06 سبتمبر 2022
شعوبٌ تفتقد هويتها الوطنية
نعم هي ثورات البحث عن الهوية الوطنية المغيبة، بإعادة تفكيك بناها تاريخاً وحاضراً وانتماءً، وباستبدالها بمفاهيم وبنى تجاوزتها الحياة، وهي ثوراتٌ تحاول استعادة الهوية الوطنية المرتهنة للخارج، في مقابل فساد الحكام والتهام اقتصاد بلدانهم وإذلال مواطنهم، وحرمانه من أبسط حقوقه إنساناً أولاً ومواطنا ثانياً.. وهي ثورات وعي شعبي تنامى لدى جيل شاب يعيش واقعاً حياتياً مزرياً تفصله مسافات طويلة عن حضارة اليوم، وساهم في نقله إليه ثورتا المعلوماتية والاتصالات، وما يتحدّث به مواطنوه عن حياة أرقى وأهنأ في المغتربات القسرية تحت ضغط الفقر والحاجة وافتقاد الأمن.. ذلك الوعي الذي استنهض، في تجليّاته المادية والمعنوية، هم أولئك الشباب الذين لم تستطع الأحزاب السياسية، على اختلاف توجهاتها، وخصوصا الأحزاب اليسارية، أن تشدّهم إلى مجالها، على الرغم من مناشدتهم مراراً وتكراراً، وعلى الرغم من كل وعودها بحياةٍ أفضل تستند إلى نظريات وأفكار وبرامج.. والحديث، هنا، لا يطاول ثورتي لبنان والعراق اللتين سرقتا الأضواء مما جرى ويجري في غير مكان من المنطقة العربية، بل هو يلامس جميع ثورات الربيع العربي التي بدأت قبل نحو تسع سنوات، ولا تزال مستمرة، على الرغم من كل ما أتى على بعض بلدانها من مصائب وويلات تبلبلت معها أذهان وأفكار، إلا أنها، وبدليل لبنان والعراق، إضافة إلى الجزائر والسودان، ماضية نحو غاياتها ولا بد من
تجاوزت هذه الثورات، في تجلياتها، ما كان قد وضعه من شروط بعض ثوار القرن العشرين، مفترضين نجاح أية ثورة بعوامل محدّدة، منها أن يكون لروادها فكر ثوري، وأن يقود مسيرتها حزبٌ سياسي ثوري، وأن تصل الطبقة الحاكمة إلى مرحلة من التفكّك، والتفسّخ، فلا تعود معها قادرةً على الاحتفاظ بالحكم.. وربما كانت هذه الأمور صحيحةً في حدود التجارب التي استخلصت منها، ولكن ثورات الجيل الجديد تجاوزت اليوم الأحزاب المدجَّنة، والإيديولوجيات المتجمدة عند أزمان محدّدة.
عمق الوعي وتناميه، وفداحة الواقع وشدة تفسّخه، لم يُظهرا حدّة التناقض وتشعبه فحسب، بل أشارا إلى أنْ لا أحد قادرٌ على ضبط حركة الحياة في نموذج واحد، أو في تجربة محدّدة، فخلال خمسين أو مئة السنة الأخيرة، تبدلت كل أدوات الإنسان المستخدمة في أنشطته الحياتية المختلفة، فكيف لا يتبدّل تفكيره ومنهج حياته بما يتناسب مع ما يبدعه ذهنه وتصوغه يداه! ومن هنا، استحقت تسميتها بثورات الوعي، أو كما سمّاها عزمي بشارة "ثورات في الوعي"
فيما يخص لبنان والعراق، وهو محقّ. ورآها محمد علي مقلد، في إشارته إلى حراك جيل الشباب اللبناني، ثورة "جيل جديد ولد في خضم المعاناة ومن رحمها، ودفع غالياً ثمن نهج سلطوي مدمر للحجر والبشر والبيئة، ومهجِّر للكفاءات، ومعمِّم قيم الفساد والإفساد والتشبيح الميليشيوي".
واستناداً إلى منطق الرؤيتين السابقتين الموضوعيتين، يمكن تلمُّس مظاهر ذلك الوعي وتجليات شكله ومضمونه في التجربتين اللبنانية والعراقية، ففي الشكل يمكن ملاحظة أنَّ جيل الشباب الذي هو لولب ذلك الحراك استطاع أن يجتذب إليه أعماراً متباينة، ومن مشارب مختلفة، إضافة إلى مشاركة المرأة بفاعليةٍ كبيرةٍ تعيد إلى الأذهان نهوضها الأول الذي مارسته في النصف الأول من القرن العشرين، وكان أن رصده الأدب بدهشة في غير بلد عربي.
وفي المضمون، برزت قضايا كثيرة عبَّر عنها الشعاران الرئيسان للانتفاضتين/ الثورتين في البلدين، "كلّن يعني كلّن" (لبنان) و"شلع قلع" (العراق)، ويعنيان الثورة والانقلاب على كل ما هو قائم، فالكل بما يرتديه من إطار مسؤول عن الحال المتردّية التي طاولت سبل حياة المواطن في الدولتين، وضروراتها الرئيسة التي تتطلب تأمين العمل اللائق لجيل الشباب، وإيقاف نزيفه والخبرات، إضافة إلى حل مشكلة الخدمات التي افتقدت، وكانت على مستوى لائق زمن "الديكتاتور" (العراق)، وكذلك في لبنان قبل اتفاق الطائف ووجود الجيش السوري. إذاً لا بد من الاستبدال بما يلائم روح العصر، وما يلائمه دولة المواطنة التي تعدُّ المواطن
الحجر الأساس في انتماء بنائها إلى عالم اليوم لا الأمس، إنها الدولة العابرة للطائفية وللأديان وللقوميات، وشعارها لا ولاء لغير الوطن، وهي الدولة التي تشكّل الوعاء الأوسع لجميع مكوناتها، لا على أساس اقتسامه، بل على أساس اعتباره خيمةً تظلل الجميع، وتستند إلى تاريخ عريق، ودستور معاصر يراعي مواطنها، ويحترم حقه في ممارسة طقوس معتقده بحرية، ودونما وصاية أو تسلط من أحد، لاستغلاله والدولة معاً، الأمر الذي يلبي حاجة الانتقال إلى مرحلةٍ جديدةٍ، تقود نحو بناء عصريٍّ يبتغيه ذلك الوعي الشعبي الذي ولد في معمعان القهر والفساد وتغييب الهوية الوطنية ورعاية شاملة من دولةٍ يفترض أنها أولى مهامها.
