30 ديسمبر 2021
صديقي الذي ضيّعه الحب وأنقذته الكُرة (1)
يمر على بالي فأذكره بكل خير، ويهفُّني الشوق إليه أحياناً فأسأل عن أراضيه بعض من بقيت على اتصال بهم من زملاء الدراسة، ومع أنه صار بعيداً عن العين، إلا أنه ظل حاضراً في البال كلما أردت أن أتخذ مثلاً عن الإنسان حين ينقذه شغفه، وإن بدا للآخرين شغفاً في غير محله، وهوساً بتفاصيل لا تسمن ولا تغني من جوع وبطالة.
في بدايات معرفتي به في عامنا الجامعي الأول كان يعطيك إحساساً بالكِبر والتناكة، سرعان ما اتضح أنه إحساس خادع، وأنه كان يخفي خلف ملامحه المتجهمة قلباً يَسَع من الحبايب عشرين، وأنه قادر بكلمات قليلة على تحويل قرفه من كل شيء، إلى سخرية تنقض الوضوء من فرط قدرتها على الإضحاك، لكنه لم يكن يمنح بسهولة للآخرين ذلك الوجه منه، ولذلك انضم متأخراً إلى "شِلّتنا" الأزلية، التي كانت مع منتصف العام الدراسي الثاني قد اكتمل تكوينها من عشرة أفراد، لكنها حملت لقب (شِلّة العَشَرة) لسبب لا علاقة له بعدد مكونيها بل بعادات أغلبهم، وحين توثقت صداقتنا وأصبحنا نعرف تفاصيل علاقاتنا العاطفية، حملت الشلة لقباً آخر هو (الصابونجية)، ولم يكن للقب علاقة بالاستخدام الشائع للصابون في ذلك السن، بل لأن الخيبة العاطفية كان يشيع وصفها بـ (الصابونة)، ولأن أغلبنا كان قد أخذ صابونة أو صابونتين ـ أخذ البعض أربعة واكتشف البعض أنه حلّوف مخلوق بدون غدة الحب ـ فقد صارت حكايات الصابونة وأسرار مانحاتها، تجمعنا وتعزينا عن آلام الغرام التي تبدو في ذلك السن قاتلة وأبدية، ثم سرعان ما يتضح أنها ليست أبدية أبداً، حتى وإن كانت قاتلة.
كنا نعُدُّه أثقلنا وأعقلنا في الغرام، وقد كان كذلك بالفعل، وكان يبدو الأقرب إلى نيل مراده الغرامي، والزواج بمن أحبها مبكراً في عامنا الجامعي الأخير، لكن وقعته لم تكن لتخطر على بال أحد، حتى أننا قررنا إخراجها من فئة (الصابونة) التي يصح بل ويجب التندر عليها، إلى فئة (الجرح النافذ) الذي لا يصح رش الملح عليه بل ولا يجب الاقتراب منه. كنت قد سبقته إلى الالتحاق بفئة (الجرح القطعي) الذي يصح رش الملح عليه بعد الاستئذان، والعجيب أن من منحتني ذلك الجرح، كانت فتاة جمعني معه الغرام بها في عامنا الجامعي الثالث. لم تكن تجربة على طريقة هشام عباس في أغنيته: "عمّال يحكي لي عنها عمّال يوصف لي فيها وكلامه هز قلبي خلاني حلمت بيها"، والتي خرجت إلى النور في ذلك العام، وكانت تليق بعصر ما قبل كاميرات الهواتف المحمولة، بحيث يصح منطقياً تصديق نهايتها الأليمة: "مش عايز أشوف حبيبتك، إوعى توريها لي"، كانت تجربتنا أشد بلاهة من ذلك، لكن موقفه خلالها زادني محبة له.
كان ستة منا قد قرروا البيات في منزل أحدنا العامر، لِهَرس منهج مادة ثقيلة الظل قبل امتحانات التيرم الأول، كنا في ليلة شتاء قارس البرد، مصابين بعد إرهاق المذاكرة بحالة من الشجن جعلتنا نثقل في العشاء الذي جلبناه من مطعم ردئ، لأن والدة زميلنا كانت قد طفشت وتركت لنا البيت وثلاجته الفارغة، وحين تصاعدت الأبخرة الناتجة عن سوء الهضم، كنت أقرأ على رفاق المبيت قصيدة غرامية جديدة كتبتها في حبيبتي المجهولة، التي كان يفترض أن أسلمها القصيدة في اليوم التالي، ولأنني كنت قد دخلت في تجربة غرامية عابرة ومفرطة في البلاهة قبلها، ونالني بسببها كم وافر من السخرية الأليمة، فقد جاهدت في كتمان حبي هذه المرة، فاحتار أصدقائي في معرفة اسم "ربّة شعري"، وحين كاد البكاء من فر الشجن يغلبني في نهاية القصيدة، وأخذوا في التصفيق إعجاباً بشعري أو تعاطفاً مع حالتي، قلت لهم أنني كتبت هذه القصيدة وأربعة عشر قصيدة فصحى وثلاث قصائد عامية قبلها في زميلتنا فلانة، لينظر اثنان منهما إليه، قبل أن يرتميا على الأرض من الضحك، ويظل هو في حالة "تبليم" لم تستمر طويلاً، قبل أن يقطعها قائلاً: "خلاص اتفضلها إنت أولى بيها"، فيلحق اثنان آخران بالمتمرمغين على الأرض ضحكاً وشخراً، وأبقى أنا وهو ناظرين لبعضنا ببلاهة، قبل أن يبادر هو إلى احتضاني وطمأنتي: "ما تقلقش والله أنا ما كلمتهاش حتى، ده حب مع نفسي، وبعدين ده أصلا مش حب والله، إنما اللي انت بتعمله ده هو الحب على أصوله، ده حب لا أنا ولا أي خرية من دول يعرف يحبه"، ولكي يقطع الشك باليقين، ويثبت دناءة مشاعره الأرضية التي لا ترقى إلى حبي السامي، صارحني أنه استمنى على حبنا المشترك مرتين، ولم يفهم لماذا شعرت بالإهانة، بل وصممت على الخروج من البيت في أنصاص الليالي، لكي لا أجاور من اعتدى بعشقه الفاني على عشقي الروحي، الذي اتضح بعدها أن له آخر، على عكس عشق الجسد، وهو ما كان يعرفه محمد عبد الوهاب أكثر من غيره.
