صفقة "إس 400" بين تركيا وروسيا: أهداف وهواجس

08 اغسطس 2017
تبلغ صفقة "إس 400" 2.5 مليار دولار (ميخائيل جاباريدز/Getty)
+ الخط -

أثارت تصريحات المسؤولين الأتراك والروس حول التوقيع المبدئي لصفقة شراء أنقرة نظام "إس 400" الدفاعي الصاروخي الروسي، الكثير من التساؤلات، بدءاً من علاقة تركيا بحلف شمال الأطلسي، بما تشكله هذه الصفقة من خرق كبير لنظام التسليح التركي المعتمد على الغرب، والتي كان من الممكن أن تؤدي إلى انقلاب في تركيا لو أنها تمت في خضم الحرب الباردة، وصولاً إلى موقع الجمهورية التركية برمتها من الناحية الجيوسياسية، وعلاقتها المتنامية مع العدو التقليدي للكتلة الغربية التي تنتمي لها، ممثلاً بالوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي، أي روسيا.

ومنذ انضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلسي في العام 1952، والكتلة الغربية عموماً بعد الحرب العالمية الثانية لمخاوفها من الطموحات التوسعية للاتحاد السوفييتي في شرق الأناضول في عهد ستالين، تم بناء استراتيجية الدفاع الجوي التركي فقط لمواجهة القاذفات السوفييتية الاستراتيجية خلال الحرب الباردة، معتمدة على صواريخ أرض- جو من طراز "إم أي إم 14 نايك هرقل" الغربية، إضافة إلى استخدام المقاتلات الأميركية الصنع من طراز "فانتوم". لكن بعد انتهاء حرب الخليج في العام 1991، واستخدام العراق، في عهد صدام حسين، لصواريخ "سكود"، بدت الفجوة الدفاعية التركية أكثر وضوحاً، لتبدأ أنقرة بعدها بمحاولة الحصول على نظام دفاعي، رغم أن لديها أنظمة مختلفة لمواجهة الأهداف القصيرة والمتوسطة المدى، لكنها تعتمد بشكل كبير على المقاتلات لمواجهة الصواريخ البعيدة المدى، ليتزايد القلق التركي في بداية القرن الحالي، بعد التطور الكبير الذي حققته إيران في إنتاج الصواريخ البعيدة المدى، ما دفع أنقرة إلى إنشاء برنامج لتصنيع صواريخ وأنظمة دفاع صاروخية بعيدة المدى.

وكانت أولى الخطوات التركية في العام 2007، عندما تم الإعلان عن مناقصة لشراء نظام دفاعي صاروخي، تقدمت له شركات من الصين وروسيا والولايات المتحدة، إضافة إلى شركة "يوروسام" الإيطالية الفرنسية، لتعلن أنقرة في 2012، حصول الشركة الصينية على المناقصة، ما أثار ردود فعل غربية ساخطة، دفعت أنقرة إلى إلغاء الصفقة في وقت لاحق، مبررة ذلك بأن شركة استيراد وتصدير الصناعات الدقيقة الصينية(CPMIEC) غير راغبة في تنفيذ الشرط التركي بتوطين تكنولوجيا الصواريخ، وكذلك للحفاظ على الشركات التركية التي ستتعاون مع الشركة الصينية في عملية التصنيع والموضوعة على القائمة السوداء الأميركية، ما أدى إلى إلغاء الصفقة بشكل نهائي في 2015.

في مواجهة ذلك، وبعد المحاولة الانقلابية الفاشلة منتصف يوليو/تموز من العام الماضي، تم فتح الملف مرة أخرى، ولكن باتباع استراتيجية مختلفة تقوم على قسمة الملف إلى قسمين، الأول يقوم على شراء منظومة "إس 400" الروسية لمواجهة التحديات الراهنة، بعد خيبة الأمل التركية الكبيرة إثر قيام بعض الدول بسحب بطاريات "باتريوت" التي تم نقلها من قبل حلف شمال الأطلسي إلى الحدود الجنوبية التركية لمواجهة التهديد الصاروخي القادم من قبل النظام السوري. أما القسم الثاني فيقوم على برنامج طويل الأمد، من المقرر تحقيقه بحلول العام 2025، ويهدف إلى إنتاج أنقرة لنظامها الدفاعي الخاص بالتعاون مع الحلفاء الغربيين، في شركة "يوروسام"، والذي تم توقيعه الشهر الماضي، وذلك بينما حققت الشركات الدفاعية التركية، أخيراً، بعض التقدم في تطوير أنظمة صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى.



