يوم الإثنين، أعلن فيزكارا في خطاب بثه التلفزيون الرسمي، حلّ البرلمان الذي تحدى تحذيراته وانتخب عضواً جديداً في المحكمة الدستورية هو ابن عم رئيس البرلمان، معتبراً أنّ هذا الإجراء يتعارض مع جهوده للقضاء على الفساد، ومتهماً النواب بمحاولة منع إصلاحاته في هذا الشأن. والخطوة التي أقدم عليها فيزكارا تشهدها البيرو للمرة الأولى منذ عام 1992 عندما أقدم الرئيس الأسبق ألبيرتو فوجيموري حينها على اتخاذ الخطوة نفسها. وبالإضافة إلى حلّ البرلمان، دعا فيزكارا لانتخابات تشريعية مبكرة في 26 يناير/ كانون الثاني المقبل، وذلك قبل عام ونصف العام من موعدها المقرر أصلاً في إبريل/ نيسان 2021. وأوضح الرئيس الذي يمثّل تيار يمين الوسط أنّه لم يجد بدّاً من حلّ البرلمان بعدما خلص إلى أنّه "لا يمكن التوصّل إلى اتفاق مع المعارضة"، في إشارة إلى أن الخلاف يتمحور حول طريقة تعيين قضاة المحكمة الدستورية، وهو موضوع كان قد أشعل نقاشاً صاخباً في البرلمان.
لكن البرلمان ردّ بالتصويت بغالبية 86 صوتاً من أصل 130 تأييداً لتعليق ممارسة فيزكارا صلاحياته لمدة عام بدعوى "العجز الأخلاقي" وأوكل صلاحياته إلى نائبة الرئيس مرسيدس أراوز، وهي خبيرة اقتصادية تبلغ من العمر 58 عاماً. وعلى الفور، أدت أراوز اليمين الدستورية أمام رئيس البرلمان بيدرو أولايخيا، الذي أعلن من ناحيته أنّ النواب سيصوّتون، الجمعة، على مذكرة لعزل فيزكارا نهائياً، ما يعني أن المواجهة مستمرة ومفتوحة خلال الأيام المقبلة.
غير أنّ أراوز عادت وقدّمت استقالتها. وكتبت في تغريدة على موقع "توتير"، في وقت متأخر من الثلاثاء، أنها لا تستطيع أداء مهام الرئيس المؤقت التي أوكلها لها البرلمان، بعدما طلبت "منظمة الدول الأميركية" (أو أيه أس)، (منظمة دولية إقليمية في إطار الأمم المتحدة، مقرها واشنطن وعدد أعضائها 35، هم البلدان المستقلة في القارة الأميركية)، من المحكمة الدستورية في البيرو النظر في قانونية قرار حلّ البرلمان. وتابعت أراوز أن "النظام الدستوري قد انهار والبلاد تواجه أزمة مؤسسية خطيرة"، معربة عن أملها في أن تؤدي استقالتها إلى إجراء انتخابات عامة في أقرب وقت ممكن "من أجل مصلحة البلاد".
وفيما يرجّح أن تستمر المواجهة بين نواب المعارضة في البرلمان وفيزكارا خلال الأيام المقبلة، من المتوقّع في الوقت نفسه أن تبدأ معركة قانونية لتحديد ما إذا كان حل البرلمان دستورياً من عدمه. وكانت "منظمة الدول الأميركية" قد قالت، في بيان لها الثلاثاء، إنّ المحكمة العليا في البيرو هي وحدها المخولة البت في مشروعية قرار رئيس البلاد حلّ البرلمان، داعيةً الأطراف إلى التهدئة.
وعلى الرغم من تنحي أراوز، إلا أنّ مؤشرات أزمة الحكم في البلاد ظلّت قائمة، وانعكست بوضوح من خلال الخلاف العميق بوجهات النظر بشأن الإجراء الذي قام به الرئيس وما تبعه من إجراء من قبل البرلمان. وفيما اعتبر فيزكارا أنّ خطوته بحل البرلمان كانت دستورية، رأى نواب المعارضة فيها "تصرفاً ديكتاتورياً". وفي المقابل، اعتبرت مصادر حكومية أنّ التصويت وأداء اليمين الدستورية من قبل أراوز كانت خطوة لاغية وباطلة لأنها حدثت بعدما تمّ حلّ البرلمان.