انتهى خصامنا القصير، حين أقسم لي على المصحف أن ما قاله كان كذباً ارتجله ليخرج من غرابة الموقف، والغريب أنني تأثرت كثيراً بقَسَمه، كأنه كان ينفي لي إمكانية حدوث علاقة مدنسة بالإنسانة التي كنت أحلم بالارتباط بها، لكنني كنت أراها حزمة نور سماوي لا يمكن أن يقترب الإنسان منه بمشاعره الأرضية، وربما كان من حسن حظها وحظي أن تلك العلاقة لم تكتمل، وأنها وجدت من يراها بشكل أرضي بشري، فأنجبت منه ثلاثة أطفال وعاشت معه أسعد ثلاث سنوات في حياتها، قبل أن تخلعه في محكمة أرضية، وهو ما لم أكن أتصوره أنا وهو في ذلك الوقت الذي تسود فيه المشاعر المشبوبة، ويرى الإنسان كل شيء يخص الحب بأبعاد مضخّمة تشبه أبعاد مرآة السيارة، ولذلك وحده نسيت نفسي وحالتي الضنك، وسارعت إلى التقدم لطلب يد حبيبتي في نهاية العام الجامعي الثالث، قبل أن يكون لدي أكثر من ثلاثة غيارات داخلية وبنطلونين، وسارع هو إلى الاتفاق مع حبيبته "الجديدة" على الزواج في منتصف العام الرابع، برغم رفض أهلها للفكرة.
أمه التي كان نور عينيها بعد وفاة أبيه المبكرة، تعاملت مع جنونه العاطفي بحكمة، وقالت إنها ستوافق على أي شيء يسعده، فرأينا في استسلامها لطلبه، رغبة منها في عدم الدخول في "وجع قلب" لا لزوم له، خاصة أنها كانت في العام السابق مباشرة، قد دخلت في غيبوبة دامت أكثر من ستة أشهر، ظللنا فيها نتناوب زيارته في مستشفى عين شمس الجامعي، حيث كان يلازمها بالتناوب مع أخته، فنعطيه ما فاته من المحاضرات، ونخبره بما يجب عليه أن يحضره من "سكاشن" وتدريبات عملية، وحين اصطدم بدكتور فظ رآه سرحاناً في محاضرته، فقال له إنه سرحان في مصير أمه التي ترقد في غيبوبة، ليرد عليه الدكتور بجلافة قائلاً أنه لا داعي لأن يكون هو أيضاً في غيبوبة كالتي ترقد فيها أمه، وحينها تضامنّا جميعاً معه ولحقنا به خارجين من المحاضرة، ليتوتر الموقف ويتصاعد بتقديم شكوى إلى إدارة الكلية، وتذهب الفتاة التي أحبها إلى الدكتور لتشرح له حالة الأم الصحية، وكيف أنها تعني له كل شيء لأنها جاهدت في تربيته هو وأخته بعد وفاة والده، ليذهب الدكتور إلى زيارته في المستشفى، ويعفيه من حضور المحاضرات، ويطلب منه اللجوء إليه في أي خدمة يطلبها، حتى تقوم الوالدة بألف سلامة.
وقتها تحولت تلك الغيبوبة إلى شبح يطاردني في كوابيسي الليلية والنهارية، فقد كنت قبلها أتابع بحزن أخبار إصابة الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين بأزمة مرضية حادة، جعلته يدخل في حالة غيبوبة، بعد أن غزا العراق الكويت، ولأنه لم يكن هناك وقتها جوجل ولا يحزنون، فقد عانيت في البحث في المكتبات عن الأسباب التي تجعل الشخص يدخل في غيبوبة، تجعله معلقاً بين الموت والحياة لسنوات، يطلب فيها أحبابه له ولأنفسهم راحة الموت، لأصل إلى تفسير يجمع بين حالة أحمد بهاء الدين وحالة والدة صديقي، وهو أن "شيل الهم" أكثر من اللازم والطاقة والتوحد الدائم معه، سواءاً كان هماً عاماً أم شخصياً، يفضي بك حتماً إلى الغيبوبة حين يعجز مخك عن التأقلم مع ما تلقيه عليه من حُمول ثقيلة، لذلك لن ينجيك من الغيبوبة وما هو أسوأ منها، إلا التعامل العبثي بقدر المستطاع مع الهموم العامة والخاصة لتخفيف حملها على النفس والعقل، شريطة أن لا تفرط في ذلك فتعيش في غيبوبة موازية تفصلك عن واقعك تماماً.
لكن تلك الكوابيس وما ارتبط بها من تأملات لم تستمر طويلاً، فقد شفى الله والدة صديقنا بشكل مفاجئ يقارب المعجزة، بعد أن ناءت الأسرة بأثقال تكاليف العلاج، لينتعش صديقنا كما لم ينتعش من قبل، خصوصاً وأنه لم يعد محاطاً فقط بمحبتنا نحن شِلّته الصغيرة، ولا بمحبة أفراد الدفعة الذين أغدقوا عليه من المودة والاهتمام، بل صار غارقاً في محبة زميلتنا التي حلت أزمته مع الدكتور، وكانت تواظب على زيارته بمفردها في المستشفى حاملة له من الورود ما ثقل حمله وغلا ثمنه، وتظل معه على الهاتف بالساعات حتى ينام، وتكتب له ملخصات محاضرات لم يكن يدعنا نراها، لكي لا نرى ما تكتبه من رسائل غرامية على هامشها، لكنه كان يرينا نهاية كل ملخص، حيث كانت تكتب بعض الأوراد التي تنقلها من عمها المتصوف العتيد، والذي قال لها إنها أوراد لا تخيب في شفاء المريض مهما كان مرضه عضالاً، ولذلك لم يكن لديه أدنى شك في فعالية تلك الأوراد التي حملتها له المحبوبة، حين أفاقت والدته فجأة من غيبوبتها، وبشكل أدهش الدكاترة والممرضات ونزلاء الغرف المجاورة الذين رأى أن أقل ما يجب فعله من أجلهم، منحهم نسخة من تلك الأوراد، ليتم الله الشفاء على مرضاهم.
