بداية التوتر
بدأ التوتر الجديد بعدما فرضت الإدارة الأميركية حظراً شاملاً على النفط الإيراني، إثر عدم تجديد الإعفاءات الممنوحة سابقاً لثماني دول لشراء النفط الإيراني، اعتباراً من 2 مايو. وكان القرار بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، لتبعاته الخطيرة على الاقتصاد الإيراني المعتمد بالأساس على الصادرات النفطية أولاً، ومن ثم ارتداداته على الأوضاع الداخلية في البلد ثانياً". في موازاة ذلك، صعّدت واشنطن من تصريحاتها وتهديداتها تجاه طهران، إلى أن ألحقتها بتصعيد عملي في 6 مايو من خلال إعلان مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون إرسال حاملة طائرات "يو إس إس أبراهام لينكولن" وقوة من قاذفات "بي 52" إلى الخليج، فضلاً عن نشر صواريخ باتريوت في المنطقة. واعتبر بولتون أن "أميركا وجّهت رسالة واضحة لا لبس فيها إلى النظام الإيراني، تحذره فيها من أن أي هجوم على مصالح الولايات المتحدة أو مصالح حلفائنا سيقابل برد بلا هوادة".
واعتبر بعض المراقبين هذه الخطوة مؤشراً على وجود توجه أميركي للذهاب باتجاه مواجهة عسكرية مع إيران، فيما نظر إليها آخرون كمحاولة لإعطاء نكهة عسكرية لضغوطها على طهران، تسريعاً لجرّ الأخيرة إلى طاولة مفاوضات بشروط أميركية، حدّدها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في 12 بنداً، في مايو 2018، مرتبطة بجميع الملفات المرتبطة بإيران، ومنها ما يتعلق بدورها الإقليمي أو ما يرتبط ببرامجها الصاروخية والنووية.
من جهتها، قابلت إيران التصعيد الأميركي المتمثل في الحظر الشامل لنفطها وإرسال القطعات العسكرية إلى المنطقة، بتصعيد متدرج، أبعدها قليلاً عن قاعدة "الصبر الاستراتيجي"، التي ظلت متمسكة بها طيلة عام من الانسحاب الأميركي من الصفقة النووية. وبدأت مرحلة جديدة في التعاطي مع الضغوط الأميركية ومماطلات شركاء الاتفاق الخمسة المستمرين فيه (بريطانيا، فرنسا، الصين، روسيا، ألمانيا)، عبر كشف المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني عن جملة قرارات "مرحلية" في 8 مايو الحالي، تعلق تنفيذ تعهدات نووية على مرحلتين، مع منح مهلة 60 يوماً لهؤلاء الشركاء لتلبية مطلبين أساسيين، الأول تمكين طهران من بيع نفطها والثاني تسهيل معاملاتها المصرفية.
في هذه الأثناء، شهدت المنطقة أحداثاً كانت في صلب التوتر المتصاعد بين واشنطن وطهران، لترفع منسوبه. وفي 12 مايو، وقعت تفجيرات في ميناء الفجيرة الإماراتي، استهدفت أربع ناقلات نفط سعودية وإماراتية. وفي 14 مايو، نفّذت سبع طائرات مسيّرة تابعة للحوثيين هجمات استهدفت محطتين لنقل وضخّ النفط في منطقة الرياض، في العمق السعودي. ومنذ ذلك الحين صعّد الحوثيون من هجماتهم بالطائرات المسيّرة داخل الأراضي السعودية، بشكل شبه يومي.
