22 نوفمبر 2024
صراع بالكراهية والدم على أميركا
ليس من الإنصاف تحميل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مسؤولية العنف والعنصرية وصناعة الكراهية، سواء الدينية أم العرقية أم السياسية، في الولايات المتحدة، فهذه صفاتٌ متأصلةٌ في نشأة الولايات المتحدة وتطورها عبر قرنين ونصف القرن. ولكن ترامب يتحمّل، اليوم، مسؤولية تطبيع تلك الصفات البغيضة، وإعطائها عنواناً رسمياً، هو البيت الأبيض. تتمثل خلفية هذا التقويم الأولي في حادثين اثنين وقعا في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي. الأول، إرسال طرود بريدية ناسفة إلى مسؤولين من الحزب الديمقراطي، بينهم الرئيسان السابقان، باراك أوباما وبيل كلينتون، فضلاً عن ناقدين آخرين لترامب، منهم مسؤولون أمنيون سابقون كبار، ومحطة سي أن أن الإخبارية، الناقدة هي أيضاً للرئيس. الثاني، هجوم دموي إرهابي على معبد يهودي في مدينة بيتسبرغ في ولاية بنسلفانيا، أسفر عن مقتل أحد عشر شخصاً وإصابة آخرين. الجامع المشترك بين الحادثين أن من نفذهما قَوْمِيانِ أميركيان مُتَطَرِّفانِ، ومُتَأَثِّرَانِ بالانقسامات السياسية والجو المشحون ضد الآخر السياسيِّ والعرقيِّ والدينيِّ، ويغذّيهما ترامب، بمفرداته وخطابه وسياساته منذ ترشحه للرئاسة عام 2015، وتسلمه الرئاسة، فعلياً، مطلع العام الماضي.
ثمّة في أميركا اليوم هيستيريا تمكّنت من شريحةٍ معتبرةٍ من الأميركيين المسيحيين البيض، الذين يخشون فقدان أغلبيتهم، وهو أمر تؤكّد الدراسات الإحصائية وقوعه عام 2045، حيث سيتحول البيض، من أصول أوروبية، إلى أكبر أقليةٍ سكانيةٍ في الولايات المتحدة، بنسبة
49.7%، مقابل 61.3% اليوم. أمام هذا الواقع المرعب، بالنسبة لهؤلاء، بدأت نظرياتٌ عنصرية كثيرة تجد طريقها إلى الخطاب السياسي الأميركي، مثل الحديث عن تغيير "لون" أميركا من الأبيض إلى البُنِّيِ، أو ما يسمى "the browning of America". أيضاً، ثمَّة نقاش حادٌّ، قائمٌ منذ عقود، بشأن مسألة الدين في الولايات المتحدة، ففي حين لا ينصّ الدستور على دينٍ للدولة، بل ولا يسمح للدولة أصلاً أن تتبنّى ديناً معيناً، فإن هناك من يريد أميركا دولةً مسيحيةً تبعاً لدين غالبية السكان. ولكن هذا لا يحظى بقبول من الجميع، بما في ذلك داخل البيض المسيحيين أنفسهم. ولعلَّ ذلك النقاش الذي يحتدم، أميركياً، كل عام، في أعياد الميلاد، دليلٌ كافٍ على الانقسام الذي يسود الولايات المتحدة، حيث هناك من يريد التهنئة والعطلة مرتبطتين بحدث أعياد الميلاد الدينية، في حين يريدهما آخرون مرتبطتين بمناسبة وطنية جامعة، وليس بأبعاد دينية.