كنا نجتمع كثيراً في تلك الأيام السعيدة، في شقة صديقنا القريبة من ميدان باب الشعرية، كانت في الواقع شقة جدته التي كان يقيم معها ليصبح أقرب إلى جامعة القاهرة، في حين كانت أخته تقيم مع والدته في شقة أسرته القريبة من مطار القاهرة، وحين كانت جدته تذهب إليهما في نهاية الأسبوع، كان يطيب لنا أن نبيت لديه، وأزعم أن أجمل أيام الجمعة التي قضيتها في حياتي، كانت في تلك الشقة العتيقة الكائنة في تلك العمارة القديمة، التي لم تتغير محبتنا لها ولا إقبالنا عليها، حين أعلنت إدارة الحي أنها على مشارف الدخول في فئة (منزل آيل للسقوط) بعد فترة من زلزال 1992 لا أعاده الله. ربما كان جزء من لا مبالاتنا بالامر مستمداً من جدته الجميلة، التي أيقنّا جميعاً أن غرابة أطواره كانت مستمدة من نبعها الأصلي، والتي كانت ترى أن البيت راسخ متين، وأن الشرخ الظاهر في واجهته اصطنعه ملاك البيت لكي يقوموا بهدمه وبيع أرضه، وكانت تلك موضة قد بدأت الانتشار بعد كارثة الزلزال، لكن جدته في الوقت ذاته كانت تمنع الجميع من الخروج إلى البلكونة لكي لا تنزل بهم إلى الأرض، في حين تدخلها بكل ثقة لنشر الغسيل وجلب الثوم ومسح البلاط ووضع الماء والحَبّ للعصافير، مبررة ذلك بأن جسمها خفيف وروحها أخف على عكسنا، كما كانت تقول في حواراتها النادرة معنا، فقد كانت تقضي طيلة الوقت معتكفة في غرفتها، تستمع إلى الراديو الذي تعشقه في حين تكره التلفزيون "المتلقّح في الصالة"، والذي كنا نجتمع فيه لنشاهد مباريات الكرة بحماس تعلمنا مع الوقت أن ننزع منه طقس الدبدبة بالأقدام، حفاظاً على مشاعر "الناس اللي تحت" الذين لم يكونوا أقل حباً للبيت والمنطقة من صديقنا وجدته، لكنهم كانوا أكثر خوفاً وثقة في تحذيرات إدارة الحي.
كان الغرام الجامح قد عمل عمايله في صديقنا التوّاق إلى الارتباط عقب التخرج، خاصة وأنه الوحيد فينا الذي يملك داخل القاهرة بدل الشقة شقتين، صحيح أنه لم يكن يملك أياً منهما، لكنه كان يعتبرهما تحت تصرفه، خصوصاً شقة باب الشعرية التي قالت له جدته في مبادرة رائعة إنها ستتركها له حين يتزوج، وأنها ستحرص على أن تموت بعد قراءة الفاتحة مباشرة، لكي يظل لديه فترة كافية لنسيان أحزانه والدخول على عروسته في الشقة بعد تجديدها، وبالطبع لم يأخذ كلامها بجدية، واتفق مع أمه على أن تنتقل جدته إلى الإقامة معها، في الوقت الذي يقوم فيه بتشطيب شقة باب الشعرية، والمساهمة في ترميم العمارة إن استدعى الأمر ذلك، لتتكرر زياراته إلى شقة صديقنا القاطن في الدرب الأحمر، للإطلاع على أحوال عمارته القديمة التي كانت قد بدأت تتعرض للتنكيس لمواجهة آثار الزلزال.
كان لا بد أن يصحب استعداداته المادية استعدادات معنوية بدأها بالإفراط في الحديث مع حبيبته عن فضائل باب الشعرية، وأبرز من سكنها من مشاهير الأدب والفن وموقعها القريب من كل مكان في القاهرة وسهرها الدائم ودفء ناسها الاستثنائي وجدعنتهم المدهشة، لكنه اكتشف أنها لم تكن معنية بالعبق والدفء والحميمية و"مين اللي مَحني لك عمار؟ عُمّالك الطيابة" وسائر تلك الأشياء التي تعجب شعراء العاميّة، وأنها لا ترضى بالسكن خارج مصر الجديدة وحدودها بديلاً، فانتقل على الفور إلى الخطة (ب)، وهي تذكير والدته وأخته بفضائل باب الشعرية وأيامها الجميلة ودفئها الذي فقدوه في "الهوّ" الذي سكنوه. كانت أخته على وشك الانتقال إلى بيت عريسها فلم تتدخل في الأمر، وأمه كانت منذ شفاها الله تتعامل معه بهدوء شديد، عرفنا فيما بعد أنه حكمة وبعد نظر، ولذلك قالت إنها بعد كتب الكتاب ستأخذ إجراءات نقلها من مقر عملها القريب إلى مكان ما في وسط البلد، وحين قالت له حبيبة القلب إنها لم تحب المنطقة التي تقع فيها شقته القريبة من المطار، لأنها منطقة مقبضة، كما أنها فاقدة الهوية، فلا هي تنتمي إلى مصر الجديدة بشكل كامل، ولا هي تنتمي إلى مدينة نصر التي تكرهها كراهة التحريم، وأنها تفضل أن يتأجل مشروع ارتباطهما حتى يصبح قادراً على السكن داخل الحدود التاريخية لمصر الجديدة، انتقل على الفور إلى مشروع آخر، هو مشروع بيع شقة باب الشعرية لورثة المالك الطمعان في الأرض، ووضع ما يأتي من بيعها كمقدم لشقة ترضى عنها الحبيبة، وهو ما واصلت الأم التعامل معه بحكمة حين قالت إنها موافقة عليه، شريطة أن يقنع جدته، التي أصبحت فجأة العقبة الكؤود أمام هنائه العاطفي، فدخل معها في مواجهة قال فيها غاضباً إنها لا يجوز لها أن تربط انتقالها من باب الشعرية بالموت، لأنها كما يبدو من علامات صحتها الموفورة ستدفنهم جميعاً، يكفي أنها لم تشاهد التلفزيون منذ أن قاطعته عقب مقتل المذيعة سلوى حجازي، وهو ما يضيف إلى عمر أي إنسان طبيعي عشرين عاماً فما بالك لو كان فوق ذلك إنساناً خارقاً مثلها، لا يأكل عقب السادسة مساءاً أي شيء، ولا يأكل اللحوم والدواجن، ويمشي في الساعات الأولى من الصباح كل يوم ساعة يلف فيها أرجاء باب الشعرية، لتخاصمه الجدة بعد تلك المواجهة، وتزيد من ساعات اعتكافها في غرفتها، ثم تقرر التصعيد بالامتناع عن الذهاب إلى أمه وأخته في نهاية الأسبوع.
