على خلفيّة ملفات الفساد المختلفة في وزارة الصحة في العراق، يمضي المواطنون في مناشدة المسؤولين إيجاد حلّ لما يعدّونه "كارثة"، في إشارة إلى الواقع الصحي المتردّي.
يدور الحديث في العراق، منذ أسابيع، حول القطاع الصحي في البلاد وحول الفساد الذي ينخره والذي بدا واضحاً أخيراً. ولعلّ الدليل على ذلك المرضى الذين تتدهور أحوالهم، والمستشفيات التي تهالكت بناها التحتية، وعدد المواطنين الذين يسافرون لتلقّي العلاج على حسابهم الخاص في دول مختلفة مثل إيران وتركيا والأردن ولبنان.
وفساد القطاع الصحي يعني الفساد في وزارة الصحة العراقية، الأمر الذي تؤكده ملفات عدّة كشف عنها سياسيون عراقيون لصفقات في عهد وزيرة الصحة السابقة عديلة حمود، لا سيّما صفقة الأحذية الطبية التي أثارت ضجّة بين العراقيين. وقد عبّر مواطنون كثر عن استيائهم من خلال تعليقات قاسية طاولت حمود على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها. يُذكر أنّ في تلك الصفقة التي وُجّهت على أثرها اتهامات من بين أخرى إلى حمود، في خلال جلسة استجواب في مجلس النواب العراقي، كان العقد ينصّ على شراء 26 ألف حذاء طبي بمبلغ 900 مليون دولار أميركي. صفقة الأحذية الطبية التي أطلق عليها كثيرون اسم "نعال عديلة" في عام 2017، ليست الوحيدة التي تُصنَّف من بين صفقات الفساد التي كُشف عنها في أثناء جلسة الاستجواب، فقد أظهرت وثائق عرضها النائب عواد العوادي شراء وزارة الصحة أثاثاً بمبلغ تخطّى 23 مليون دولار، بالإضافة إلى عقد شراء سلال نفايات بأكثر من ثلاثة ملايين دولار، فضلاً عن ملفات تعيين وتنسيب أقارب بعيداً عن الضوابط القانونية.
في سياق متصل، كشف سياسيون عراقيون آخرون عن مشاريع وهمية لبناء مستشفيات في البلاد، كلّفت الحكومة مبالغ طائلة، وهو ما أكّده عضو مجلس النواب فائق الشيخ علي الذي ذكر في إبريل/ نيسان الماضي في تغريدة على حسابه على موقع "تويتر"، لافتاً إلى "وجود ثلاثة مستشفيات وهمية" تمّ تمرير مشاريعها في زمن تولّي عديلة حمود وزارة الصحة. وكشف الشيخ علي أنّ المستشفيات الوهمية الثلاثة "كلّفَت الدولة 400 مليون دولار، بناءً وكوادر وأدوية وأجهزة وتخصيصات"، في إشارة إلى تخصيص رواتب لكوادر موثّق وجودها إلا أنّ الأمر ليس كذلك، بالإضافة إلى مصاريف أدوية وأجهزة غير متوفرة في الواقع.
وتأتي تلك الفضائح في سياق الفساد المستشري في وزارة الصحة، بحسب ما يؤكّد مطلعون على هذه المؤسسة الخدمية المهمة. ويتحدّث مسؤول عراقي في مكتب المفتش العام في وزارة الصحة، فضّل عدم الكشف عن هويته لـ"العربي الجديد"، عن "مقاولات لصيانة مستشفيات وتأهيلها تُلزَّم بمبالغ طائلة تصل إلى أضعاف قيمتها الحقيقية". يضيف أنّ "ثمّة مقاولات أخرى صغيرة تتعلق بتجهيز المستشفيات والوزارة ودوائر الصحة بأجهزة وأثاث ومواد مختلفة، المبالغ المرصودة لها كبيرة جداً، الأمر الذي يؤكّد أنّ الفساد متغلغل في هذه الوزارة".