الهواجس والنقاش المشار إليهما سابقان على ترامب، مرشّحاً ورئيساً. ولكنه، كمحترف تَسْويقٍ، تمكّن من توظيفهما لصالحه سياسياً. لقد نجح في تقديم نفسه، ضمنياً، الأمل الأخير للأميركيين المسيحيين البيض، من أصول أوروبية، إذا ما أرادوا الحفاظ على أميركا التي يعرفون ويريدون. وبالتالي، لا ينبغي أبداً أخذ تصريحات ترامب التحقيرية والمستفزّة عن اللاتينيين والسود والمسلمين بمعزلٍ عن هذا السياق، بما في ذلك قراره حظر دخول مسلمين إلى الولايات المتحدة من مواطني دولٍ ذات أغلبية سكانية مسلمة، أو إصراره الدائم على ضرورة بناء جدار على الحدود الأميركية - المكسيكية. ينطبق الأمر نفسه على تردّده مراراً وتكراراً في انتقاد جرائم القوميينَ الأميركيين المتطرفين وتعدّياتهم، وفيهم "نازيون جدد"، كما جرى العام الماضي في مظاهرات مدينة شارلوتسفيل في ولاية فرجينيا، ذلك أنهم يشكّلون جزءاً من فلسفته الانتخابية.
وليس ترافق حادثتي الطرود الناسفة والهجوم على المعبد اليهودي مع احتدام المعركة الانتخابية للتجديد النصفيِّ في الكونغرس محض مصادفة. إنه مرتبط مباشرة بارتفاع نبرة خطاب الكراهية ومستواه، والتخويف من المستقبل والآخر الذي يدغدغ به ترامب مشاعر قاعدته الانتخابية. ليس ترامب غبياً. هو يملك ذكاء غريزياً، أقرب إلى ذكاء المحتالين، لكنه لا يملك عمقاً ومنطقاً سليماً. إنه رجل تكتيكي لا استراتيجي، وكل ما يهمه، في ميزان الربح والخسارة، الواقع المعاش، والمستقبل القريب، ومن ثمَّ فهو على استعداد لفعل كل شيء وأي شيء، من أجل أن يستمتع بزمانه، ولا يهمّه أن يستثمر في زمانٍ من بعده، مهما زعم غير ذلك. ولأن عند ترامب تمركزاً طاغياً حول الذات، فإن أي معطيات أو حقائق ثابتة راسخة تُناقض مصالحه، تكون بالنسبة له مجرّد "أخبارٍ كاذبة". ليس موقفه من الاحتباس الحراريِّ مبنياً على أسس علمية، وإنما على حساباتٍ انتخابية. أيضاً، هو يعلم أن أميركا تتحوّل إلى "اللون البنيِّ"، ليس بسبب "غزو" المهاجرين أميركا، كما يزعم، وإنما لأن القوة الأميركية العاملة تعاني من الهَرَمِ بناء على معدلات الخصوبة المتدنية بين الأميركيين المنحدرين من أصول أوروبية، وهو ما يجعل الطلب على اليدِّ العاملة المهاجرة عالياً. وتؤكد الدراسات العلمية والموضوعية أن أميركا لا مستقبل لها من دون استمرار تدفق الهجرة إليها، وهذا ما جعل من أميركا قبلة المهاجرين الأولى عقوداً طويلة. لم يكن ذلك من باب السماحة فحسب، إنما من باب الضرورة.
لا أحد يتوقع أن يفهم قوميٌّ متطرّف المعطيات السابقة، ومن الطبيعيِّ أن يعتبرها مجرّد مؤامرةٍ على بلاده ووجوده، وأن يقارب "القومية" على أنها عرق لا مواطنة. لكن أن يكون رئيس أكبر وأقوى دولة على وجه البسيطة، شعبوياً وانتهازياً، يتمسح بالقومِيَّةِ العنصرية، بل ويباهي بها، فإن الخطورة هنا، خصوصاً إذا ما أخذ في الاعتبار ارتهان الحزب الجمهوري له، وتراجع قوة مؤسسات الحكم التقليدية أمام تياره.
