27 أكتوبر 2024
شهود الزور
قتلت المليشيات الصربية، في صيف 1995، ثمانية آلاف رجل بوسني في مدينة سيربرينيتسا التي لم يكن عدد سكانها يتجاوز 20 ألفاً. وكانت هذه المدينة تتمتع بحماية من قوات الأمم المتحدة من أصحاب القبعات الزرق، قادها في البداية الجنرال الفرنسي فيليب موريون الذي عُرف عالمياً بمشهد صعوده على ظهر دبابة، وخاطب الأهالي قائلاً: "لن نتخلى عنكم". ويُعتقد أن هذا التصريح المُطمئن قد أودى بصاحبه، فجرى استبداله بضابط هولندي سرعان ما صرّح إن قواته غير قادرة على حماية المدينة. وقامت القوات الصربية بترحيل النساء والأطفال، واستبقت الرجال في مناطق تجمّع تحت علم القوات الأممية ونظرها، كما تابعت العملية طائرات استطلاع الحلف الأطلسي (الناتو)، من دون أي تدخل، على الرغم من مطالبة عناصر القوة الأممية بدعم جوي ربما كان له في اعتقادهم أن يجعل الصرب يحجمون عن ارتكاب مجزرة. ونقلت القوات الصربية الرجال إلى الغابات المحيطة، حيث جرى إعدامهم ورمي جثثهم في مقابر جماعية. وحتى يومنا هذا، أي بعد 23 عاماً من المجزرة، تستخرج فرق بحثية متخصصة بقايا الجثث، وتتعرّف على أصحابها وتدفنهم. وتم فيما بعد إخلاء قوات الأمم المتحدة، والتي أُعطيت لها الأوامر بالصمت المطبق عمّا شاهدته أو عايشته خلال المجزرة من دون أن تتمكن من حماية المدنيين، كما تفرض عليها عُهدتها.
سال حبر كثير منذ ذاك الوقت عن عمل الأمم المتحدة، وعجزها وفساد بعض مؤسساتها. ومنذ ذاك اليوم، لم تنقطع الاقتراحات بإصلاح المنظومة الأممية من جوانب مختلفة. وبقي هذا الحبر على ورق النسيان، واستمرّت الأمم المتحدة، بمنظماتها المختلفة، شاهد زور على مجازر أو
على تدمير تراث أو على استيطان أراضي الغير، أو على فساد مستشرٍ في أروقتها ... وصار الحديث عنها حافلاً بالتندّر، وصارت عملياتها محلّ سخرية. وبالتأكيد، فعجز منظمة الأمم المتحدة لم يكن وليد الحالة البوسنية أو ما تلاها، إنما هو عجزٌ بنيوي، وكأنه أُريد له، منذ التأسيس، أن يترسّخ في النصوص الناظمة، وفي الممارسات الظالمة.
ويتوضّح هذا الأمر جليّاً في الحالتين، الفلسطينية والسورية. فطوال عقود، عجزت الأمم المتحدة عن إنهاء احتلال فلسطين، والحد من الاستيطان وتحرير المعتقلين وتعزيز المساعدات الإنسانية لمئات ألوف المدنيين ضحايا العنصرية الاستيطانية الإسرائيلية. وجاءت المقتلة السورية، لتُظهر عجز الأمم المتحدة بأقبح صوره، من خلال تعاقب الوسطاء غير الفاعلين، ومن خلال العجز عن إيصال رغيف خبز إلى المحاصرين، ومن خلال فسادٍ أخلاقي، قبل أن يكون ماليا، تمثّل مثلاً في تعيين زوجة مسؤول سوري معنيٍّ مباشرة بالمقتلة، مديرة لبرنامج أممي لمعالجة آثار الحرب على الأطفال. كما تعاقبت فضائح إيصال المساعدات إلى طرف حكومي، من دون أي ضمان لإيصالها إلى الأطراف الأخرى. ومن خلال عمل استقصائي حثيث، قام به المجتمع المدني السوري تحديداً، ودعمٍ مهني من بعض الصحافة الغربية، تبيّن بجلاء أن التعاون الحثيث مع السلطات هو أكثر ما يُميّز عمليات مختلف المؤسسات التابعة للأمم المتحدة في الحالة السورية.