لم يكن قد أخبرنا بتلك التطورات، ولذلك استيقظنا في السابعة من صباح الجمعة التالية على صوت صرخة حادة أطلقها من كنا نظنه أشرسنا، حين فتح عينيه فرأى الجدة تعبر الصالة متجهة إلى البلكونة وهي تحمل "سَبَت" الغسيل، ولأنه لم يكن قد رآها من قبل، فقد ظنها لضآلة حجمها وحدة ملامحها ونكشة شعرها، شبحاً من أشباح البيت الذي هجره أغلب سكانه، لندخل فور معرفة الحكاية في كريزة ضحك كانت الأطول في تاريخنا، لم يقطعها إلا شخط الجدة فينا، لكي نرسل معها اثنين ليصحباها في جولتها الصباحية ويحملا معها حاجة البيت بدلاً من جلوسنا مثل قِلّتنا، لتبدأ منذ تلك اللحظة صداقة عميقة جمعت بين أغلبنا وبينها، فبتنا ننحاز إليها في مواجهاتها المستمرة معه، والتي تتهمه فيها بجحود القلب، وتذكره بملاءات السرير التي كان يتبول فيها خوفاً من المدرسين، وكانت تغسلها له في صمت لكي لا يعرف أحد، وبالأكلات التي كانت تتفنن في عملها له بكل محبة، لكي يرمّ عضمه الذي زاده طبيخ أمه الموظفة هشاشة وتلفاً، وبالدعوات التي لولاها لما نفخ اللي في صورته في امتحانات الثانوية العامة ليدخل إلى كلية القمة محققاً حلم أبيه في أن يراه صحفياً قد الدنيا، وحين يفيض بها الكيل لا تعمل لوجودنا حساباً، فتذكره بسماحها بتحويل البيت إلى مركز تقوية للمقاطيع من زملائه، لنأخذ فيه دروس مادة الإحصاء التي كان يعطيها لنا في شقته معيد المادة، والذي تزعم الجدة أنه كان سبب ما تعرض له البيت، لأنه كان لا يكف عن إبداء انبهاره بقدم العمارة وسقف شققها العالي وجمال درابزين سُلّمها ونقوش باب مدخلها، وحين احتدمت المواجهة بينها وبينه، قررت تصعيد مقاومتها السلبية، بحرماننا من روائع طبيخها الذي كنا نتلذذ به، فعدنا للاكتفاء بعمل البيض بالبسطرمة وسندوتشات الجبنة الرومي السايحة، التي كنا نحضر موادها الخام من بقال عظيم مجاور لقصر السكاكيني.
لم تطل مقاومة جدته له طويلاً، حيث أعلنت استسلامها لرغبته فجأة، وقالت له في حضورنا ذات صباح جمعة إنها لن يهون عليها زعله، وإنها لن تنتظر الموت حتى يعيش حياته، ولذلك ستنتقل إلى شقة الأم فور كتب الكتاب، وستساعده بما لها من دلال على ورثة المالك الذين عرفتهم منذ طفولتهم، لكي يحصل على أعلى سعر لبيع الشقة، ليجري نحوها جاثياً على الأرض ومقبلاً قدميها، وننخرط جميعاً في بكاء جميل من ذلك الذي لا تحب له أن ينتهي، حتى أنني ذهبت ليلتها إلى السنترال لكي أتصل بجدتي في الاسكندرية، فأفزعتها دون مناسبة، ولم تصدق أنني أتصل فقط للاطمئنان عليها وسماع صوتها، ولم تغلق إلا بعد أن أقسمت لها بالمصحف الشريف وبحياة أمي ورحمة جدي، أنني لم أقع في ورطة جعلتني أتصل لكي يخرجني أخوالي منها، وبالطبع لم يكن مفاجئاً لنا أن نعلم منه في اليوم التالي أن تغيير موقف جدته العنيد، تحقق بفضل ورد هداية العاصي الذي أعطته له حبيبته نقلاً عن عمها المتصوف، والذي دأب على قراءته طيلة أسبوعين كان يصلي فيهما ركعتين لقضاء الحاجة، مع أنه مثل أغلبنا لم يكن يركع باقي الصلوات، إلا في موسم الامتحانات، ومن هنا بدأت حكاية أوراد العم المتصوف تتحول إلى أسطورة، بعد أن تجاوزت أفراد شلتنا لتصل إلى بعض أفراد دفعتنا، وأزعم أنها كانت لو امتلكت بعض الوقت لتحولت إلى أسطورة تعم جامعة القاهرة وتتجاوز أسوارها، لكن الطعنة الغادرة التي تلقاها، كسرت بهاء الأسطورة، وحولتها إلى تفصيلة درامية في مأساة مبكية، سرعان ما حولها الزمن كعادته إلى ملهاة لا تخلو من عظة وعبرة.