تعيش أميركا اليوم مرحلة مفصلية في تاريخها، بل أصبحت كينونتها، كما نعرفها، مهدّدة، وإن لم يكن ذلك في المدى المنظور. ثمَّة تمزّقٌ في النسيج الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي الأميركي، كما أن ثمَّةَ صراعاً على هويتها وطبيعتها. حتى المؤسسات الضامنة لاستقرار البلاد هشمت على أسس حزبية وإيديولوجية. لقد ركّز أغلب الإعلام الأميركي في
معركة تعيين قاضي المحكمة العليا، بريت كافانو، على مسألة اتهامه بتعدٍ جنسيٍّ مزعوم على امرأة قبل عقود، على الرغم من خطورة الاتهام، في حين أن قليلاً منه انتبه إلى نبرة الرجل الحزبية العدائية وهو يهاجم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ. إذا فقد القضاء نزاهته وحياديته واستقلاليته، والتي هي ضمانة دستورية أميركية، في سياق نظام الضبط والتوازنات بين فروع الحكومة الثلاثة، فماذا يا ترى يتبقّى من أميركا التي نعرف!؟ أهي مصادفةٌ أن يتحدّى ترامب، أخيراً، نصاً دستورياً، هو التعديل الرابع عشر، والذي ينصّ على أن الجنسية الأميركية تكتسب بالولادة في الولايات المتحدة، بغض النظر عن الوضع القانوني للوالدين؟ يزعم ترامب أنه قادر على تعطيل مادة دستورية، بقرار تنفيذي، بدون حتى موافقة الكونغرس، على الرغم من أن الكونغرس نفسه، لا يملك هذه الصلاحية، فهي عملية معقدة، ليس هنا مجال شرحها. ولكن ترامب الذي ألمح، غير مرة، إلى قناعته بأن من يُعينهم يعملون لديه شخصياً، لا للحكومة والشعب الأميركيين، قد يكون، في حساباته، أنه إن أصدر هذا القرار التنفيذي فإنه يملك فرصةً لفرضه عبر المحكمة العليا التي يتمتع فيها المحافظون بأغلبية خمسة قضاةٍ إلى أربعة، اثنان منهما عينهما ترامب نفسه. إن وقع ذلك، على الرغم من أنه مستبعد جداً، حينها اقرأ على أميركا السلام، فهي تكون قد استوت مع أنظمة عالم ثالثية متخلفة، بل وستتفوق عليها. حتى في سورية، احتاج البرلمان الصوري إلى أن يجري تصويتاً، عام 2000، لتعديل الدستور لتمكين بشار الأسد من الرئاسة، أما في أميركا فإن ترامب يريد ذلك بإرادته هو نفسه.
بغضّ النظر عن مسألة حقِّ الرئيس في تجاوز الدستور، تبقى الحقيقة أن الولايات المتحدة تشهد صراعاً ذاتياً على الهوية والوجهة المستقبلية، في ظل رئيسٍ ضحلٍ وأنانيٍّ يصب زيتاً على نيران مشتعلة، بدل أن يحاول إطفاءها. أما لماذا ينبغي على العالم أن يهتم بالصراع الجاري في أميركا اليوم؟ ببساطةٍ، ما يقع في أميركا لا يبقى فيها.
ثمّة في أميركا اليوم هيستيريا تمكّنت من شريحةٍ معتبرةٍ من الأميركيين المسيحيين البيض، الذين يخشون فقدان أغلبيتهم، وهو أمر تؤكّد الدراسات الإحصائية وقوعه عام 2045، حيث سيتحول البيض، من أصول أوروبية، إلى أكبر أقليةٍ سكانيةٍ في الولايات المتحدة، بنسبة
الهواجس والنقاش المشار إليهما سابقان على ترامب، مرشّحاً ورئيساً. ولكنه، كمحترف تَسْويقٍ، تمكّن من توظيفهما لصالحه سياسياً. لقد نجح في تقديم نفسه، ضمنياً، الأمل الأخير للأميركيين المسيحيين البيض، من أصول أوروبية، إذا ما أرادوا الحفاظ على أميركا التي يعرفون ويريدون. وبالتالي، لا ينبغي أبداً أخذ تصريحات ترامب التحقيرية والمستفزّة عن اللاتينيين والسود والمسلمين بمعزلٍ عن هذا السياق، بما في ذلك قراره حظر دخول مسلمين إلى الولايات المتحدة من مواطني دولٍ ذات أغلبية سكانية مسلمة، أو إصراره الدائم على ضرورة بناء جدار على الحدود الأميركية - المكسيكية. ينطبق الأمر نفسه على تردّده مراراً وتكراراً في انتقاد جرائم القوميينَ الأميركيين المتطرفين وتعدّياتهم، وفيهم "نازيون جدد"، كما جرى العام الماضي في مظاهرات مدينة شارلوتسفيل في ولاية فرجينيا، ذلك أنهم يشكّلون جزءاً من فلسفته الانتخابية.
