذلك، فإن التسليم لا يقلل من قيمة وسط النص، فالتكرار باتجاه التسليم هو حقيقة النص السردي. إن الإثارة والخوف الدائمين المصاحبين للحركة باتجاه نهاية النص هما من الأهمية بمكان، عندما تكون النهاية قبل الأوان أو "النهاية الخاطئة" غير محتملة- من هنا فإن الخوف الأبدي هو من عدم تحقق، أو إشباع الرغبة.
إن الأدب ما بعد الحداثوي، وخصوصاً ما وراء التخييل metafiction، يلعب بالنهاية، دائماً على شفير اللاتحقق والرغبة المعاد إيقاظها، يلعب على الرغبة في النهاية الصحيحة (على سبيل المثال، امرأة الملازم الفرنسي French Lieutenant`s woman من تأليف جون فاولز John Fowles، الذي يعرض نهايتين لأجل القارئ لكي يختار إحداهما).
كل ما ندركه نحن في الغرب بوصفه غير اعتيادي، غامضاً، وبالتالي قابلاً لتجريب الأساليب الجديدة stylogenous أيضاً، هو في ألف ليلة وليلة ببساطة تعبير عن تراث شعري بعينه. هذا التراث يشتق من مبدأ الأرابسك؛ من هنا ليست للعمل ذاته نهاية حاسمة. لذلك، توجد في كثير من الأحيان طبعات تظهر فيما بعد: ألف ليلة وليلتان، ألف ليلة وثلاث ليال، (قفلات) "تتمات" تفتح دوائر جديدة، صفحات جديدة، كما لو أنها تحاول في الوقت نفسه أن تطوق الجزء الأصلي إلى كل نهائي.
ومن ناحية أخرى، يرى المستعرب الروسي كريمسكي Krymskij أن التراث الشفهي في الشرق العربي، وحتى يومنا هذا، لا يزال يطور ألف ليلة وليلة، ناشراً إياها في دوائر متراكزة نحو اللانهاية، بحيث يكون للعمل ذاته نوعه الخاص به من السيرورة إلى ما لا نهاية ad infinitum.
أما عند القراء الغربيين، فإن النهاية يفترض بها أن تستجيب لتوقعاتهم، أن تكون "خيرة" و"منطقية" - بحسب الروائي الإنكليزي أ. س. بايات A. S. Byatt يفترض بها أن تجعلنا نقول آه، نعم، بالطبع! لأن كل خيوط خط القصة قد وُصلت، بعد التشويق والترقب، فإن ثمة إحساساً بالراحة والاسترخاء أخيراً.
لذلك، ثمة إمكانية كامنة قوية جداً في تأثير التوقع الخائب، خصوصاً في الأدب ما بعد الحداثوي الذي يتخلى مثل النظرية ما بعد الحداثوية تماماً، عن كثير من المسلّمات الشعرية الأرسطوية (مثل المحاكاة mimesis والقص diegesis) ضمن ذاك السياق، يكفي أن نستذكر التوقعات المخيبة بشكل متكرر في رواية ايتالو كالفينو Italo Calvino بعنوان If on a winters Night a Traveler التي تصبح السمة الأساسية لأسلوب الرواية برمتها.
أما عند القارئ العادي، فإن النهاية التي تفشل في تلبية التوقعات وإشباع الرغبة هي ببساطة "خاطئة". وهذا ما يوضحه مرة أخرى بشكل جيد أ.س. بايات في رواية "المرأة الصافرة The Whistling Women، عندما تقرأ أغاثا، بطلة الرواية ومؤلفة روايات وقصص للأطفال، نهاية روايتها ويصاب الجمهور برمته، الأطفال على وجه الخصوص بصدمة تامة : "لم يكن ثمة أي إشباع في نهاية القصة.
كان الأمر كما لو أنهم قد طُعنوا جميعاً (التشديد من قبل E. D وM. K. B)". هنا أيضاً تكون النهاية نوعاً من الموت، وإن يكن موتاً أصعب نظراً لأنه لم يترافق بإحساس بالرغبة المشبعة المُرْضِية.