نكمل الحكاية في الأسبوع القادم بإذن الله.
في بدايات معرفتي به في عامنا الجامعي الأول كان يعطيك إحساساً بالكِبر والتناكة، سرعان ما اتضح أنه إحساس خادع، وأنه كان يخفي خلف ملامحه المتجهمة قلباً يَسَع من الحبايب عشرين، وأنه قادر بكلمات قليلة على تحويل قرفه من كل شيء، إلى سخرية تنقض الوضوء من فرط قدرتها على الإضحاك، لكنه لم يكن يمنح بسهولة للآخرين ذلك الوجه منه، ولذلك انضم متأخراً إلى "شِلّتنا" الأزلية، التي كانت مع منتصف العام الدراسي الثاني قد اكتمل تكوينها من عشرة أفراد، لكنها حملت لقب (شِلّة العَشَرة) لسبب لا علاقة له بعدد مكونيها بل بعادات أغلبهم، وحين توثقت صداقتنا وأصبحنا نعرف تفاصيل علاقاتنا العاطفية، حملت الشلة لقباً آخر هو (الصابونجية)، ولم يكن للقب علاقة بالاستخدام الشائع للصابون في ذلك السن، بل لأن الخيبة العاطفية كان يشيع وصفها بـ (الصابونة)، ولأن أغلبنا كان قد أخذ صابونة أو صابونتين ـ أخذ البعض أربعة واكتشف البعض أنه حلّوف مخلوق بدون غدة الحب ـ فقد صارت حكايات الصابونة وأسرار مانحاتها، تجمعنا وتعزينا عن آلام الغرام التي تبدو في ذلك السن قاتلة وأبدية، ثم سرعان ما يتضح أنها ليست أبدية أبداً، حتى وإن كانت قاتلة.
كنا نعُدُّه أثقلنا وأعقلنا في الغرام، وقد كان كذلك بالفعل، وكان يبدو الأقرب إلى نيل مراده الغرامي، والزواج بمن أحبها مبكراً في عامنا الجامعي الأخير، لكن وقعته لم تكن لتخطر على بال أحد، حتى أننا قررنا إخراجها من فئة (الصابونة) التي يصح بل ويجب التندر عليها، إلى فئة (الجرح النافذ) الذي لا يصح رش الملح عليه بل ولا يجب الاقتراب منه. كنت قد سبقته إلى الالتحاق بفئة (الجرح القطعي) الذي يصح رش الملح عليه بعد الاستئذان، والعجيب أن من منحتني ذلك الجرح، كانت فتاة جمعني معه الغرام بها في عامنا الجامعي الثالث. لم تكن تجربة على طريقة هشام عباس في أغنيته: "عمّال يحكي لي عنها عمّال يوصف لي فيها وكلامه هز قلبي خلاني حلمت بيها"، والتي خرجت إلى النور في ذلك العام، وكانت تليق بعصر ما قبل كاميرات الهواتف المحمولة، بحيث يصح منطقياً تصديق نهايتها الأليمة: "مش عايز أشوف حبيبتك، إوعى توريها لي"، كانت تجربتنا أشد بلاهة من ذلك، لكن موقفه خلالها زادني محبة له.
كان ستة منا قد قرروا البيات في منزل أحدنا العامر، لِهَرس منهج مادة ثقيلة الظل قبل امتحانات التيرم الأول، كنا في ليلة شتاء قارس البرد، مصابين بعد إرهاق المذاكرة بحالة من الشجن جعلتنا نثقل في العشاء الذي جلبناه من مطعم ردئ، لأن والدة زميلنا كانت قد طفشت وتركت لنا البيت وثلاجته الفارغة، وحين تصاعدت الأبخرة الناتجة عن سوء الهضم، كنت أقرأ على رفاق المبيت قصيدة غرامية جديدة كتبتها في حبيبتي المجهولة، التي كان يفترض أن أسلمها القصيدة في اليوم التالي، ولأنني كنت قد دخلت في تجربة غرامية عابرة ومفرطة في البلاهة قبلها، ونالني بسببها كم وافر من السخرية الأليمة، فقد جاهدت في كتمان حبي هذه المرة، فاحتار أصدقائي في معرفة اسم "ربّة شعري"، وحين كاد البكاء من فر الشجن يغلبني في نهاية القصيدة، وأخذوا في التصفيق إعجاباً بشعري أو تعاطفاً مع حالتي، قلت لهم أنني كتبت هذه القصيدة وأربعة عشر قصيدة فصحى وثلاث قصائد عامية قبلها في زميلتنا فلانة، لينظر اثنان منهما إليه، قبل أن يرتميا على الأرض من الضحك، ويظل هو في حالة "تبليم" لم تستمر طويلاً، قبل أن يقطعها قائلاً: "خلاص اتفضلها إنت أولى بيها"، فيلحق اثنان آخران بالمتمرمغين على الأرض ضحكاً وشخراً، وأبقى أنا وهو ناظرين لبعضنا ببلاهة، قبل أن يبادر هو إلى احتضاني وطمأنتي: "ما تقلقش والله أنا ما كلمتهاش حتى، ده حب مع نفسي، وبعدين ده أصلا مش حب والله، إنما اللي انت بتعمله ده هو الحب على أصوله، ده حب لا أنا ولا أي خرية من دول يعرف يحبه"، ولكي يقطع الشك باليقين، ويثبت دناءة مشاعره الأرضية التي لا ترقى إلى حبي السامي، صارحني أنه استمنى على حبنا المشترك مرتين، ولم يفهم لماذا شعرت بالإهانة، بل وصممت على الخروج من البيت في أنصاص الليالي، لكي لا أجاور من اعتدى بعشقه الفاني على عشقي الروحي، الذي اتضح بعدها أن له آخر، على عكس عشق الجسد، وهو ما كان يعرفه محمد عبد الوهاب أكثر من غيره.