وإن جرى غضّ النظر مرحلياً عن كل هذه التجاوزات، وقبول حجج العاملين الأمميين في المجال الإغاثي من أصحاب الياقات البيض والرواتب المرتفعة، فمن الصعب تفهّم الممارسات السياسية لهذه المنظمة التي تترجمها تصريحات الأمين العام أنطونيو غوتيريس، أخيرا، إبّان مجزرة الغوطة قرب دمشق التي أودت بمئات الضحايا خلال أيام قليلة، وعبّر من خلال تصريحاته عن "قلقه"، ثم ذهب إلى النوم.
وللمبعوث الأممي في سورية، ستيفان دي ميستورا، السبق أن يحظى مستقبلاً بمجلداتٍ تكشف عجزه الإرادي وتلوّنه الحواري وتشتيته المفاوضات من خلال تمييع الأمر السياسي في سلال تقنية، ومن خلال محاولة الالتفاف على المجتمع المدني، بإيجاد مجتمعات مدنية موازية، ومن خلال النفاق المستشري، في تصريحاته، ومن خلال تقاريره غير المكتملة إرادياً، عن المسؤوليات المختلفة في الصراع، ومن خلال صمته المطبق عن المجازر التي كانت دائماً تلي زياراته وابتساماته العريضة لمسؤولي دمشق.
ربما يقول قائل إن هذا هو دوره، وعليه أن يُخاطب الجميع، وإنه ليس إلا وسيطاً محايداً في
صراع دموي حامي الوطيس. إذا، عليه أن يكتفي بذلك فعلاً، ولا يمارس التقية عند بيعه كلاماً معسولاً لهذا الطرف أو ذاك، ولا "يتشاطر" في اقتراحات سوريالية يسعى منها إلى استمرار دوره غير واضح المعالم.
هل استقال أحدٌ من أصحاب الرواتب العالية احتجاجاً على قصف قوافل المساعدات على أبواب حلب في نهاية 2016؟ وهل دفع القلق الذي شاب الأمين العام إلى إجراءات أخلاقية تتجاوزه بإعلان العجز والاستقالة؟
في مشهد ملحمي انتشر قبل أيام، ظهر ناشط مدني من الغوطة، مخاطبا بألم عميق موظفي الأمم المتحدة والصليب/ الهلال الأحمر، الذين دخلوا مع قليل من المساعدات الغذائية، بعد أن جرّدت قوات النظام شاحناتهم من المساعدات الطبية في ظل صمتهم المطبق. وفي شرحه أحوال المدنيين، بدا وكأنه يستصرخ ضمائر تماثيل الشمع التي أمامه. لكن وجوههم كانت تشبه وجوه الموتى، لا بل إن بعضهم كان يتحدث مع مجاوره، بانتظار أن ينتهي الموجوع من صراخه. ربما كان يسأله متى إجازته أو ماذا سيتغدى أو يروي نكتة. وقد ظهر على محيّا أحدهم امتعاضه من الصوت المرتفع للرجل المكلوم.
