مع الإجراءات التي تتّخذها واحدة بعد أخرى من دول الاتحاد الأوروبي لضبط حركة المهاجرين، هل يمكن الحديث اليوم عن بداية انهيار الحدود المفتوحة؟ وهل يمكن الحديث عن عودة إلى ما قبل "شنغن"؟
صباح الاثنين في الرابع من يناير/كانون الثاني الجاري، بدأت السويد بتطبيق صارم، ربما أكثر صرامة مما توقعته جارتها الدنمارك، إذ راحت تطلب من كلّ مسافر إظهار جواز سفر أو رخصة قيادة، مع رفضها قبول أي هوية عادية صادرة عن جامعة أو ما شابه.
أحدثت الخطوة السويدية تذمراً كبيراً بين عشرات آلاف المسافرين في محطة قطارات كاستروب - كوبنهاغن والمؤدية إلى مدينة مالمو السويدية عبر جسر أورسوندبرو، حيث تنفَّذ عملية مراقبة صارمة على المسافرين، ومن بينهم طلاب وموظفون. وبالفعل في ميناء مدينة هيلسنيور الدنماركية، رفضت إحدى البواخر صعود مواطنين سويديين على متنها، لعبور المسافة القصيرة باتجاه الجانب السويدي. وهؤلاء الذين يعيشون في كوبنهاغن ويعملون في بلدهم على بعد أقل من نصف ساعة، كانوا قد نسوا حمل جوازات سفرهم. وفي الميناء ذاته، أوقف عدد من "الأجانب" (توصيف إعلامي وسياسي لمن هو غير مواطن أو مقيم) تبيّن أن ثلاثة منهم قُصّر وقد تسلمتهم الشرطة الدنماركية.
ما يجري عند الحدود الداخلية الأوروبية من تشديدات تفرض نفسها، يعيدنا إلى ما عمدت إليه النرويج وفنلندا، وهما دولتان من دول الشمال، عندما فرضتا في شهرَي نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول الماضيَين مراقبة حدودية صارمة وطالبتا الشركات الناقلة برفض كل من لا يحمل وثائق سفر صادرة عن سلطات رسمية. وفي منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلنت السويد اللحاق بهما.
لكمة قوية
للمرة الأولى منذ خمسينيات القرن الماضي، يُلزَم مواطنو الدول الإسكندنافية، خصوصاً الوافدين من الدنمارك شمالاً وشرقاً، بإظهار وثائق سفر. وفي التطبيق السويدي، لا استثناء بين "أجنبي" (طالب لجوء) واسكندنافي. وهي خطوة يصفها سياسيون وبشكل رسمي، بأنها "لكمة قوية حتى لحرية التحرّك داخل اسكندنافيا، لم نشهدها في تاريخ العلاقات منذ الخمسينيات".
وفي الرابع من يناير/كانون الثاني نفسه، ذهبت الدنمارك باتجاه الخطوة السويدية ذاتها، مع ما أعلنه رئيس وزرائها لارس لوكه راسموسن في مؤتمر صحافي محاطاً بأربعة من وزرائه، لكن هذه المرة جنوباً: "نبدأ منذ هذه اللحظة بتشديد الرقابة على حدودنا مع ألمانيا، بانتشار ظاهر وأكبر للشرطة". وأضاف أن الشرطة الدنماركية ستعمد إلى عمليات تفتيش عشوائية على العبارات والقطارات الآتية من ألمانيا، وأنها سوف تطلب من البعض إبراز جوازات سفرهم. وعلى الرغم من الضغوط التي تشعر بها الدنمارك وتخوفها من أن تتحوّل محطة تجمّع للاجئين غير القادرين على دخول السويد، إلا أن تعبير "الطلب من البعض" أثار حفيظة حقوقيين ومنظمات تدافع عن حق اللجوء. وذهب هؤلاء إلى القول إن "من يُطلب منهم إبراز أوراقهم الثبوتية، إنما هم الذين يبدو لون بشرتهم مختلفاً". يُذكر أن الإعلان الدنماركي يفرض رقابة حدودية لمدة 10 أيام بداية، ومن ثم تمديدها إلى 20 يوماً آخر.
ما قاله راسموسن المؤيّد لحريّة الحركة وتوسيع التعاون الأوروبي، كيمين وسط وليبرالي، يشير إلى أن الخطوة المعللة بـ "الحفاظ على الأمن والنظام"، أُعلِمت بها مفوضية الاتحاد الأوروبي والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل. ما يعني بحسب مراقبين للشأن الأوروبي، بأن خطوة دول الشمال سوف تلزم دولاً أخرى في أوروبا بالسلوك ذاته، وبالتالي "بداية انهيار الحدود المفتوحة".