انتهى خصامنا القصير، حين أقسم لي على المصحف أن ما قاله كان كذباً ارتجله ليخرج من غرابة الموقف، والغريب أنني تأثرت كثيراً بقَسَمه، كأنه كان ينفي لي إمكانية حدوث علاقة مدنسة بالإنسانة التي كنت أحلم بالارتباط بها، لكنني كنت أراها حزمة نور سماوي لا يمكن أن يقترب الإنسان منه بمشاعره الأرضية، وربما كان من حسن حظها وحظي أن تلك العلاقة لم تكتمل، وأنها وجدت من يراها بشكل أرضي بشري، فأنجبت منه ثلاثة أطفال وعاشت معه أسعد ثلاث سنوات في حياتها، قبل أن تخلعه في محكمة أرضية، وهو ما لم أكن أتصوره أنا وهو في ذلك الوقت الذي تسود فيه المشاعر المشبوبة، ويرى الإنسان كل شيء يخص الحب بأبعاد مضخّمة تشبه أبعاد مرآة السيارة، ولذلك وحده نسيت نفسي وحالتي الضنك، وسارعت إلى التقدم لطلب يد حبيبتي في نهاية العام الجامعي الثالث، قبل أن يكون لدي أكثر من ثلاثة غيارات داخلية وبنطلونين، وسارع هو إلى الاتفاق مع حبيبته "الجديدة" على الزواج في منتصف العام الرابع، برغم رفض أهلها للفكرة.
أمه التي كان نور عينيها بعد وفاة أبيه المبكرة، تعاملت مع جنونه العاطفي بحكمة، وقالت إنها ستوافق على أي شيء يسعده، فرأينا في استسلامها لطلبه، رغبة منها في عدم الدخول في "وجع قلب" لا لزوم له، خاصة أنها كانت في العام السابق مباشرة، قد دخلت في غيبوبة دامت أكثر من ستة أشهر، ظللنا فيها نتناوب زيارته في مستشفى عين شمس الجامعي، حيث كان يلازمها بالتناوب مع أخته، فنعطيه ما فاته من المحاضرات، ونخبره بما يجب عليه أن يحضره من "سكاشن" وتدريبات عملية، وحين اصطدم بدكتور فظ رآه سرحاناً في محاضرته، فقال له إنه سرحان في مصير أمه التي ترقد في غيبوبة، ليرد عليه الدكتور بجلافة قائلاً أنه لا داعي لأن يكون هو أيضاً في غيبوبة كالتي ترقد فيها أمه، وحينها تضامنّا جميعاً معه ولحقنا به خارجين من المحاضرة، ليتوتر الموقف ويتصاعد بتقديم شكوى إلى إدارة الكلية، وتذهب الفتاة التي أحبها إلى الدكتور لتشرح له حالة الأم الصحية، وكيف أنها تعني له كل شيء لأنها جاهدت في تربيته هو وأخته بعد وفاة والده، ليذهب الدكتور إلى زيارته في المستشفى، ويعفيه من حضور المحاضرات، ويطلب منه اللجوء إليه في أي خدمة يطلبها، حتى تقوم الوالدة بألف سلامة.
وقتها تحولت تلك الغيبوبة إلى شبح يطاردني في كوابيسي الليلية والنهارية، فقد كنت قبلها أتابع بحزن أخبار إصابة الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين بأزمة مرضية حادة، جعلته يدخل في حالة غيبوبة، بعد أن غزا العراق الكويت، ولأنه لم يكن هناك وقتها جوجل ولا يحزنون، فقد عانيت في البحث في المكتبات عن الأسباب التي تجعل الشخص يدخل في غيبوبة، تجعله معلقاً بين الموت والحياة لسنوات، يطلب فيها أحبابه له ولأنفسهم راحة الموت، لأصل إلى تفسير يجمع بين حالة أحمد بهاء الدين وحالة والدة صديقي، وهو أن "شيل الهم" أكثر من اللازم والطاقة والتوحد الدائم معه، سواءاً كان هماً عاماً أم شخصياً، يفضي بك حتماً إلى الغيبوبة حين يعجز مخك عن التأقلم مع ما تلقيه عليه من حُمول ثقيلة، لذلك لن ينجيك من الغيبوبة وما هو أسوأ منها، إلا التعامل العبثي بقدر المستطاع مع الهموم العامة والخاصة لتخفيف حملها على النفس والعقل، شريطة أن لا تفرط في ذلك فتعيش في غيبوبة موازية تفصلك عن واقعك تماماً.
لكن تلك الكوابيس وما ارتبط بها من تأملات لم تستمر طويلاً، فقد شفى الله والدة صديقنا بشكل مفاجئ يقارب المعجزة، بعد أن ناءت الأسرة بأثقال تكاليف العلاج، لينتعش صديقنا كما لم ينتعش من قبل، خصوصاً وأنه لم يعد محاطاً فقط بمحبتنا نحن شِلّته الصغيرة، ولا بمحبة أفراد الدفعة الذين أغدقوا عليه من المودة والاهتمام، بل صار غارقاً في محبة زميلتنا التي حلت أزمته مع الدكتور، وكانت تواظب على زيارته بمفردها في المستشفى حاملة له من الورود ما ثقل حمله وغلا ثمنه، وتظل معه على الهاتف بالساعات حتى ينام، وتكتب له ملخصات محاضرات لم يكن يدعنا نراها، لكي لا نرى ما تكتبه من رسائل غرامية على هامشها، لكنه كان يرينا نهاية كل ملخص، حيث كانت تكتب بعض الأوراد التي تنقلها من عمها المتصوف العتيد، والذي قال لها إنها أوراد لا تخيب في شفاء المريض مهما كان مرضه عضالاً، ولذلك لم يكن لديه أدنى شك في فعالية تلك الأوراد التي حملتها له المحبوبة، حين أفاقت والدته فجأة من غيبوبتها، وبشكل أدهش الدكاترة والممرضات ونزلاء الغرف المجاورة الذين رأى أن أقل ما يجب فعله من أجلهم، منحهم نسخة من تلك الأوراد، ليتم الله الشفاء على مرضاهم.