وليس ترافق حادثتي الطرود الناسفة والهجوم على المعبد اليهودي مع احتدام المعركة الانتخابية للتجديد النصفيِّ في الكونغرس محض مصادفة. إنه مرتبط مباشرة بارتفاع نبرة خطاب الكراهية ومستواه، والتخويف من المستقبل والآخر الذي يدغدغ به ترامب مشاعر قاعدته الانتخابية. ليس ترامب غبياً. هو يملك ذكاء غريزياً، أقرب إلى ذكاء المحتالين، لكنه لا يملك عمقاً ومنطقاً سليماً. إنه رجل تكتيكي لا استراتيجي، وكل ما يهمه، في ميزان الربح والخسارة، الواقع المعاش، والمستقبل القريب، ومن ثمَّ فهو على استعداد لفعل كل شيء وأي شيء، من أجل أن يستمتع بزمانه، ولا يهمّه أن يستثمر في زمانٍ من بعده، مهما زعم غير ذلك. ولأن عند ترامب تمركزاً طاغياً حول الذات، فإن أي معطيات أو حقائق ثابتة راسخة تُناقض مصالحه، تكون بالنسبة له مجرّد "أخبارٍ كاذبة". ليس موقفه من الاحتباس الحراريِّ مبنياً على أسس علمية، وإنما على حساباتٍ انتخابية. أيضاً، هو يعلم أن أميركا تتحوّل إلى "اللون البنيِّ"، ليس بسبب "غزو" المهاجرين أميركا، كما يزعم، وإنما لأن القوة الأميركية العاملة تعاني من الهَرَمِ بناء على معدلات الخصوبة المتدنية بين الأميركيين المنحدرين من أصول أوروبية، وهو ما يجعل الطلب على اليدِّ العاملة المهاجرة عالياً. وتؤكد الدراسات العلمية والموضوعية أن أميركا لا مستقبل لها من دون استمرار تدفق الهجرة إليها، وهذا ما جعل من أميركا قبلة المهاجرين الأولى عقوداً طويلة. لم يكن ذلك من باب السماحة فحسب، إنما من باب الضرورة.
لا أحد يتوقع أن يفهم قوميٌّ متطرّف المعطيات السابقة، ومن الطبيعيِّ أن يعتبرها مجرّد مؤامرةٍ على بلاده ووجوده، وأن يقارب "القومية" على أنها عرق لا مواطنة. لكن أن يكون رئيس أكبر وأقوى دولة على وجه البسيطة، شعبوياً وانتهازياً، يتمسح بالقومِيَّةِ العنصرية، بل ويباهي بها، فإن الخطورة هنا، خصوصاً إذا ما أخذ في الاعتبار ارتهان الحزب الجمهوري له، وتراجع قوة مؤسسات الحكم التقليدية أمام تياره.
تعيش أميركا اليوم مرحلة مفصلية في تاريخها، بل أصبحت كينونتها، كما نعرفها، مهدّدة، وإن لم يكن ذلك في المدى المنظور. ثمَّة تمزّقٌ في النسيج الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي الأميركي، كما أن ثمَّةَ صراعاً على هويتها وطبيعتها. حتى المؤسسات الضامنة لاستقرار البلاد هشمت على أسس حزبية وإيديولوجية. لقد ركّز أغلب الإعلام الأميركي في
بغضّ النظر عن مسألة حقِّ الرئيس في تجاوز الدستور، تبقى الحقيقة أن الولايات المتحدة تشهد صراعاً ذاتياً على الهوية والوجهة المستقبلية، في ظل رئيسٍ ضحلٍ وأنانيٍّ يصب زيتاً على نيران مشتعلة، بدل أن يحاول إطفاءها. أما لماذا ينبغي على العالم أن يهتم بالصراع الجاري في أميركا اليوم؟ ببساطةٍ، ما يقع في أميركا لا يبقى فيها.