إن مبدأ الأرابسك يقوم بوظيفته بشكل مختلف تماماً، في كل من الفن الجميل وفي النصوص السردية. فبدلاً من فكرة الإنهاء والتناهي والموت، أي الفناء عموماً، يجلب الأرابسك معه فكرة اللانهاية، فكرة تجاوز الوجود الأرضي/ الدنيوي المحدود، وفكرة الانتقال نحو اللانهاية الإلهية والحضور الأبدي بشكل كامن، التكرار الدائم.
إن مفهوم وجود بداية واحدة ونهاية واحدة للأرابيسك كزخرفة، بالإضافة إلى كونه أرابسك سرديّاً مثل ألف ليلة وليلة، هو مفقود ببساطة.
من وجهة النظر هذه، من بين كل المنظرين الغربيين للسرد والسيمياء، ربما يكون رولان بارت هو الأقرب إلى الشعرية العربية. ففي رأيه أنّ النص (خصوصاً النص المكتوب) هو مجرة من الدالات Signifiers أكثر مما هو بنية من المدلولات Signifieds؛ ليست للنص بداية؛ إنه قابل للإعكاس Reversibe، ونحن نصل إليه عن طريق بضعة مداخل، لا يمكننا أن نعلن بسهولة أن أيًّا منها هو المدخل الرئيسي.
لذلك، لا توجد حدود ضيقة صارمة للنص، كما يراها بروكس (البداية والنهاية)، بل يوجد انفتاح لا يمكن سوى للأرابسك أن يوجده. وبدلاً من رؤية النص كمثلث حبكة كلاسيكية- عرض افتتاحي، صراع ذي ذروة وحل- يفهم بارت السردية كنوع من الكوكبة Constellation.
إن مفهوم الكوكبة هذا ربما يكون الأقرب إلى مفهوم الأرابسك، نظراً إلى أن أيًّا من المفهومين لا يقتضي ضمناً وجود بنية ثلاثية أو أية بنية محدودة أخرى: نظرياً، الأرابسك يمكن توسيعه، والتوسع به دوماً. ثمة سمة أخرى للأرابسك أكثر لفتاً للاهتمام وهي قضية كيف تتداخل قطعه المختلفة، كيف تتداخل، أي مغزى ومعنى يتم توليدهما في "الدرزات" "seams"؛ في الأماكن التي تتصل بها. فكل واحدة من هذه الدرزات أو تخوم النص هي مكان ذو دلالة خاصة، لأنه المكان الذي يُحدث فيه الربط والذي تصبح فيه القطع المختلفة مستقلة- إنه مكان الربط والفصل.
يسمح تعدد مكافئات النص multivalence of text للقراء بأن يروا النص ليس مجرد تدفق سردي، بل ككوكبة من المعنى المتداخل والمتراكب. ومع ذلك ينبغي القول إن نموذجه، مهما يكن جذاباً، لا يمكن تطبيقه بسهولة وبشكل طبيعي على النصوص السردية الغربية، على الأقل ليس على تلك النصوص التي لا تحاكي بشكل واع البنية الأرابسكية. وربما يكون المثال على الاقتراب (اللا) واعي للأدب الغربي إلى مبنى الأرابسك نوعاً خاصاً من الشعرية المتشظية التي تشاهد في الأدب الغربي الحديث، وخصوصاً في المسرحيات وإخراجها.
هذا الشكل من الشعرية ينشئ النص أيضاً على مبدأ سلسلة وتوافقيات من القطع المذررة، أي الشظايا. إنه دوماً مولّد للأسلوب ورائع، والمعنى الإضافي يتم توليده في الأماكن التي تجتمع فيها تلك الشظايا وحيث يتم تمييز التوافقيات والتكرارات والاختلافات. تثبت مقدرة للتشظي على توليد الأسلوب سمة متأصلة للنص، كما هو الحال في الأدب الشرقي الإسلامي.