كنا نجتمع كثيراً في تلك الأيام السعيدة، في شقة صديقنا القريبة من ميدان باب الشعرية، كانت في الواقع شقة جدته التي كان يقيم معها ليصبح أقرب إلى جامعة القاهرة، في حين كانت أخته تقيم مع والدته في شقة أسرته القريبة من مطار القاهرة، وحين كانت جدته تذهب إليهما في نهاية الأسبوع، كان يطيب لنا أن نبيت لديه، وأزعم أن أجمل أيام الجمعة التي قضيتها في حياتي، كانت في تلك الشقة العتيقة الكائنة في تلك العمارة القديمة، التي لم تتغير محبتنا لها ولا إقبالنا عليها، حين أعلنت إدارة الحي أنها على مشارف الدخول في فئة (منزل آيل للسقوط) بعد فترة من زلزال 1992 لا أعاده الله. ربما كان جزء من لا مبالاتنا بالامر مستمداً من جدته الجميلة، التي أيقنّا جميعاً أن غرابة أطواره كانت مستمدة من نبعها الأصلي، والتي كانت ترى أن البيت راسخ متين، وأن الشرخ الظاهر في واجهته اصطنعه ملاك البيت لكي يقوموا بهدمه وبيع أرضه، وكانت تلك موضة قد بدأت الانتشار بعد كارثة الزلزال، لكن جدته في الوقت ذاته كانت تمنع الجميع من الخروج إلى البلكونة لكي لا تنزل بهم إلى الأرض، في حين تدخلها بكل ثقة لنشر الغسيل وجلب الثوم ومسح البلاط ووضع الماء والحَبّ للعصافير، مبررة ذلك بأن جسمها خفيف وروحها أخف على عكسنا، كما كانت تقول في حواراتها النادرة معنا، فقد كانت تقضي طيلة الوقت معتكفة في غرفتها، تستمع إلى الراديو الذي تعشقه في حين تكره التلفزيون "المتلقّح في الصالة"، والذي كنا نجتمع فيه لنشاهد مباريات الكرة بحماس تعلمنا مع الوقت أن ننزع منه طقس الدبدبة بالأقدام، حفاظاً على مشاعر "الناس اللي تحت" الذين لم يكونوا أقل حباً للبيت والمنطقة من صديقنا وجدته، لكنهم كانوا أكثر خوفاً وثقة في تحذيرات إدارة الحي.
كان الغرام الجامح قد عمل عمايله في صديقنا التوّاق إلى الارتباط عقب التخرج، خاصة وأنه الوحيد فينا الذي يملك داخل القاهرة بدل الشقة شقتين، صحيح أنه لم يكن يملك أياً منهما، لكنه كان يعتبرهما تحت تصرفه، خصوصاً شقة باب الشعرية التي قالت له جدته في مبادرة رائعة إنها ستتركها له حين يتزوج، وأنها ستحرص على أن تموت بعد قراءة الفاتحة مباشرة، لكي يظل لديه فترة كافية لنسيان أحزانه والدخول على عروسته في الشقة بعد تجديدها، وبالطبع لم يأخذ كلامها بجدية، واتفق مع أمه على أن تنتقل جدته إلى الإقامة معها، في الوقت الذي يقوم فيه بتشطيب شقة باب الشعرية، والمساهمة في ترميم العمارة إن استدعى الأمر ذلك، لتتكرر زياراته إلى شقة صديقنا القاطن في الدرب الأحمر، للإطلاع على أحوال عمارته القديمة التي كانت قد بدأت تتعرض للتنكيس لمواجهة آثار الزلزال.
كان لا بد أن يصحب استعداداته المادية استعدادات معنوية بدأها بالإفراط في الحديث مع حبيبته عن فضائل باب الشعرية، وأبرز من سكنها من مشاهير الأدب والفن وموقعها القريب من كل مكان في القاهرة وسهرها الدائم ودفء ناسها الاستثنائي وجدعنتهم المدهشة، لكنه اكتشف أنها لم تكن معنية بالعبق والدفء والحميمية و"مين اللي مَحني لك عمار؟ عُمّالك الطيابة" وسائر تلك الأشياء التي تعجب شعراء العاميّة، وأنها لا ترضى بالسكن خارج مصر الجديدة وحدودها بديلاً، فانتقل على الفور إلى الخطة (ب)، وهي تذكير والدته وأخته بفضائل باب الشعرية وأيامها الجميلة ودفئها الذي فقدوه في "الهوّ" الذي سكنوه. كانت أخته على وشك الانتقال إلى بيت عريسها فلم تتدخل في الأمر، وأمه كانت منذ شفاها الله تتعامل معه بهدوء شديد، عرفنا فيما بعد أنه حكمة وبعد نظر، ولذلك قالت إنها بعد كتب الكتاب ستأخذ إجراءات نقلها من مقر عملها القريب إلى مكان ما في وسط البلد، وحين قالت له حبيبة القلب إنها لم تحب المنطقة التي تقع فيها شقته القريبة من المطار، لأنها منطقة مقبضة، كما أنها فاقدة الهوية، فلا هي تنتمي إلى مصر الجديدة بشكل كامل، ولا هي تنتمي إلى مدينة نصر التي تكرهها كراهة التحريم، وأنها تفضل أن يتأجل مشروع ارتباطهما حتى يصبح قادراً على السكن داخل الحدود التاريخية لمصر الجديدة، انتقل على الفور إلى مشروع آخر، هو مشروع بيع شقة باب الشعرية لورثة المالك الطمعان في الأرض، ووضع ما يأتي من بيعها كمقدم لشقة ترضى عنها الحبيبة، وهو ما واصلت الأم التعامل معه بحكمة حين قالت إنها موافقة عليه، شريطة أن يقنع جدته، التي أصبحت فجأة العقبة الكؤود أمام هنائه العاطفي، فدخل معها في مواجهة قال فيها غاضباً إنها لا يجوز لها أن تربط انتقالها من باب الشعرية بالموت، لأنها كما يبدو من علامات صحتها الموفورة ستدفنهم جميعاً، يكفي أنها لم تشاهد التلفزيون منذ أن قاطعته عقب مقتل المذيعة سلوى حجازي، وهو ما يضيف إلى عمر أي إنسان طبيعي عشرين عاماً فما بالك لو كان فوق ذلك إنساناً خارقاً مثلها، لا يأكل عقب السادسة مساءاً أي شيء، ولا يأكل اللحوم والدواجن، ويمشي في الساعات الأولى من الصباح كل يوم ساعة يلف فيها أرجاء باب الشعرية، لتخاصمه الجدة بعد تلك المواجهة، وتزيد من ساعات اعتكافها في غرفتها، ثم تقرر التصعيد بالامتناع عن الذهاب إلى أمه وأخته في نهاية الأسبوع.
