صاحبة "الخيمة الأخرى"
هي التي رحلت عنا، قبل أيامٍ، في أواخر عامٍ حفل برحيل كبارٍ على غير صعيد. إنها رضوى عاشور، الكاتبة والناقدة المصرية المرموقة التي تتميز بين الراحلين، هذا العام، بموقع خاص في أحداث زماننا. إنها ابنة الحركة الوطنية المصرية التي قاومت انحرافات النظام الساداتي- المباركي الذي أقصى منجز عبد الناصر جانباً، وأمعن في رحلة التخلّي، لا عن "دوره القومي" فحسب، بل عن مسؤوليته حيال شعبه وبلاده، فأغرق مصر في المرض والجهل والفقر، هي التي كانت منارة العلم والأدب والتنوير.
لرضوى عاشور موقع خاص في أربعين عاماً من النضال ضد انحرافات النظام المصري، ومفاسده التي أدت، في النهاية، إلى ثورة 25 يناير المجيدة، فلم تهبط تلك الثورة على ميدان التحرير بالباراشوت، وإنما كانت ثمرة مسار طويل، متراكم، من نضالات الشعب المصري، ونخبه العمالية والثقافية والمهنية، في سبيل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. يتذكر أبناء جيلي الكاتبة الراحلة بتلك الإطلالة القوية على الساحة الأدبية العربية، من خلال كتابها "في الطريق إلى الخيمة الأخرى" الذي قدمت فيه قراءة مختلفة لأدب غسان كنفاني عن القراءات النضالية، ضيقة الأفق، لصاحب "عائد إلى حيفا". كان ذلك الكتاب دليلاً نقدياً، متقدماً، إلى أعمال كنفاني، واختياراً سياسياً ونضالياً، في الوقت نفسه، لرضوى عاشور التي أرادت أن تؤكد من خلاله، في لحظة ساداتية مفارقة، بالكامل، لآمال الشعب الفلسطيني، على انتمائها لهذا الأخير.
لن أتحدث، هنا، بسبب طبيعة هذه الزاوية، عن الجانب الأدبي والنقدي لدى الفقيدة (بكل معنى الكلمة)، وهو لا ينفصل عن الجانب النضالي، أو الوطني، ذي الطبيعة السياسية، في شخصية رضوى عاشور، فإذا كانت ستفتقدها الساحة الثقافية، فإن فقدانها، سياسياً ووطنياً، لن يكون أقلّ، خصوصاً في هذه الفترة المصرية الحرجة التي صارت فيها الشوفينية والعنصرية البغيضة فعلاً وطنياً، والانتماء إلى أعمق ما تمثله مصر، داخلياً وخارجياً، خيانة، أو انحرافاً عن جادة الوطن.
نفتقد، نحن محبّو مصر، إلى أصوات تغرد خارج سرب الانصياع الذي يأخذ مصر، مغمضة العينين، إلى هوَّة الشوفينية الانعزالية التي باتت تتفوق على ما كانته "الجبهة اللبنانية" (وصوتها الصادح سعيد عقل) في أسوأ أيام الحرب الأهلية اللبنانية، بالأخص ضد الفلسطينيين. ولولا الدعم السعودي السخي لعبد الفتاح السيسي، لربما رأينا العجب العجاب عن العربان والبدوان وآكلي الجراد والضب.
صوت وطني، تقدمي، إنساني مثل صوت رضوى سيكون محل افتقاد شديد، في هذه الآونة الغبراء. ولعل مما يبعث على العزاء أن صديقة ورفيقة لها (تُذكِّر إحداهما بالأخرى) هي أهداف سويف تواصل حمل شعلة الحرية في مصر، لجميع المصريين من دون تمييز، إذ قضية الحرية لا تتجزأ، ولا هي حكر على أحد دون آخر.
ومثلما سيتذكّر المصريون الراحلة العزيزة، في الليالي التي يفتقد فيها البدر، سيتذكرها الفلسطينيون التي أطلَّت مبكراً على قضيتهم وقدَّمت في سبيلها أكثر من عمل نقدي وروائي. آخر ما أعرفه، على هذا الصعيد، روايتها "الطنطورة" التي أسهمت فيها بـ"توثيق" مجزرة إسرائيلية مجهولة بحق الفلسطينيين، لا تقل عن مجزرة دير ياسين. ولمن لا يعرف قرية الطنطورة، وما جرى فيها (22/ 23/ 5/ 1948) نقول إنها من قرى الساحل الفلسطيني الذي عملت العصابات الصهيونية على إفراغه من أهله، بتصفية فلسطين من شعبها وتهجيره إلى خارج بلاده. حظيت مجزرة دير ياسين ببعض الاهتمام الإعلامي، فيما بقيت مجزرة الطنطورة "مجهولة" حتى عام 2000، عندما كشف باحث جامعي إسرائيلي النقاب عنها. قدمت رضوى في روايتها هذه مزيجاً من الروائي والتاريخي (بل الوثائقي) على نحو ما دأبت في تحويل الواقعة التاريخية إلى عمل روائي.
وداعاً رضوى.. مصر ولّادة.