اقرأ أيضاً: أطفال المهجر..التنقل بين حدود الدول دون أهل
تراجع عن الهدف
لا ينظر هؤلاء المراقبون باستخفاف إلى خطوة دول الشمال كونها تأتي "متتابعة ومتدحرجة، وهو أمر يعدّ لكمة قوية لأهداف الاتحاد في اتفاقياته حول حرية التحرّك". وقد أقرّ راسموسن بأن هذه الخطوة هي بالفعل "تراجع عن الهدف الأصلي من الحدود المفتوحة". وأضاف: "إذا لم يستطع الاتحاد الأوروبي حماية حدوده الخارجية، فسوف نرى دولا عديدة أخرى تتخذ الخطوات نفسها في إغلاق الحدود الداخلية. لقد كلفتنا البنية التحتية لتطوير حرية الحركة المليارات. على الاتحاد الأوروبي أن يتّخذ وقياداته الآن خطوة جدية، لأن الأمر خطير جداً. وهذه إشارة إلى أنه في حال لم تؤمّن حماية الحدود الخارجية، فنحن ذاهبون كدول الاتحاد إلى إلغاء اتفاقيات حرية الحركة".
لا يرى من حضر المؤتمر الصحافي في كوبنهاغن وسجّل ردود الأفعال على ما يجري عند الحدود، بأن الخطوات الاسكندنافية والفنلندية سوف تكون بلا تأثير على تلك الحدود التي كانت مفتوحة بين دول الاتحاد.
عملياً، بالنسبة لطالبي اللجوء إلى دول الشمال، لا تستطيع السلطات رفضهم عند الحدود، على الحدود الألمانية الدنماركية مثلاً، إذا تقدّموا بطلب "الحماية". وهو ما أكده سياسيو دول الشمال أيضاً. لكن بين السطور، الأمر يتطلّب الفهم الضمني لتصريحات هؤلاء: "أن يكون الوافدون لاجئين وليسوا عابرين". ما يعني ألا تكون كوبنهاغن مثلاً معبراً نحو السويد. وفي هذه الحالة الضاغطة بحسب مؤسسات حكومية في دول الشمال، يأتي عدد كبير من اللاجئين من دون أوراق رسميّة ويدّعون أنهم من جنسيات معيّنة، وهو ما يتطلب وقتاً طويلاً للتحقق من هويتهم. والإجراءات البيروقراطية للتحقق من بصمة طالبي اللجوء، تؤدي ببعضهم إلى إبعادهم نحو البلد الأول الذي أخذت فيه البصمة، أي التطبيق الحرفي لاتفاقية دبلن.
المدافعون عن حقوق طالبي اللجوء واللاجئين ينظرون بتوجّس إلى الخطوات المتتالية في تشديد الحراسة والمراقبة على الحدود. الشروط والارتداد عن الحدود المفتوحة، تعدّ برأي هؤلاء "تعجيزية"، إذ تقول إن الشخص الذي لا يحمل جواز سفر وتأشيرة، لن يُسمح له بالدخول. "كيف يمكن لطالب اللجوء أن يصل إلى السويد أو النرويج وفنلندا؟".
تلك الشروط هي التي دفعت وعلى عجل، حكومة كوبنهاغن إلى الإسراع في اتخاذ خطوة تشبه خطوة السويد مع ألمانيا. هي لا تريد أن تتحوّل إلى ما يقوله أحد العاملين في "منظمة مساعدة اللاجئين"، إلى "الحالة المجرية، فيتدفّق طالبو اللجوء إلى كوبنهاغن عبر ألمانيا في محاولة لبلوغ السويد أو غيرها، ما يعني تكدّسهم بعد رفض السويد إدخالهم. لذلك نصبت السلطات ثلاثة مخيمات تتسع للآلاف بدلاً من أن يتكدسوا في محطة كوبنهاغن".
التطبيق الذي أطلق في الرابع من يناير/ كانون الثاني، لم يأتِ من دون إبلاغ ألمانيا به، والأخيرة وفق ما يقول خبراء في مجال اللجوء "سوف تتشدد أكثر على حدودها مع الدول التي تعدّ مساراً للباحثين عن اللجوء. وهكذا، تباعاً، سوف تضطر دول أخرى إلى الجنوب، لاتخاذ مثل تلك الخطوات".