ويتابع المسؤول نفسه أنّ "موازنة وزارة الصحة في السنوات الخمس الماضية بلغت نحو ستة مليارات دولار، وفي هذا العام وحده (2019) بلغت ملياراً و600 مليون دولار. على الرغم من ذلك، لا نلمس أيّ تحسّن في القطاع الصحي، فيما لم يُنشأ في تلك السنوات الماضية أيّ مستشفى ولم يلحق أيّ تطوير بالخدمات المقدمة. كل ذلك يمثّل إجابة عن السؤال حول حقيقة الفساد في وزارة الصحة. والسؤال بحدّ ذاته يستند إلى المنطق انطلاقاً من الواقع الحالي المتردّي. لكنّ المجاملات السياسية ونفوذ الأحزاب المتورّطة بفساد الوزارات يقفان عائقاً أمام فتح ملف فساد وزارة الصحة أو وزارات أخرى مثل التربية والتعليم والبلديات وغيرها".
أخطاء طبية
عمليات فساد وزارة الصحة التي فُضِحت أمام الرأي العام لم تكن لتنال اهتماماً شعبياً كبيراً لولا مآخذ أخرى على هذه الوزارة أفقدت المواطنين ثقتهم بها، على خلفية فقدانها إمكانيات كثيرة كانت تتمتّع بها قبل عقدَين من الزمن على أقلّ تقدير. ويمكن للمراقب أن يلاحظ افتقار المستشفيات الحكومية إلى شروط صحية كثيرة، علماً أنّ تلك المستشفيات كانت في السابق مقصداً لمرضى من بلدان عدّة بهدف تلقّي العلاج. بالتالي، سلّم العراقيون بأنّ المستشفيات في بلادهم تفشل في توفير العلاج لهم، وصار السفر للاستشفاء في بلدان أخرى أمراً شائعاً، فراحت مكاتب السفر تروّج للعلاج في مستشفيات أجنبية وعربية مختلفة، كذلك الأمر بالنسبة إلى مواقع إلكترونية أنشئت لهذه الغاية.
وتُسجّل أخطاء طبيّة في المستشفيات الحكومية، منها أخطاء في التشخيص كادت تودي بحياة مرضى لولا استدراكهم الأمر عبر السفر للعلاج في خارج البلاد. صبحي جواد من هؤلاء، يخبر "العربي الجديد" أنّه كان سيخضع لعملية جراحية خطيرة في المخّ، موضحاً أنّ "أكثر من طبيب في أكثر من مستشفى حكومي أكّدوا لي ضرورة تلك الجراحة". لكنّه خالف آراءهم وتوجّه إلى لبنان، "وهناك تلقيت علاجاً غير جراحي وشفيت، فيما اكتشفت أنّ نسبة نجاح الجراحة كانت فقط خمسين في المائة". أمّا نسرين توفيق، فتقول لـ"العربي الجديد" إنّ "والدتها توفيت في عام 2010 بسبب تشخيص خاطئ، وهو أمر اكتشفته العائلة بعد فوات الأوان. ومنذ ذلك الحين، اضطررنا إلى اللجوء إلى أطباء في الأردن عند حاجتنا إلى أيّ تشخيص طبي، على الرغم من تكلفة السفر الباهظة".
لا نظافة
وبعدما كان العراق في صدارة دول الشرق الأوسط في مجال الصحة، لجهة الخدمات الصحية والعلاجية والبنى التحتية المتطورة للمستشفيات والمؤسسات الصحية، صارت مستشفياته نتيجة عدم الاهتمام بها مادة إعلامية فضائحية أو سبباً للتندّر عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وراحت تُنشَر صور وتُبثّ تسجيلات فيديو تظهر انعدام النظافة والإهمال، بالإضافة إلى أخرى تكشف كيف تسرح القطط والكلاب والضباع والأفاعي والعقارب والجرذان في تلك المستشفيات.
