حين بدأ الحاج داود بسرد تلك الحادثة بأسلوبه الروائي، لم نكن نتوقّع، نحن المشدودين إلى التفاصيل والمتابعين بإصغاء، أن تفاجئنا بهذا الحجم وتأخذنا بعيداً إلى أماكن تتوق لها ذاكرتنا.
ابن مختار البلدة، حين كان عمره 10 أعوام فقط، في أوائل أربعينيّات القرن الماضي، كان ينتظر في صيف كلّ عام هؤلاء التجار السوريين وقافلة البغال والحمير المحمّلة بالحبوب والبقول آتية من جبل حوران ودرعا إلى قرى وبلدات إقليم التفّاح جنوب لبنان. قوافل تعبر العرقوب ووادي التيم فمرجعيون ثم الوادي الأخضر لتصل إلى جرجوع.
كانت القافلة تصل ساحةَ البلدة صباحاً. يأخذ كلّ تاجر زاوية، يعقل دابّته ويرتّب بضاعته، ينتظر بعدها وصول أهالي البلدة. ولأنّ الشراء يحتاج إلى دقّة في الكيل والميزان ودفع النقود، كان لا بدّ من انتداب شخص يثق به الأهالي والتجار. وكان "حنّا سعد"، لأنّه يقرأ ويكتب ويعرف بالكيل والمحاسبة.
يقترب المغيب، يقفل سوق البيع والشراء، يعود الهدوء إلى المكان، ولأنّ والده مختار البلدة بيتهم قريب إلى الساحة، كان يستضيف الزوّار. يستريحون من عناء السفر وتعب النهار، ويبيتون ليلهم ليرحلوا بالصباح التالي. كان البيت غرفة واحدة تكاد لا تتّسع للعائلة. كانت الزوجة تفرش على المصطبة والشرفة. وذات مرّة، بعد مغادرتهم، وبينما كانت ترتّب المصطبة وتلملم الفرش، وإذ تجد محفظة. بسرعة البرق أمرت ابنها أن يلحق القافلة ناحية الوادي، وأن يسلك طريقاً مختصرة: "عرّف بنفسك، واسألهم: هل فقد أحدكم في بيتنا شيئاً، وحين يصف المحفظة أعِدها إليه"، قالت.
وضع الطفل المحفظة بجيبه وركض ساعة. وصل، رمى التحية، ونفّذ الوصية. ضرب أحدهم يده على زنّاره وقال: "محفظتي". فأجابه: "لا تقلق وجدناها وها هي".
بدا على وجه التاجر ارتياح وفرح شديدان. سأله مرّة ثانية عن اسمه، فتح المحفظة وأخذ منها خمس ليرات قدّمها إلى الطفل، لكنّه رفض وعاد إلى القرية ليكمل الضيوف طريقهم.
يروي الحاج داود تلك الحادثة بفخر وحبّ. يأخد رشفة طويلة من كوب شاي أمامه، ويضيف راوياً أنّه بعد 40 عاماً كبر وهاجر إلى الخليج. تنقّل بين الكويت والسعودية. وفي العام 1985 قرّر أن يزور لبنان، في الصيف، عن طريق البرّ. وهكذا كان. وصلا إلى جرجوع بالسيارة وأمضيا شهراً، هو وابن عمّه. وفي طريق العودة من البقاع دخلا الأراضي السورية، متجهَيْن نحو حدود الأردن. وظهراً اشتدّت الحرارة فقرّرا الاستراحة تحت شجرة كبيرة أمام بيت عتيق في مدينة درعا السورية. ركن الحاج داود سيّارته وترجّلا ليتناولا ما خزّناه من طعام للطريق.
اقرأ أيضاً: عن طفلة وُلِدَت مع ذاكرة ثقيلة
"أهلا وسهلا بالضيوف"، قال رجل أطلّ من شرفة بيت مجاور، ودعاهم إلى منزله: "لا نقبل أن تكون استراحتكم خارج الدار، فالديار دياركم"، قال بلياقة أهل الريف. فشكراه واعتذرا عن عدم الدخول بحجّة رغبتهما باستكمال المسير ربحاً للوقت.