تُطلق ألف ليلة وليلة تفرعاً فريداً من القصص، والإنشاءات المعقدة ذات الدوائر المتراكزة الممتدة المتسعة، مرة تلو المرة، فقط لكي تُكرر بعض الموتيفات أو الحبكات أو الشخصيات في زمن آرابسكي نموذجي متناسج فاتن مرة تلو الأخرى بإنشائها. وهناك تكمن ثروة من قضايا البنية غير المستكشفة في هذا النص: ما هي العلاقة الفعلية بين الموتيفات أو الحبكات أو أنماط الشخصيات المكررة؟ كيف تؤثر هذه التكرارات على البنية السردية الكلية وبنية المستويات السردية الفردية أو الدوائر المتراكزة التي تظهر فيها؟ هل يمكن تمييز هذه التكرارات دوماً كصور مرآتية، مؤثرة بذلك بعضها على بعض بشكل ارتجاعي أم بشكل استباقي؟ كما في حالة الأرابسك الزخرفي ينشأ الجمال والانطباع الجمالي دوماً من غموض التداخل وليس أبداً من البنية الواضحة تماماً.
باستعمال هذا التمييز للنمطين من الشعرية، من الأسهل أن نفهم الاختلافات في الفهم الغربي للنصوص العربية - الإسلامية الأخرى. يكفي أن نذكر الفهوم الخاطئة العديدة لأسلوب القرآن: ففي حين ترى الشعرية الغربية انحرافاً آخر مع ذلك عن التسلسل والتوالي الزمنيين الاعتياديين والمتوقعين والمتنبأ بهما، في التراث الشعري العربي - الإسلامي، فإن نسق القرآن كان يحمل تأثيراً قوياً على أسلوب النصوص الأخرى وشعريتها. فقد تشوش المنظرون الغربيون غالباً بالأطوال المختلفة للسور، وتكرار قطع معينة من النص، في بعض الأحيان بفواصل منتظمة كما يمكن للمرء أن يتوقع. من الناحية الشكلية، فإن نص القرآن متركز على الإيقاع والفواصل والتكرارات اللفظية العديدة، التي تجعل النص متماسكاً.
هذا هو الغصن الذي تتفرع عنه كل القطع الأخرى للأرابسك، التي تثير الدهشة دوماً بتوزيعها وتكرارها. تُكرر العناصر المختلفة في القرآن، من حيث الثيمة واللغة والأسلوب (اللازمات، التوازيات..)؛ في بعض الأحيان بشكل غير متوقع؛ تماماً مثل ورقة آرابسك تتكرر بشكل غير متوقع في مكان معين.
إن هذه التكرارات ليست فائضة ولا هي تعبير عن "خطأ"، كما زعم ف. غبرييلي F.Gabrieli؛ إنها في الحقيقة، الانعكاس لصورة مذرورة للعالم وغياب الفهم الخطي للزمن، إضافة إلى انعدام الانتقال من بداية النص إلى نهايته. إن الأرابسك يقتضي وجود كلّ، مكون من أجزاء مختلفة؛ هذا الوصل لأجزاء مختلفة تشكل كلاًّ وخصوصية هو ما يجعل بنية القرآن وأسلوبه نوعيين وفريدين من نوعهما على هذا النحو.
وباستذكار أن الأرابسك هو أيضاً شكل يتجاوز أي محدودية، مكانية أو زمانية، وأنه يمكن فهمه كتعبير عن الانتقال نحو الأبدي والإلهي (س. نداف) يكون من الواضح تماماً السبب في أن مبدأ الإنشاء الأرابسكي متأصل بالنسبة للقرآن - هذا المبدأ، في الحقيقة، يبدو المبدأ الممكن الوحيد.
من ناحية أولى، في بنيته الأرابسكية البديعة، التي يغنيها المعنى، يشبه بقوة البنية المعروفة جيداً للكون في حالة من الاتساع اللامحدود، ومن الناحية الأخرى - فإنه شجع وطور الأرابسك بوصفه الطريقة ذات المعنى المطلق لدمج الخصوصي في معنى الكل. وفعل ذلك بطريقة لم يكررها أبداً أي عمل من التراث الشرقي الإسلامي قبله أو بعده. ذاك هو السبب في أنه ربما يفهم بشكل قاصر في التراث الغربي - تحديداً في ضوء شعريته وأسلوبه الفريد.