ويوجّه أطباء ومتخصصون في المجال الصحي والمجال الخدماتي انتقاداتهم في السياق، لا سيّما في ما يتعلق بالنظافة في مستشفيات العراق عموماً. وقد كتب البروفسور الطبيب محمد العبيدي على صفحته الخاصة على موقع "فيسبوك": "تخيلوا معي وزارة يفترض أنّها تعنى بصحة المواطن وحيث إنّ التدخين يُعَدّ واحداً من أخطر مسببات الأمراض، نجد تلك الوزارة لا تلتزم هي نفسها بأبسط معايير صحة المواطن". أضاف: "رأيت بأمّ عيني مدير مكتب الوزيرة السابقة وهو يدخن في مكتبه والدخان يملأ الممرات وكثيراً من موظفي الوزارة يدخنون في مكاتبهم، كما رأيت مدراء عيادات شعبية يدخنون في أروقتها".
من جهته، يقول الدكتور محمد العاني، وهو طبيب جراح يعمل في أحد مستشفيات بريطانيا اليوم، لـ"العربي الجديد"، إنّه صُدم بـ"واقع مأساوي" حين زار ذويه في العراق قبل عامَين. والعاني كان قد غادر العراق في عام 2005، بعد حملة قتل استهدفت الكفاءات العراقية عقب الغزو الأميركي للبلاد الذي أطاح بنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين. ويوضح العاني الذي يؤكد "كنت وما زلت عازماً على العمل في مستشفيات العراق"، أنّ "النظام الصحي في البلاد يحتاج إلى تغيير جذري، وإلى فصل وزارة الصحة عن المحاصصات الطائفية المعمول بها وفقاً لتقاسم السلطة بين الكتل السياسية، فتكون للقانون السلطة العليا حتى يضمن حصول الأطباء وجميع العاملين في المجال الصحي على الحماية". يضيف العاني: "وجدت أنّ الطبيب والكوادر الطبية عموماً يتعرّضون للاعتداء من قبل عناصر أمنية أو مليشياوية في داخل المستشفيات، ويهدَّدون بالقتل في حال وفاة مريض لم يتمكّنوا من إنقاذه لسبب أو آخر، بالإضافة إلى مشاكل أخرى كثيرة".
معدات غير صالحة
ومن آخر ما تناقله العراقيون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في ما يتعلّق بمشاكل القطاع الصحي، تسجيل فيديو صوّره طبيب جراح في أثناء إجرائه عملية لمريضة من داخل قسم العمليات في مستشفى حكومي ببغداد. وقد أكّد الفيديو وشرح الطبيب تردّي حال الأجهزة الطبية التي تُعَدّ غير صالحة للاستخدام. ويظهر واضحاً كيف أنّه بعد تخدير المريضة والبدء بالعملية الجراحية، اضطر الطبيب وفريقه إلى وقف كل شيء بسبب توقّف أحد الأجهزة عن العمل. وتسجيل الفيديو الذي وثّق بالصوت والصورة ما جرى، يأتي كدليل قاطع على ما يعانيه الأطباء من إهمال حكومي واضح للمؤسسة الطبية، علماً أنّه لقي تفاعلاً واسع النطاق في الشارع العراقي.
تجدر الإشارة إلى أنّ آخر إجراء اتّخذه المسؤول المباشر عن وزارة الصحة، هذه المؤسسة الخدمية المهمة، كان فتح ملفات الفساد، بحسب ما أفادت عضو مجلس النواب عالية نصيف في بيان أصدرته في 21 أغسطس/ آب المنصرم. وأوضحت نصيف في بيانها أنّ وزير الصحة علاء العلوان "تمكّن من تجاوز التحديات التي حاولت مافيات الفساد وضعها في طريقه، وقام بفتح تحقيقات بناءً على المعلومات الواردة في قنوات فضائية"، مضيفة أنّ العلوان "استجاب لبيانات وتصريحات النواب وأخذها على محمل الجدّ، وفتح تحقيقات حول أدقّ تفاصيل المستشفيات والعلاجات المقدّمة للمراجعين وخصوصاً لمرضى السرطان ولقاحات الأطفال ومناشئ الأدوية".