وفي السياق، قال عضو البرلمان المعارض فيكتور أندريس غارسيا بيلاندي، في تصريحات له: "هذا هو سلوك الديكتاتور"، مضيفاً "يريد السيطرة على كل شيء"، فيما انتقدت "كونفيب"، أكبر منظمة أعمال في البيرو، في بيان، خطوة فيزكارا باعتبارها "انتهاكاً للدستور، وتقويضاً للديمقراطية". بدوره، قال النائب خورخي دي كاستيو، المتحالف مع المعارضة: "نحن أمام انقلاب"، وذلك لتبرير تمرّد البرلمان على الرئيس. وأضاف "آمل عدم انضمام القوات المسلحة والشرطة لهذه المهزلة".
لكن القادة الرئيسيين للقوات المسلحة والشرطة ألقوا بثقلهم خلف فيزكارا، إذ توجهوا إلى القصر الرئاسي في ليما، الثلاثاء، لإعادة التأكيد على "دعمهم الكامل للنظام الدستوري والرئيس مارتن فيزكارا كقائد أعلى"، وذلك وفق ما أعلنت الرئاسة على "تويتر" في تغريدة أرفقتها بصورة عن الاجتماع الذي ترأسه فيزكارا، علماً أنّ البيرو جمهورية رئاسية ديمقراطية تمثيلية، وبموجب الدستور، فإن رئيس الجمهورية هو قائد الدولة والحكومة.
كذلك، جرت تظاهرات عدة دعماً لقرار الرئيس حلّ البرلمان، الاثنين، في أنحاء البلاد كافة، جمعت أكبرها في العاصمة ليما نحو 2000 شخص. من جهتها، منعت شرطة مكافحة الشغب حركة المرور إلى وسط مدينة ليما، حيث البرلمان، الثلاثاء، بهدف تجنّب وصول مؤيدي الرئيس إليه، فيما ظلّت العديد من الشركات على طول الطرق الرئيسية مغلقة.
وتأتي هذه الأزمة بعد سنوات من المشاحنات السياسية في البلاد حول طريقة تعيين القضاة في المحكمة الدستورية، أعلى هيئة قضائية في البلاد، والتي تنظر حالياً بطلب لإطلاق سراح زعيمة المعارضة كيكو فوجيموري، ابنة الرئيس الأسبق ألبيرتو فوجيموري، الذي حكم بين 1990 و2000 ويقبع حالياً في السجن لإدانته بالفساد وارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية. وفوجيموري موقوفة منذ 11 شهراً في إطار تحقيق بقضية فساد ضخمة مرتبطة بمجموعة "أوديبريخت" البرازيلية والتي تلطخ سمعة الطبقة السياسية في أميركا اللاتينية.
ويملك أنصار فوجيموري الغالبية في البرلمان، لكن تأييدهم ينخفض بشكل سريع في استطلاعات الرأي، ولذلك يرفضون إجراء انتخابات مبكرة، على عكس الرئيس الذي يأمل أن تغيّر صناديق الاقتراع موازين القوى في البرلمان لصالحه. كذلك، ينص تعديل اعتمد عام 2018 بعد استفتاء، على أنه لا يحق لأي نائب في البيرو الترشح لولاية ثانية. ويتمتع فيزكارا بشعبية كبيرة بسبب وقوفه بوجه المعارضة على الرغم من أنه لا يتمتع بتأييد أي حزب سياسي، بينما يشغل خصومه المحافظون بقيادة كيكو فوجيموري، عبر "حزب القوة الشعبية" اليميني، 54 مقعداً في البرلمان من أصل 130.
ويقول الرئيس البيروفي إنّ البرلمان الذي يسيطر عليه "حزب القوة الشعبية"، منعه من تمرير مجموعة من تدابير مكافحة الفساد، بهدف حماية نفسه وزعيمته من التحقيقات في هذا الشأن. وقد أوضح في خطابه الأخير أنّ "الغالبية البرلمانية تلجأ إلى عدد لا يحصى من الحجج والحيل، الموجهة لإلحاق الضرر ليس فقط بالحكومة، بل بالمجتمع ككل".
وفي السياق ذاته، قال جوليو كاريون، الباحث السياسي البيروفي في جامعة ديلاوير بولاية نيو جيرسي الأميركية، إنّ "معارضة فوجيموري في البرلمان تحاول الدفاع عن مصالحها الخاصة"، إلا أنه أضاف، بحسب ما نقلت عنه صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، أنه "على الرغم من أنّ نوايا فيزكارا جيدة، لكن أفعاله ستتخطى هذه النوايا وتؤثّر على الديمقراطية في البيرو". وتابع "هذا مجرد مؤشر على مدى سوء تصرف كل من الحكومة والمعارضة، وخروج خلافاتهم عن السيطرة".
