لا يكفي في هذه الجغرافيا أن تمتلك الموهبة وحس الفكاهة كي تصبح ذا شأن ويفتح المستقبل ذراعيه لك. تحتاج إلى قدرٍ كافٍ من الاهتمام وإيمان الآخرين بك.
هنا، تدخّل أستاذ التربية الرياضية، ليُخضع موهبة محمد، أو شِكس كما يناديه كل من يعرفه، لتحدٍّ من نوع آخر. يقول شكس في حديثه مع "جيل العربي الجديد": "فاجأني الأستاذ حين طلب مني أن أعلّق على نهائي بطولة المدرسة. كان هنالك الكثير من الطلاب والمعلمين، ولكنه أخبرني أن نجاحي في المادة مرتبط بقبولي التعليق على نهائي البطولة، وهنا بدأت رحلتي".
لم تكن هذه الحادثة إلا الحلقة الأولى في سلسلة تحول موهبة محمد إلى مهنة وعمل احترافي. فبعد عامين، كان جالسًا مع أصدقائه على رصيف أحد شوارع منطقة الحي الشمالي في إربد، عندما طُلب منه أن يعلّق على نهائي بطولة الخماسي لكرة القدم في المحافظة.
يضيف شِكس: "وضعوني فوق خزانات المياه لأكشف الملعب أمامي، أمسكت المايكروفون لوهلة، كانت أطول سبع ثوان في حياتي، سمع صوتي أكثر من ثلاثة آلاف متفرّج، فأخذتني الحماسة حتى بُحَّ صوتي يومها، وفي اليوم التالي فوجئت بأن الصحف تتحدث عني".
آمن شكس كليًا بموهبته، وسعى منذ صغره إلى تطويرها والخروج من دائرة مباريات الحي ومنافسات المدرسة. ولقلة الاهتمام المحلي وصعوبة الوضع الاقتصادي، تقدم لمسابقة لاختيار معلّقين رياضيين لقناة رياضية عربية مختصة.
يتحدث عن تجربته: "كنت حينها في السابعة عشرة من عمري ورُفض طلبي كوني تحت السن القانونية، صرت أتابع البرنامج وأنا أبكي قهرًا، كنت واثقًا من أن لدي من القدرات ما هو أفضل بكثير ممن تم قبولهم".
إصراره دفعهُ بعد أشهر من تلك الحادثة للمشاركة في واحد من برامج المواهب العربية. رحّبت اللجنة المقيّمة بموهبته، ونجح في الاختبارات الأوليّة، وأعطي رقم اشتراك يؤهله للدور الثاني: "توجّب علي السفر للانتقال للمرحلة المقبلة، لكن الظروف الصعبة لم تمكني من توفير ثمن التذكرة، فاحتفظت ببطاقة الحظ العاثر التي أعطيت لي للذكرى ورقمها 221، وتوقفت كليًا عن التعليق".
أربع سنين تناسى خلالها شكس التعليق وتوجه إلى مجالٍ آخر محاولًا تطوير موهبة أخرى هي التمثيل، حتّى حضر كأس العالم في عام 2014، حاملًا فرصةً أخرى لصوت محمد علي، الذي سارع للتقدم بفكرة بث مباريات كأس العالم عبر إذاعة أردنية والتعليق عليها. كبر حلمه وكبرت مسؤوليته، هذه المرة لن يسمعه أبناء الحي الشمالي وحسب، بل مئات آلاف المولعين في هذه اللعبة، لتكون هذه المرحلة نقطة التحول في حياته.
ولأن لكل مرحلة حساباتها الخاصة، وقراراتها الحاسمة، بدأ محمد برسم هويته في مجال التعليق، فيقول: "بعد كأس العالم، تلقيت نصائح وتوجيهات من المتابعين، قررت على ضوئها التوقف عن تقليد أصوات وأساليب المعلقين المعروفين، وأن يصبح لدي طابع خاص، لقناعتي بأن التقليد لا يمكن أن يطور من قدرات الإنسان".
ابتكر شكس نهجًا يمزج فيه بين مدرسة أميركا اللاتينية الصاخبة، والمدرسة الأوروبية القائمة على التحليل الرياضي في أثناء التعليق، وهي مهمة صعبة جدًا وما يزيد تعقيدها، هو التعليق الإذاعي، الذي يفرض عليه أن ينقل للمستمع ما لا يستطيع رؤيته.
إلّا أن هذه الطريقة، كان لها أثر إيجابي على شخصية المعلّق الشاب، فقد دفعته للبحث في أسرار كرة القدم وخطط المدربين، وتاريخ الأندية وجغرافيا الدول، والأبعاد السياسية والاقتصادية، التي تقف خلف هذا النادي أو ذاك، والعداء بين ناديين وجماهيرهما؛ مما دفعه إلى القراءة والبحث والمتابعة المستمرة لما يجري من حوله على كل الأصعدة.
ربما يعتقد المتابع أن هذه المهنة لا تحمل صعوباتٍ وتحديات بقدر كبير، إلا أن شكس يكشف عكس ذلك تمامًا: "هذه المهنة ليست بالبساطة التي يتخيلها البعض، فعدا عن ظروف العمل القاسية التي تجبرك على التعليق على أكثر من مباراة في اليوم الواحد، مضحيًا بصوتك وانتظام عملية التنفس لديك، قد تجد نفسك في واحدة من نوبات الذهول الذهني أو الصدمة، كما حدث معي في واحدة من المباريات التي شهدت إثارة كبيرة، إذ فقدت تركيزي وبت لا أعرف أين أنا ومن يلعب الآن، كانت ثوانيَ مرعبةٌ في حياتي، اضطررت بعدها إلى مراجعة الأطباء".
تبقى هذه المخاطر بنظر محمد علي صغيرة أمام مشاعره حيال تلقيه رسائل ومقاطع فيديو تشكره وترحب بموهبته من دولٍ، مثل العراق ومالي والجزائر واليمن.
يقول: "أكثر ما يمكن أن يؤثّر بي هو أن أتلقى رسائل شكر من متابعين يلتقطون بث هذه الإذاعة البسيطة، التي أعلق من خلالها عبر الإنترنت، وكل منهم يلفظ لقبي، الشّكس، بلهجته وطريقته الخاصة. إلا أن فيديو من اليمن يُسمع في خلفيته صوت القصف العنيف، ممزوجًا بصوت تعليقي على إحدى المبارات، يبقى الأكثر تأثيرًا بي وإثارة لمشاعر مضطربة داخلي".
يقترب شكس الآن من حلمه بخطى ثابتة، حيث كان لثقته بنفسه وإصراره الدائم، ثمرةٌ يكاد يقطفها، بعد أن بدأت قنوات رياضة عربية مختصة تراقبه عن كثب، وهو ما أراده منذ أن أحب في صغره هذه المهنة، ويعمل بجد على تطوير نفسه أكثر والاستفادة من خبرات من سبقوه في هذا المجال، رغم أن تحقيق هذا الحلم سيدفع إلى التخلي عن اسم الشهرة، والذي ارتبط به منذ الطفولة، وعرف من خلاله في المدرسة والحي والمهنة، والذي يرمز إلى الحروف الأربعة الأولى من اسم الكاتب الإنجليزي، وليم شكسبير.
(الأردن)