إن أي مقاربة تقوم على التطبيق الخطي المعتاد وتلح عليه ولا شيء آخر غيره تكون غير وافية من أجل الأعمال ذات الشعريات الأرابسكية الواضحة وسيكون من الخطأ بالقدر نفسه - بقدر ما يكون خطأ أي إلحاح متشنج- أن ننكر، على سبيل المثال، صحة التصور الغربي لألف ليلة وليلة. إنها مسألة تراثين وتصورين مختلفين بشكل كبير ينبغي تشجيعهما على أن يثريا أحدهما الآخر من خلال الحوار. ويبدو واضحاً اليوم أن الحوار هو وسيلة لإيجاد المكان الثالث، الذي يمكن اللقاء مع الآخر. لهذا فإن هذا المقال هو مكان ثالث من نوع خاص به، يتضمن رؤًى للشعريتين الغربية والشرقية كلتيهما- الإسلامية، من دون أي صور تشوهها العدسات ببقعة عمياء لأجل الآخر والمختلف.
وبالكلام عن الدوائر - في هذه الحالة، دائرتي الثقافة والحضارة اللتين بدأنا بهما وسنختم بهما - سيكون إبداعيّاً، أو بالأحرى سيكون له أثر انفجار لوتمان Lotman في الثقافة، أن ننقلهما من حالة التوازي ونضعهما في علاقة من التناسج الأرابسكي المتراكز، والتطور الجمالي والمفاهيمي إلى ما لا نهاية.
* مقطعان من الفصل الأول، وقد وُضع - أي هذا الفصل وحده- بالاشترك مع مارينا كاتنيتش- بكرشيتش، أستاذة علم البيان في كلية الفلسفة في سيراييفو
** ترجمة عدنان حسن، "الآن ناشرون وموزعون"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في مرآة العربية
وُلد المفكّر والمترجم البوسني أسعد دوراكوفيتش في مدينة بوغوينو عام 1948. درَس الفيلولوجيا والأدب العربي في جامعة بلغراد، وتخرّج ببحث بعنوان "تاريخ الأدب من خلال أحاديث الأربعاء لطه حسين" (1975)، ثم أنجز أطروحة دكتوراه حول أدب المهجر في العالم العربي.
يعتمد دوراكوفيتش على مقاربة خاصة للثقافة العربية محدثاً قطيعة مع الاستشراق الغربي، وهو يميّز نفسه عنه بالمصطلح "علم الشرق" Orientology الذي يقترحه على دارسي تاريخ الأدب العربي على مدى عصوره.
لعلّ من أبرز مساهمات دوراكوفيتش المعرفية هي ترجماته إلى البوسنية لأعمال أساسية في الثقافة العربية مثل القرآن الكريم، والمعلّقات وألف ليلة وليلة، لكنه لم يقتصر على النصوص التراثية، فنقل أيضاً إلى لغته أعمالاً شعرية وروائية حديثة لـ جبرا إبراهيم جبرا (روايته "البحث عن وليد مسعود") وطه حسين ("الأيام")، والطيب صالح، ويوسف إدريس، ومحمود درويش، وحنان الشيخ وغيرهم. كما ترجم مختارات شعرية بعنوان "شعر المشرق في القرن العشرين"، ومختارات من جبران خليل جبران (1986).
من مؤلفاته: "نظرية الإبداع المهجرية" (ترجمت للعربية عام 1989)، و"شعرية الأدب العربي" (1997)، و"القرآن.. خلاصة جمالية ورياضية" (2010). في 2017، صدر كتاب كبير (750 صفحة) بعنوان "كتابات نقدية عن أعمال أسعد دوراكوفيتش"، يضم معظم ما كُتب في البوسنة وخارجها عن تجربته الرائدة مع الثقافة العربية.
ويعتبِر محمد الأرناؤوط أن أسعد دوراكوفيتش هو اليوم أبرز باحث في الثقافة العربية في بلده البوسنة ويوغوسلافيا السابقة، لكنه يشير إلى تأخّر معرفتنا العربية به إلى سنوات قريبة، حين حصل على عدد من التكريمات التي تعترف بالخدمات التي أسداها للثقافة العربية، رغم ترجمة بعض أعماله منذ 1989. ينتمي دوراكوفيتش إلى ثلاثة مجامع لغة عربية مختلفة في القاهرة ودمشق وعمّان، ولعله يمثّل أحد الجسور القليلة الممدودة بينها.