وبالنسبة لكثير من البيروفيين البالغ عددهم نحو 30 مليون نسمة، ولا سيما فئة الشباب التي تميل لليسار، فإن خطوة فيزكارا هي فرصة لإصلاح النظام السياسي الفاسد أخيراً، والذي سمح للأحزاب السياسية التقليدية في البلاد بتقسيم السلطة واعتماد المحسوبية الاقتصادية، على حساب تنمية البلاد على مدى عقود. إلا أن فئة أخرى من مواطني البيرو لديها خشية من تكرار أخطاء عام 1992، عندما واجهت البلاد آخر أزمة دستورية. ففي ذلك الوقت، قام ألبرتو فوجيموري بحل الكونغرس بخطاب مشابه تحدّث فيه عن نهضة وطنية، لكنه انتقل إلى الحكم بقبضة حديدية، وعمد إلى تفكيك المحاكم، وتعيين الموالين له في مؤسسات الدولة، فضلاً عن ارتكابه انتهاكات جسيمة في مجال حقوق الإنسان في سعيه للقضاء على المعارضة.
وفيزكارا، المهندس البالغ من العمر 56 عاماً، كان نائباً للرئيس السابق بيدرو بابلو كوتشينسكي، وقد انتخب في 2018 رئيساً للبلاد بعدما أُجبر سلفه على الاستقالة إثر شبهات بالفساد. وتعهّد آنذاك بمحاربة هذه الآفة والكسب غير المشروع، الأمر الذي جعله محبباً لبيروفيين سئموا من فضائح الفساد التي لا تنتهي، والتي لم يتلطخ بها كوتشينسكي فحسب، بل أيضاً ثلاثة رؤساء سبقوه.
وبالإضافة إلى ألبيرتو فوجيموري المدان بانتهاكات لحقوق الإنسان والمسجون منذ 2005، تتميّز البيرو بأنّها البلد الذي أطلق ملاحقات قضائية بتهم فساد بحق أربعة رؤساء سابقين. وفي 17 إبريل/ نيسان الماضي، انتحر الرئيس الأسبق آلان غارسيا (1985 - 1990 و2006 - 2011)، بإطلاق النار على رأسه عندما جاءت الشرطة للقبض عليه في منزله.
وفي مايو/ أيار الماضي، وجّه القضاء إلى الرئيس الأسبق أولانتا هومالا (2011 - 2016) وزوجته نادين هيريديا، اتهامات بتبييض أموال. أمّا الرئيس السابق بيدرو بابلو كوتشينسكي الذي أجبر على الاستقالة في 2018 بعدما قضى عامين فقط في السلطة، فيخضع لتحقيق بشبهة تبييض أموال في إطار فضيحة فساد واسعة. والرئيس السابق الرابع ضمن هذه القائمة هو أليخاندرو توليدو (2001 - 2006) الذي تم اعتقاله في 16 يوليو/ تموز في الولايات المتحدة، حيث يقيم، تمهيداً لتسليمه إلى سلطات بلاده.
وعلى الرغم من هذا الصخب الداخلي، فإنه لا يتوقّع بحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، أن يؤثّر ذلك على السياسة الخارجية للبيرو أو تغييرها. ففيزكارا وفوجيموري كلاهما لديه موقف صارم ضد الحكومة الفنزويلية التي تسبب انهيارها الاقتصادي في أكبر أزمة جيوسياسية في تلك المنطقة منذ عقود، علماً أن البيرو استقبلت عدداً كبيراً من اللاجئين الفنزويليين.
إلى ذلك، وفي الوقت الذي ينظر فيه بإيجابية لاقتصاد البيرو ونموها في أميركا اللاتينية، يحذر اقتصاديون حالياً من تأثير الوضع السياسي المختل في البلاد على النشاط الاقتصادي، وخنق الاستثمارات. وخلال الأسبوع الماضي، خفّض البنك المركزي توقعاته للنمو الاقتصادي للعام الحالي إلى 2.7 في المائة من 3.4 في المائة، بسبب تباطؤ الاستثمارات. كما انخفضت قيمة عملة سول (عملة البيرو) بأكثر من 1 في المائة مقابل الدولار، يوم الجمعة الماضي، مع تصاعد المخاوف بشأن الوضع السياسي.