لم يكن قد أخبرنا بتلك التطورات، ولذلك استيقظنا في السابعة من صباح الجمعة التالية على صوت صرخة حادة أطلقها من كنا نظنه أشرسنا، حين فتح عينيه فرأى الجدة تعبر الصالة متجهة إلى البلكونة وهي تحمل "سَبَت" الغسيل، ولأنه لم يكن قد رآها من قبل، فقد ظنها لضآلة حجمها وحدة ملامحها ونكشة شعرها، شبحاً من أشباح البيت الذي هجره أغلب سكانه، لندخل فور معرفة الحكاية في كريزة ضحك كانت الأطول في تاريخنا، لم يقطعها إلا شخط الجدة فينا، لكي نرسل معها اثنين ليصحباها في جولتها الصباحية ويحملا معها حاجة البيت بدلاً من جلوسنا مثل قِلّتنا، لتبدأ منذ تلك اللحظة صداقة عميقة جمعت بين أغلبنا وبينها، فبتنا ننحاز إليها في مواجهاتها المستمرة معه، والتي تتهمه فيها بجحود القلب، وتذكره بملاءات السرير التي كان يتبول فيها خوفاً من المدرسين، وكانت تغسلها له في صمت لكي لا يعرف أحد، وبالأكلات التي كانت تتفنن في عملها له بكل محبة، لكي يرمّ عضمه الذي زاده طبيخ أمه الموظفة هشاشة وتلفاً، وبالدعوات التي لولاها لما نفخ اللي في صورته في امتحانات الثانوية العامة ليدخل إلى كلية القمة محققاً حلم أبيه في أن يراه صحفياً قد الدنيا، وحين يفيض بها الكيل لا تعمل لوجودنا حساباً، فتذكره بسماحها بتحويل البيت إلى مركز تقوية للمقاطيع من زملائه، لنأخذ فيه دروس مادة الإحصاء التي كان يعطيها لنا في شقته معيد المادة، والذي تزعم الجدة أنه كان سبب ما تعرض له البيت، لأنه كان لا يكف عن إبداء انبهاره بقدم العمارة وسقف شققها العالي وجمال درابزين سُلّمها ونقوش باب مدخلها، وحين احتدمت المواجهة بينها وبينه، قررت تصعيد مقاومتها السلبية، بحرماننا من روائع طبيخها الذي كنا نتلذذ به، فعدنا للاكتفاء بعمل البيض بالبسطرمة وسندوتشات الجبنة الرومي السايحة، التي كنا نحضر موادها الخام من بقال عظيم مجاور لقصر السكاكيني.
لم تطل مقاومة جدته له طويلاً، حيث أعلنت استسلامها لرغبته فجأة، وقالت له في حضورنا ذات صباح جمعة إنها لن يهون عليها زعله، وإنها لن تنتظر الموت حتى يعيش حياته، ولذلك ستنتقل إلى شقة الأم فور كتب الكتاب، وستساعده بما لها من دلال على ورثة المالك الذين عرفتهم منذ طفولتهم، لكي يحصل على أعلى سعر لبيع الشقة، ليجري نحوها جاثياً على الأرض ومقبلاً قدميها، وننخرط جميعاً في بكاء جميل من ذلك الذي لا تحب له أن ينتهي، حتى أنني ذهبت ليلتها إلى السنترال لكي أتصل بجدتي في الاسكندرية، فأفزعتها دون مناسبة، ولم تصدق أنني أتصل فقط للاطمئنان عليها وسماع صوتها، ولم تغلق إلا بعد أن أقسمت لها بالمصحف الشريف وبحياة أمي ورحمة جدي، أنني لم أقع في ورطة جعلتني أتصل لكي يخرجني أخوالي منها، وبالطبع لم يكن مفاجئاً لنا أن نعلم منه في اليوم التالي أن تغيير موقف جدته العنيد، تحقق بفضل ورد هداية العاصي الذي أعطته له حبيبته نقلاً عن عمها المتصوف، والذي دأب على قراءته طيلة أسبوعين كان يصلي فيهما ركعتين لقضاء الحاجة، مع أنه مثل أغلبنا لم يكن يركع باقي الصلوات، إلا في موسم الامتحانات، ومن هنا بدأت حكاية أوراد العم المتصوف تتحول إلى أسطورة، بعد أن تجاوزت أفراد شلتنا لتصل إلى بعض أفراد دفعتنا، وأزعم أنها كانت لو امتلكت بعض الوقت لتحولت إلى أسطورة تعم جامعة القاهرة وتتجاوز أسوارها، لكن الطعنة الغادرة التي تلقاها، كسرت بهاء الأسطورة، وحولتها إلى تفصيلة درامية في مأساة مبكية، سرعان ما حولها الزمن كعادته إلى ملهاة لا تخلو من عظة وعبرة.
نكمل الحكاية في الأسبوع القادم بإذن الله.