تبدو الخطوات المتخذة وكأنها في سباق مع الزمن، إذ من المتوقّع مع بداية الربيع المقبل، تدفّق عشرات الآلاف من طالبي اللجوء نحو دول الاتحاد الأوروبي، ولهذا السبب تطالب دول عدّة بإيجاد حلول سريعة ومشتركة من الاتحاد الأوروبي، لوقف ما يسمونه "فوضى اللجوء". لكنها خطوات تريد دول كثيرة من خلالها البعث بـ "رسائل للمهاجرين طالبي اللجوء هؤلاء، بألا يحاولوا الوصول إلى الشمال"، وفق ما يصرّح به علناً سياسيون من دول الشمال، مثل وزيرة الأجانب والدمج إنغا ستويبرغ التي تزعمت بدعم من حزب الشعب اليميني المتشدد هذه الخطوة الأولى للعمل على الحدود، كنوع من رفض ضمني لاستقبال طالبي اللجوء. وذلك، حتى لو أعلنت الدول أنها "ملتزمة بالمواثيق التي تكفل دراسة طلبات اللاجئين الطالبين للحماية".
اقرأ أيضاً: هجرة قاصرة.. أطفال من دون أهل في بلدان اللجوء
كرة ثلج
بالنسبة إلى المراقبين والخبراء في مجال الهجرة، فإن خطوة دول الشمال، أي الدول الاسكندنافية الثلاث النرويج والسويد والدنمارك بالإضافة إلى فنلندا وآيسلندا، لها تأثير كرة الثلج وهي سوف تصل إلى بقية دول الاتحاد الأوروبي.
تجدر الإشارة إلى أن فنلندا كانت قد أبلغت ألمانيا بداية، في أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بعدم السماح للمسافرين الذين لا يحملون جوازات سفر أو تأشيرات دخول (لغير المواطنين الأوروبيين) أن يركبوا البواخر المبحرة منها نحو هيلسنكي.
إلى ذلك، في حال أخذنا بعين الاعتبار الأرقام السويدية الرسمية، فإن "مصلحة الهجرة" أعلنت في الثاني من يناير/ كانون الثاني الحالي، بأنه "من بين 163 ألف طالب لجوء وصلوا البلاد في عام 2015، فإن 80 في المائة منهم لم يحملوا معهم أي جواز سفر، و60 في المائة منهم بلا أي أوراق ثبوتية". بالتالي، ثمّة مشكلة كبيرة تواجهها الدول في إثبات من هو السوري ومن هو المدعّي ذلك. وفي أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عبّر وزير داخلية ألمانيا توماس دو مايزير عن المشكلة بشكل تهكمي، إذ قال بعد وصول مئات آلاف اللاجئين إلى بلده، خصوصاً بعدما سمحت المجر بعبور الآلاف من الذين تكدسوا في سبتمبر/أيلول من العام الماضي: "لدينا الآلاف من السوريين الذين لا يعرفون العربية!". وقد اكتشفت ألمانيا، تماماً كما السويد، مبكراً بأن عشرات الآلاف ادعوا أنهم من سورية، وحين استدعي المترجمون العرب للترجمة تبيّن بأن هؤلاء ليسوا سوريين. وقد واجهت فنلندا المشكلة بأن أوقفت دراسة طلبات اللجوء لبضعة آلاف من العراقيين. ووفق مصادر رسمية في هيلسنكي، تبيّن أن عدداً كبيراً من هؤلاء ادعى أنه من سورية، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك.
"جدران" برلين
وفي ضوء الأعداد التي وصلت إلى أوروبا في عام 2015، وقد فاقت المليون ومائة ألف مهاجر طالب لجوء، فإن المهمة الملقاة على دول الاتحاد ووكالة مراقبة حدوده "فرونتيكس" سوف تكون كبيرة خلال عام 2016 الجاري. وتتوقع منظمات أوروبية وحكومات غربية ومنظمات تابعة للأمم المتحدة بأن يشهد العام مع بداية الربيع وتحسّن الأحوال المناخية، زيادة كبيرة مع تدفّق مئات الآلاف شمالاً. ويذهب بعض الخبراء إلى اعتبار غياب سياسة موحّدة للهجرة واللجوء، وتحميل ألمانيا مسؤولية "الإشارات المشوشة عن الحدود المفتوحة في وجه طالبي اللجوء"، السببَين اللذَين أدّيا إلى أزمة اللاجئين واندفاعهم شمالاً. وهو ما أشارت إليه حكومات دول شرق أوروبا وأحزاب اليمين في ألمانيا ذاتها ودول الشمال، تحت عنوان "فوضى اللجوء". والكشف عن عجز توزيع 160 ألف لاجئ بين دول الاتحاد وفق الاتفاقية التي توصّل إليها قادة الاتحاد نهاية العام الماضي، يدفع ببعض الدول إلى البحث عن حلول أحاديّة تصل إلى حدّ بناء جدران متعددة يشبّهها بعضهم بجدار برلين.
اقرأ أيضاً: مخيّمات الدنمارك.. "العربي الجديد" تنقل مأساة طالبي اللجوء