على جدارٍ في مدينة سربرينيتسا، كتب الأحياء العبارة المُحقّة التالية: UN, United Nothing
سال حبر كثير منذ ذاك الوقت عن عمل الأمم المتحدة، وعجزها وفساد بعض مؤسساتها. ومنذ ذاك اليوم، لم تنقطع الاقتراحات بإصلاح المنظومة الأممية من جوانب مختلفة. وبقي هذا الحبر على ورق النسيان، واستمرّت الأمم المتحدة، بمنظماتها المختلفة، شاهد زور على مجازر أو
ويتوضّح هذا الأمر جليّاً في الحالتين، الفلسطينية والسورية. فطوال عقود، عجزت الأمم المتحدة عن إنهاء احتلال فلسطين، والحد من الاستيطان وتحرير المعتقلين وتعزيز المساعدات الإنسانية لمئات ألوف المدنيين ضحايا العنصرية الاستيطانية الإسرائيلية. وجاءت المقتلة السورية، لتُظهر عجز الأمم المتحدة بأقبح صوره، من خلال تعاقب الوسطاء غير الفاعلين، ومن خلال العجز عن إيصال رغيف خبز إلى المحاصرين، ومن خلال فسادٍ أخلاقي، قبل أن يكون ماليا، تمثّل مثلاً في تعيين زوجة مسؤول سوري معنيٍّ مباشرة بالمقتلة، مديرة لبرنامج أممي لمعالجة آثار الحرب على الأطفال. كما تعاقبت فضائح إيصال المساعدات إلى طرف حكومي، من دون أي ضمان لإيصالها إلى الأطراف الأخرى. ومن خلال عمل استقصائي حثيث، قام به المجتمع المدني السوري تحديداً، ودعمٍ مهني من بعض الصحافة الغربية، تبيّن بجلاء أن التعاون الحثيث مع السلطات هو أكثر ما يُميّز عمليات مختلف المؤسسات التابعة للأمم المتحدة في الحالة السورية.
وإن جرى غضّ النظر مرحلياً عن كل هذه التجاوزات، وقبول حجج العاملين الأمميين في المجال الإغاثي من أصحاب الياقات البيض والرواتب المرتفعة، فمن الصعب تفهّم الممارسات السياسية لهذه المنظمة التي تترجمها تصريحات الأمين العام أنطونيو غوتيريس، أخيرا، إبّان مجزرة الغوطة قرب دمشق التي أودت بمئات الضحايا خلال أيام قليلة، وعبّر من خلال تصريحاته عن "قلقه"، ثم ذهب إلى النوم.
وللمبعوث الأممي في سورية، ستيفان دي ميستورا، السبق أن يحظى مستقبلاً بمجلداتٍ تكشف عجزه الإرادي وتلوّنه الحواري وتشتيته المفاوضات من خلال تمييع الأمر السياسي في سلال تقنية، ومن خلال محاولة الالتفاف على المجتمع المدني، بإيجاد مجتمعات مدنية موازية، ومن خلال النفاق المستشري، في تصريحاته، ومن خلال تقاريره غير المكتملة إرادياً، عن المسؤوليات المختلفة في الصراع، ومن خلال صمته المطبق عن المجازر التي كانت دائماً تلي زياراته وابتساماته العريضة لمسؤولي دمشق.
ربما يقول قائل إن هذا هو دوره، وعليه أن يُخاطب الجميع، وإنه ليس إلا وسيطاً محايداً في
هل استقال أحدٌ من أصحاب الرواتب العالية احتجاجاً على قصف قوافل المساعدات على أبواب حلب في نهاية 2016؟ وهل دفع القلق الذي شاب الأمين العام إلى إجراءات أخلاقية تتجاوزه بإعلان العجز والاستقالة؟
في مشهد ملحمي انتشر قبل أيام، ظهر ناشط مدني من الغوطة، مخاطبا بألم عميق موظفي الأمم المتحدة والصليب/ الهلال الأحمر، الذين دخلوا مع قليل من المساعدات الغذائية، بعد أن جرّدت قوات النظام شاحناتهم من المساعدات الطبية في ظل صمتهم المطبق. وفي شرحه أحوال المدنيين، بدا وكأنه يستصرخ ضمائر تماثيل الشمع التي أمامه. لكن وجوههم كانت تشبه وجوه الموتى، لا بل إن بعضهم كان يتحدث مع مجاوره، بانتظار أن ينتهي الموجوع من صراخه. ربما كان يسأله متى إجازته أو ماذا سيتغدى أو يروي نكتة. وقد ظهر على محيّا أحدهم امتعاضه من الصوت المرتفع للرجل المكلوم.
على جدارٍ في مدينة سربرينيتسا، كتب الأحياء العبارة المُحقّة التالية: UN, United Nothing