صراع البسملة في الجزائر

23 سبتمبر 2017
+ الخط -
في المجتمعات المتخلفة والمتدينة، أو بالأحرى التي تدّعي التدين، يكون ترتيب الأولويات دائماً معكوساً، حيث تتحول صغائر الأمور إلى عظائمها، ويُبعد النقاش، عن وعي وغير وعي، عن المسائل المركزية التي تخص مصير الأمة، ليُركز على قضايا هامشية، وينسحب، في غالب الأحيان، عليها دون سواها. وهي إستراتيجية تمويهية تعتمدها القوى الفاعلة والنافذة سياسياً واجتماعياً والمستفيدة من الوضع القائم، حتى لا تُثار وتُناقش القضايا الأساسية، لأن مناقشتها تعني مساءلة الوضع القائم، وبالتالي الدعوة إلى تغييره، بل والعمل على تغييره. 

وتعيش الجزائر هذا الوضع منذ فترة طويلة. ومن بين مظاهر ذلك الجدال، أو تجلياته، في الأيام الأخيرة، حول حذف البسملة من الكتب المدرسية. فقد تم إسقاطها من المقرّرات المدرسية ما عدا كتاب التربية الإسلامية (مادة تدرس في الأطوار المدرسية الثلاثة الابتدائي والمتوسط والثانوي)، فكان أن أثار ذلك حفيظة كل من الإسلام المحافظ غير الرسمي والإسلام السياسي.
حيث أصدرت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بياناً تقول فيه "آلمتنا قضية حذف البسملة من كتبنا المدرسية، وخاصة كتب المرحلة الابتدائية، باسم ما يسمى الإصلاح (...) إننا نندد بمثل هذا الإجراء، ونعده عدواناً على عقول أطفالنا، وعلى هوية شعبنا". وتتساءل إن كانت وزارة التربية استشارت وزارة الشؤون الدينية والمجلس الإسلامي الأعلى، متأسفة لعدم استشارتها.
أما الأحزاب الاسلامية، المنتقدة أصلاً لوزيرة التربية، نورية بن غبريط، بسبب خياراتها فيما 
يتعلق بإصلاح المنظومة التربوية، فندّدت هي الأخرى بقرار حذف البسملة. حيث أعلن زعيم الكتلة البرلمانية للإتحاد من أجل النهضة والعدالة أنهم سيتحركون للتصدي لهذا القرار، معتبراً أن الوزيرة لا تهتم بالمسائل الأساسية، كمشكلة الاكتظاظ في الأقسام والتحصيل العلمي والاعتماد على برامج دراسية مستمدة من الموروث الحضاري الجزائري. وإن كان يقر بأن "وضع البسملة من عدمه لا يزيد ولا ينقص"، فإنه يرى أن التركيز على هذه الجزئيات يبين أن للوزيرة مشكلا مع الدين الإسلامي. أما رئيس الكتلة البرلمانية لحزب حركة مجتمع السلم (حمس)، فأكد، من جهته، على تحذير حزبه أكثر من مرة من مخاطر زجّ المنظومة التربوية في دوامة الصراعات الإيديولوجية، محذراً من المساس بالهوية الوطنية.
لمواجهة هذه التعبئة في أوساط الإسلام المحافظ غير الرسمي والإسلام السياسي، تحرّكت السلطة بتعبئة مضادة، من خلال وزيرة التربية ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى. إذ ردت الوزيرة على جمعية العلماء المسلمين، قائلة إن البسملة موجودة في كتب التربية الإسلامية، وحذفها من كتب المقرّرات الأخرى يتحمله معدّو هذه الكتب. لكن الواقع أن هذه الكتب تصدر باسم الوزارة وتحت وصايتها، وبالتالي فهي المسؤولة عن مضامينها، وعما يردُ أو لا يرد في صدرها، فإدراج البسملة كحذفها لا يمكن اختزالهما في مجرد خطأ ارتكبه معدّو الكتاب أو قرار اتخذوه، وإلا اقتصر الأمر على كتاب واحد أو كتابين. بل هو قرار سياسي، بغض النظر عن صوابه من عدمه.