هل يصمد الشعبان في البلدين، ويحققان ما يصبوان إليه، على الرغم من العنف الشديد في العراق الذي جاوز خمسمئة قتيل، وفي لبنان حيث خبث المناورات التي لا تبرز فقط في أحابيل السياسة الذاهبة إلى إعادة إنتاج النظام نفسه، بل أيضا في محاولات الردع بافتعال المشكلات، وحرق الخيام، والإيقاع بين الأمن والجيش والشباب المعتصمين.. إلخ. المعتقد أن المسألة، في جوهرها، ترتبط بالهوية، أي في أمر الوجود، فهي رمز بقاء أو موت، ويتعلق الأمر في الوضع الداخلي وامتداداته، فلكل طائفة حاكمة بعدها الخارجي. ولذلك تراهم يلجأون إلى عمليات الترقيع تلك. ولكن هل ينفع ذلك في أوضاع حاصرها الوعي، وكشف عريها الداخلي وتفسخها متعدد الأوجه، بوقائع ملموسة في السياسة والاقتصاد والمجتمع، إذ لا تزال بنيتها السياسية تستند إلى عصورٍ ولّى زمنها، فلم تعد قادرةً على الصمود أمام الجديد القادم بقوة، ووفق قوانين الحياة نفسها.
عمق الوعي وتناميه، وفداحة الواقع وشدة تفسّخه، لم يُظهرا حدّة التناقض وتشعبه فحسب، بل أشارا إلى أنْ لا أحد قادرٌ على ضبط حركة الحياة في نموذج واحد، أو في تجربة محدّدة، فخلال خمسين أو مئة السنة الأخيرة، تبدلت كل أدوات الإنسان المستخدمة في أنشطته الحياتية المختلفة، فكيف لا يتبدّل تفكيره ومنهج حياته بما يتناسب مع ما يبدعه ذهنه وتصوغه يداه! ومن هنا، استحقت تسميتها بثورات الوعي، أو كما سمّاها عزمي بشارة "ثورات في الوعي"
واستناداً إلى منطق الرؤيتين السابقتين الموضوعيتين، يمكن تلمُّس مظاهر ذلك الوعي وتجليات شكله ومضمونه في التجربتين اللبنانية والعراقية، ففي الشكل يمكن ملاحظة أنَّ جيل الشباب الذي هو لولب ذلك الحراك استطاع أن يجتذب إليه أعماراً متباينة، ومن مشارب مختلفة، إضافة إلى مشاركة المرأة بفاعليةٍ كبيرةٍ تعيد إلى الأذهان نهوضها الأول الذي مارسته في النصف الأول من القرن العشرين، وكان أن رصده الأدب بدهشة في غير بلد عربي.
وفي المضمون، برزت قضايا كثيرة عبَّر عنها الشعاران الرئيسان للانتفاضتين/ الثورتين في البلدين، "كلّن يعني كلّن" (لبنان) و"شلع قلع" (العراق)، ويعنيان الثورة والانقلاب على كل ما هو قائم، فالكل بما يرتديه من إطار مسؤول عن الحال المتردّية التي طاولت سبل حياة المواطن في الدولتين، وضروراتها الرئيسة التي تتطلب تأمين العمل اللائق لجيل الشباب، وإيقاف نزيفه والخبرات، إضافة إلى حل مشكلة الخدمات التي افتقدت، وكانت على مستوى لائق زمن "الديكتاتور" (العراق)، وكذلك في لبنان قبل اتفاق الطائف ووجود الجيش السوري. إذاً لا بد من الاستبدال بما يلائم روح العصر، وما يلائمه دولة المواطنة التي تعدُّ المواطن
هل يصمد الشعبان في البلدين، ويحققان ما يصبوان إليه، على الرغم من العنف الشديد في العراق الذي جاوز خمسمئة قتيل، وفي لبنان حيث خبث المناورات التي لا تبرز فقط في أحابيل السياسة الذاهبة إلى إعادة إنتاج النظام نفسه، بل أيضا في محاولات الردع بافتعال المشكلات، وحرق الخيام، والإيقاع بين الأمن والجيش والشباب المعتصمين.. إلخ. المعتقد أن المسألة، في جوهرها، ترتبط بالهوية، أي في أمر الوجود، فهي رمز بقاء أو موت، ويتعلق الأمر في الوضع الداخلي وامتداداته، فلكل طائفة حاكمة بعدها الخارجي. ولذلك تراهم يلجأون إلى عمليات الترقيع تلك. ولكن هل ينفع ذلك في أوضاع حاصرها الوعي، وكشف عريها الداخلي وتفسخها متعدد الأوجه، بوقائع ملموسة في السياسة والاقتصاد والمجتمع، إذ لا تزال بنيتها السياسية تستند إلى عصورٍ ولّى زمنها، فلم تعد قادرةً على الصمود أمام الجديد القادم بقوة، ووفق قوانين الحياة نفسها.