لكنّها دقائق وخرج الرجل العجوز حاملاً صينية فواكه وابريق شاي. جلس قربهما ولسانه لم ينقطع عن الترحيب والتأهيل.
حين عرف أنّهما من جنوب لبنان ومن قرية اسمها جرجوع رفع رأسه بتعجّب وسأل: "كيفو حنّا؟". فاستغربا. وأخبراه أنّه توفي. فحزن بعض الشيء وقال: "الله يرحمك يا حنّا. وبو فيصل وأمّ فيصل؟".
هنا شعر الشابان بالصدمة. فهما والدا أحدهما: "من أين تعرفهما؟"، سأله داود. فأخذ الرجل الغريب نفَساً عميقاً وراح يروي عن عشقه لجرجوع وما تركه بيت أبو فيصل عنده من أثر طيب عندما كان يزور البلدة في غابر الزمان بغرض التجارة. وروى لهما كيف أضاع محفظته في بيت أبو فيصل، وكيف لحق به ابنه ليعيدها. فقاطعه الشاب سائلاً: "أتذكر اسم هذا الفتى؟". أغمض العجوز عينيه بضع ثوان، ألحقها بسحبة طويلة من سيجارته وقال: "أخشى أن تخونني ذاكرتي لكن أظنّه يدعى داود".... فصرخ الشاب بحماسة: "أنااا داود".
صرخة واحدة جمعت عشرات السنوات في لحظة واحدة. لحظة الفتى المتعب من ركض ساعة ليعيد محفظة إلى رجل غريب، وصرخة شاب فوجئ بمن أعاد إليه محفظته أمامه في مكان غريب بعد 40 عاماً، وصرخة الحاج داود، في آخر أيّامه، وهو يتذكّر تلك الحادثة، وصرخة كاتب هذه السطور، كلّما أعاد رواية هذه القصّة.
اقرأ أيضاً: شروط برنامج ساخر
ابن مختار البلدة، حين كان عمره 10 أعوام فقط، في أوائل أربعينيّات القرن الماضي، كان ينتظر في صيف كلّ عام هؤلاء التجار السوريين وقافلة البغال والحمير المحمّلة بالحبوب والبقول آتية من جبل حوران ودرعا إلى قرى وبلدات إقليم التفّاح جنوب لبنان. قوافل تعبر العرقوب ووادي التيم فمرجعيون ثم الوادي الأخضر لتصل إلى جرجوع.
كانت القافلة تصل ساحةَ البلدة صباحاً. يأخذ كلّ تاجر زاوية، يعقل دابّته ويرتّب بضاعته، ينتظر بعدها وصول أهالي البلدة. ولأنّ الشراء يحتاج إلى دقّة في الكيل والميزان ودفع النقود، كان لا بدّ من انتداب شخص يثق به الأهالي والتجار. وكان "حنّا سعد"، لأنّه يقرأ ويكتب ويعرف بالكيل والمحاسبة.
يقترب المغيب، يقفل سوق البيع والشراء، يعود الهدوء إلى المكان، ولأنّ والده مختار البلدة بيتهم قريب إلى الساحة، كان يستضيف الزوّار. يستريحون من عناء السفر وتعب النهار، ويبيتون ليلهم ليرحلوا بالصباح التالي. كان البيت غرفة واحدة تكاد لا تتّسع للعائلة. كانت الزوجة تفرش على المصطبة والشرفة. وذات مرّة، بعد مغادرتهم، وبينما كانت ترتّب المصطبة وتلملم الفرش، وإذ تجد محفظة. بسرعة البرق أمرت ابنها أن يلحق القافلة ناحية الوادي، وأن يسلك طريقاً مختصرة: "عرّف بنفسك، واسألهم: هل فقد أحدكم في بيتنا شيئاً، وحين يصف المحفظة أعِدها إليه"، قالت.