على الرغم من نفي طهران وقوفها وراء هذه الأحداث، إلا أن مراقبين قرأوها في سياق تحريك أذرعها الإقليمية في مواجهة واشنطن، مستحضرين تهديدات سابقة لها بمنع تصدير النفط من المنطقة، وعدم السماح للسعودية والإمارات بالحلول مكانها في سوق الطاقة في العالم، بعدما أعلنت الإدارة الأميركية أن الدولتين تعهدتا بالتعويض عن النقص الناتج عن وقف صادرات إيران النفطية. في زحمة هذه الوقائع، والحديث عن تحركات لحلفاء إيران في المنطقة، بالذات في العراق لضرب المصالح الأميركية، أمرت الخارجية الأميركية في 15 مايو موظفيها الأساسيين في سفارتها ببغداد وقنصليتها في أربيل بمغادرة العراق، قبل وقوع هجوم صاروخي على السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء ببغداد، في 19 مايو. في السياق، ولإظهار جديتها للأوروبيين بأنها صارمة في تنفيذ قراراتها المرحلية، أعلنت إيران في 15 مايو تخليها رسمياً عن تعهدات نووية، قبلت بموجبها قيوداً على إنتاجها اليورانيوم والمياه الثقيلة، قبل كشفها في 20 مايو عن بدئها زيادة إنتاج اليورانيوم منخفض التخصيب أربعة أضعاف.
ضبط الإيقاع
اللافت أنه رغم هذا التصعيد المتبادل بين الولايات المتحدة وإيران مع زيادة حدّة التوتر، إلا أنهما ضبطتا إيقاعه عند مستوى محدد، وذلك عبر التأكيد مرات عدة على عدم رغبتهما في الحرب، وسط محاولة طهران دق الإسفين بين أركان الإدارة الأميركية من خلال تركيز هجماتها على من تصفها بـ "مجموعة ب" والقول إنها تريد استدراج ترامب إلى حرب ضدها، وهو لا يريدها. ومجموعة "ب" التي تكرر الحديث عنها تشير إلى بولتون ورئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد.
وفي موازاة تأكيد الطرفين الأميركي والإيراني أنهما لا يريدان الحرب، أطلق ترامب دعوات للتفاوض مع إيران مرات عدة، كانت تشبه نوعاً من المغازلة لها، لكن طهران قابلتها برفض، معتبرة أنها تأتي في سياق ممارسة ترامب سياسة "العصا والجزرة" تجاهها. لذلك لم تساهم هذه الدعوات خلال الأسابيع الماضية في تخفيف حدة التوتر، وظلّ الجانبان يوجهّان رسائل حادة متبادلة تحت سقف التأكيد على عدم الرغبة في الحرب، لتقرر واشنطن إرسال المزيد من القوات والمعدات العسكرية إلى المنطقة، مع إعلانها في 25 مايو نيتها إرسال 1500 جندي إضافي آخر إلى الخليج. وقابلت طهران هذا الأمر بالتقليل من شأنه، واصفة الوجود الأميركي في المنطقة بأنه "الأضعف في التاريخ" وأن القطعات البحرية الأميركية "ليست عملياتية"، بحسب نائب القائد العام للحرس الثوري الإيراني، العميد علي فدوي. كما هدد المستشار الأعلى للقائد العام للحرس الثوري الإيراني، مرتضى قرباني، بإغراق حاملات الطائرات والسفن الحربية الأميركية عبر "صاروخين سريين للغاية يلقيان بهذه الحاملات إلى قاع البحر بطواقمها وطائراتها في حال ارتكبت أي حماقة".
تحركات دبلوماسية
وسط هذا التوتر المتصاعد، بدأت تحركات دبلوماسية واسعة من قبل أطراف عدة، خصوصاً سلطنة عمان والعراق وقطر وسويسرا وألمانيا واليابان. واستقطبت التحركات العمانية والسويسرية انتباه المراقبين أكثر من غيرها، لدور البلدين في الوساطة بين طهران وواشنطن خلال العقود الماضية، إذ أطلقت زيارة الرئيس السويسري أولي ماورر إلى الولايات المتحدة قبل أسبوعين، وزيارة وزير الخارجية العماني، يوسف بن علوي لإيران، الأسبوع الماضي، تكهنات بأن الوساطة بين الطرفين قد بدأت بالفعل. لكن وفقاً لتصريحات هذه الأطراف بما فيها طهران، فإن هذه التحركات لا تزال في بداياتها، وتستهدف في الوقت الحاضر تخفيف حدة الاحتقان بين الجانبين، وفي الوقت نفسه، تبادل رسائل بينهما.