وبعد هذا الموقف الدفاعي، تبنت وزيرة التربية موقفاً هجومياً منتقدةً جمعية العلماء المسلمين لعدم احتواء بعض المقررات المدرسية السابقة على البسملة، بما فيها التي كتبها الرئيس السابق لجمعية العلماء المسلمين، عبد الرحمن شيبان (1918-2011). واتهمت أطرافاً بزج قطاع التربية في صراعات أيديولوجية وسياسية، كلما كانت البلاد أمام استحقاق انتخابي.
وهوّن ممثل الإسلام الرسمي، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بوعبد الله غلام الله (وزير الشؤون الدينية السابق) من هذا القرار مصرحاً: "رأيي الشخصي أن البسملة مجرّد عنوان على غرار الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، ووجودها لا يعني أن كتاب الرياضات أو الفيزياء كتاب ديني، كما أن حذفها لا يؤثر من الناحية المادية على الكتاب، غير أننا سوف نقترح على الوزارة إدراجها في الطبعات المقبلة للكتاب المدرسي، للإشارة إلى أن الدولة الجزائرية دينها الإسلام". بالطبع، يجد الإسلام الرسمي نفسه في موقفٍ حرج، لأن الإسلام المحافظ غير الرسمي ينافسه على سجل الشرعية ذاته، ويضعه في موقف دفاعي، وهذا ما يفسر الوضع غير المريح المعبر عنه في تصريح رئيس المجلس الأعلى الذي يهون من قرار حذف البسملة من جهة، ويقول باقتراح إعادة إدراجها مستقبلاً من جهة أخرى.
يتضح من سرد هذه المواقف أن القضية محل صراع بين طرفين، يتهم كلاهما الآخر بزج
المنظومة التربوية في صراع أيديولوجي وسياسي. وربما هذه النقطة الوحيدة الصحيحة في مواقفهما، أما غير ذلك فلا يعدو أن يكون مجرد ذر الرماد في العيون. لكن ما سر التركيز على مسائل هامشية، في الوقت الذي يوجد فيه مصير الأمة على المحك؟ لماذا لا تتحرّك كل هذه القوى المساندة والمعارضة، في توظيفها الدين، لتندد بالفساد الذي أصبح مؤسسة في الدولة والمجتمع؟ وحسبنا أن التفسير يكمن في عاملين أساسيين.
أولهما أن الدين يوظف خدمة لمآرب آخرى. وفي هذا المسألة لا يبتكر الجزائريون شيئاً يذكر، فأحداث توظيف الدين الإسلامي منذ دولة المدينة (صراع حول السلطة في عهد الخلافة والفتنة الكبرى والحروب الإسلامية- الإسلامية وبعض الحلقات التعيسة من المحن مثل التي تعرض لها ابن حنبل والحلاج وابن رشد وغيرهما..) وصولاً إلى الدولة العربية التسلطية المعاصرة التي توظف الدين بامتياز، مستعبدة الناس ومخربة البلاد. فهي توجد على سنوات ضوئية من مقولة عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحراراً".
ثانيهما طبيعة الصراع حول البسملة، فهو صراع حول الإسلام الشكلي، إسلام الواجهة لا أكثر. إذ يسمح الاهتمام بالشكليات الدينية للمنخرطين في العملية بعدم الخوض في أمهات الأمور، وفي مقدمها الحرية والفساد والعدالة الاجتماعية. ومن ثم الحفاظ على الوضع القائم سياسياً واجتماعياً. والجدير بالملاحظة أنه كلما تتسع قاعدة المستفيدين من الوضع القائم يصعب تغييره، وكلما تضيق يسهل تغييره. ويندرج السياق الجزائري ضمن الحالة الأولى.. فلا تدهور الظروف المادية للتلاميذ، ولا تدني المستوى التعليمي في البلاد، ولا فشل الإصلاحات المتتالي، أثارت مثل هذه التعبئة (غير الرسمية) والتعبئة المضادة (الرسمية)، ما يوحي أن الأمر لا يعدو أن يكون صراعاً لاستمرار السياسة التسلطية، الدينية وغير الدينية، بشكل آخر.