وضع الطفل المحفظة بجيبه وركض ساعة. وصل، رمى التحية، ونفّذ الوصية. ضرب أحدهم يده على زنّاره وقال: "محفظتي". فأجابه: "لا تقلق وجدناها وها هي".
بدا على وجه التاجر ارتياح وفرح شديدان. سأله مرّة ثانية عن اسمه، فتح المحفظة وأخذ منها خمس ليرات قدّمها إلى الطفل، لكنّه رفض وعاد إلى القرية ليكمل الضيوف طريقهم.
يروي الحاج داود تلك الحادثة بفخر وحبّ. يأخد رشفة طويلة من كوب شاي أمامه، ويضيف راوياً أنّه بعد 40 عاماً كبر وهاجر إلى الخليج. تنقّل بين الكويت والسعودية. وفي العام 1985 قرّر أن يزور لبنان، في الصيف، عن طريق البرّ. وهكذا كان. وصلا إلى جرجوع بالسيارة وأمضيا شهراً، هو وابن عمّه. وفي طريق العودة من البقاع دخلا الأراضي السورية، متجهَيْن نحو حدود الأردن. وظهراً اشتدّت الحرارة فقرّرا الاستراحة تحت شجرة كبيرة أمام بيت عتيق في مدينة درعا السورية. ركن الحاج داود سيّارته وترجّلا ليتناولا ما خزّناه من طعام للطريق.
اقرأ أيضاً: عن طفلة وُلِدَت مع ذاكرة ثقيلة
"أهلا وسهلا بالضيوف"، قال رجل أطلّ من شرفة بيت مجاور، ودعاهم إلى منزله: "لا نقبل أن تكون استراحتكم خارج الدار، فالديار دياركم"، قال بلياقة أهل الريف. فشكراه واعتذرا عن عدم الدخول بحجّة رغبتهما باستكمال المسير ربحاً للوقت.
لكنّها دقائق وخرج الرجل العجوز حاملاً صينية فواكه وابريق شاي. جلس قربهما ولسانه لم ينقطع عن الترحيب والتأهيل.
حين عرف أنّهما من جنوب لبنان ومن قرية اسمها جرجوع رفع رأسه بتعجّب وسأل: "كيفو حنّا؟". فاستغربا. وأخبراه أنّه توفي. فحزن بعض الشيء وقال: "الله يرحمك يا حنّا. وبو فيصل وأمّ فيصل؟".
هنا شعر الشابان بالصدمة. فهما والدا أحدهما: "من أين تعرفهما؟"، سأله داود. فأخذ الرجل الغريب نفَساً عميقاً وراح يروي عن عشقه لجرجوع وما تركه بيت أبو فيصل عنده من أثر طيب عندما كان يزور البلدة في غابر الزمان بغرض التجارة. وروى لهما كيف أضاع محفظته في بيت أبو فيصل، وكيف لحق به ابنه ليعيدها. فقاطعه الشاب سائلاً: "أتذكر اسم هذا الفتى؟". أغمض العجوز عينيه بضع ثوان، ألحقها بسحبة طويلة من سيجارته وقال: "أخشى أن تخونني ذاكرتي لكن أظنّه يدعى داود".... فصرخ الشاب بحماسة: "أنااا داود".
صرخة واحدة جمعت عشرات السنوات في لحظة واحدة. لحظة الفتى المتعب من ركض ساعة ليعيد محفظة إلى رجل غريب، وصرخة شاب فوجئ بمن أعاد إليه محفظته أمامه في مكان غريب بعد 40 عاماً، وصرخة الحاج داود، في آخر أيّامه، وهو يتذكّر تلك الحادثة، وصرخة كاتب هذه السطور، كلّما أعاد رواية هذه القصّة.
اقرأ أيضاً: شروط برنامج ساخر