وتبدو هذه التحركات في مرحلة جسّ النبض لبحث إمكانية تقريب وجهات النظر بهدف إطلاق مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة بينهما، وهو ما تنفي إيران أن تكون قد بدأته. وعلى الرغم من النفي الإيراني، إلا أن هذه التحركات هي نوع من التفاوض غير المباشر بين البلدين، تُنقل خلالها رسائل بينهما.
في المقابل، لا تزال نبرة التصريحات في إيران عالية وهي مصرة على معادلة "لا حرب ولا تفاوض"، وتقول إنها لن تسمح أن تمرر واشنطن عليها معادلة "إما الحرب وإما السلام"، مع طرحها جملة شروط للتفاوض، تتمثل في تغيير الإدارة الأميركية سلوكها، والتراجع عن الضغوط ومواضيع أخرى، معتبرة التفاوض تحت الضغوط الاقتصادية والعسكرية الأميركية بمثابة "استسلام ومذلة وهوان". لكن مع ذلك، يستشف من جولات وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، الإقليمية وما بين سطور المواقف والتصريحات الإيرانية، أن طهران لا ترغب في تصعيد التوتر، وأنها معنية بنجاح هذه التحركات الدبلوماسية، عسى أن تنجح في تخفيف أعباء العقوبات الأميركية وتحول دون مزيد من التصعيد الأميركي على ضوء مشاكلها الاقتصادية المتفاقمة. إلا أن هذه الرغبة لم تمنع الجانب الإيراني، من مواصلة ممارسة سياسة توجيه رسائل ضغط للجانب الأميركي وحلفائه في المنطقة، عبر أوراقه الإقليميين، وللأوروبيين من خلال مواصلة تنفيذ قراراتها المرحلية لتقليص بعض تعهداتها، بغية دفع هذه الأطراف لتخفيف العقوبات والضغوط الاقتصادية.
في الجانب الأميركي أيضاً، رغم استمراره في سياسة التصعيد، لكنه أصبح يبدي أكثر من أي وقت مضى رغبته في التفاوض مع إيران، خصوصاً بعد إعلان الرئيس الأميركي أمس الإثنين، في اليابان، أن بلاده "لا تريد تغيير النظام في إيران". يمكن اعتبار ذلك بمثابة رسالة تطمينية لإيران، التي لطالما أكد أكثر من مسؤول رفيع لها خلال العام الأخير أن الغاية الأميركية من ضغوطها القصوى ضدها هي تغيير نظامها.
لكن يستبعد أن تقنع هذه التصريحات طهران بالتفاوض المباشر مع الإدارة الأميركية خلال الفترة المتبقية لولاية ترامب، لأسباب معروفة، ولوجود توجس لديها من أن هدف الرئيس الأميركي من الدعوة إلى المفاوضات، هو توظيفها في حملته الانتخابية المقبلة وإظهار نفسه منتصراً وإيران مهزومة. في الوقت نفسه، يستبعد أيضاً أن يرفق ترامب تصريحاته هذه بخطوات تخفف الضغوط الاقتصادية على إيران، خلال هذه الفترة.
خلاصة القول إن الطرفين سيستمران في لعبة عض الأصابع خلال المرحلة المقبلة، تحت سقف محدد دون الانزلاق إلى الهاوية، وفي موازاة ذلك ستزداد التحركات الدبلوماسية الإقليمية والدولية أيضاً، وعلى الأغلب ستنتقل إلى مرحلة الوساطة، ومفاوضات سرية غير معلنة، لكنها غير مباشرة، على أن تنجح الأطراف التي تقوم بها في إيجاد حلول وسط، هي بعيدة المنال حالياً. إلا أنه وسط ممارسة تلك اللعبة وهذه الوساطة، فمن شأن أي حادث أن يفجّر الأوضاع.