ولم تمر أخبار الصفقة التركية الروسية دون ردود فعل أميركية غاضبة، الأمر الذي بدا واضحاً من خلال تصريحات رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، الجنرال جوزيف دانفورد، في 23 يوليو/تموز الماضي، في منتدى أمني في ولاية كولورادو الأميركية، عبر قوله "لم تأخذ (تركيا) بعد نظام إس 400 الدفاعي الصاروخي من روسيا، ومن شأن ذلك أن يكون مصدر قلق لدينا، لأنهم عازمون على فعل ذلك، لكنهم لم يفعلوا ذلك بعد"، مشيراً إلى استحالة ربط نظام "إس 400" بشبكة حلف شمال الأطلسي. لم تعلق روسيا على تصريحات دانفورد، لكن الرد التركي كان قاسياً، إذ أكد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن الولايات المتحدة الأميركية لم تساعد تركيا أبداً في الحصول على نظام دفاعي صاروخي، الأمر الذي يعد حاجة عاجلة بالنسبة إلى أنقرة، لذلك كان على أنقرة أن تبحث عن بدائل، وأن توقع اتفاقاً مبدئياً مع روسيا. وبحسب تقرير لموقع "بلومبيرغ" الأميركي، فإن قيمة صفقة "إس 400" ستبلغ 2.5 مليار دولار، وتتضمن نقلاً جزئياً للتكنولوجيا إلى أنقرة. ورغم تبرير الأتراك الصفقة مع روسيا بتملك اليونانيين لنظام "إس 300" الدفاعي، إلا أن حصول أثينا على النظام ونقله إلى جزيرة كريت كان في إطار حل ما تم الاصطلاح على تسميته بالأزمة الصاروخية القبرصية، إثر قيام القبارصة اليونانيين بشراء نظام "إس 300" الصاروخي الروسي في العام 1997، ما أدى إلى توتر كبير في الجزيرة، ودفع تركيا للتهديد بتوجيه ضربات استباقية للقبارصة اليونانيين بمجرد وصول المنظومة إلى الجزيرة.

ويبدو الخبراء الأمنيون الأتراك منقسمين حول جدوى استيراد نظام "إس 400". وبينما يرى البعض أن النظام الدفاعي الروسي سيمنح أنقرة القدرة على مواجهة الصواريخ البالستية التي يبلغ مداها ألف كيلومتر، وكذلك مراقبة التحركات في الجو بمدى يصل إلى 600 كيلومتر داخل أراضي دول الجوار، ما سيرفع قدرات الردع التركية ويزيد من التفوق التركي في بحر إيجة، يعبر البعض الآخر عن عدم ثقته بإمكانية أن يضيف النظام الروسي الكثير إلى نظام الردع التركي، وخصوصاً أنه لن يكون من الممكن أن يتم ربطه بمنظومة حلف شمال الأطلسي، وكذلك لتشكيك البعض بقيام موسكو بنقل رادارات ذات تقنية عالية إلى تركيا، ما يجعل هذا النظام من دون جدوى في حالة خوض أي حرب لسهولة تدميره، سواء من قبل الكتلة الغربية أو روسيا. ولا يتعلق الأمر بصفقة سلاح فحسب، فهو يحمل أبعاداً أكبر على المستوى الجيواستراتيجي. فعلى الجانب الروسي، يبدو ذلك جزءاً من استراتيجية موسكو لتقويض حلف شمال الأطلسي، وخصوصاً أن العقيدة الروسية، التي تم تحديثها في 2014، حددت الحلف كأحد المخاطر العسكرية الخارجية الرئيسية. وتبدو تركيا، تحت الإدارة الحالية، المرشح الأفضل لدق إسفين وزيادة الشرخ بين أعضائه، أو على الأقل إثارة البلبلة والارتباك بين أعضاء الحلف، المتزايدة أصلاً بسبب الخلافات الأميركية -الأوروبية، حتى لو كان ذلك على حساب صفقة تصدير نظام "إس 400" (التي قد لا تتم أصلاً) الأكثر تطوراً لدى القوات الروسية، والذي لم يتم تصديره بعد حتى لأقرب الحلفاء، بما في ذلك إيران التي لم تحصل إلا على نظام "إس 300" العام الماضي. كما يعول الروس على إمكانية قيام أعضاء حلف شمال الأطلسي برفع أصواتهم مجدداً للتساؤل حول جدوى عضوية الدولة المسلمة الوحيدة في الحلف، أي تركيا، وخصوصاً أن بعض دول الحلف لم تتردد في التعبير مراراً عن "خطيئة" ضم أنقرة للحلف منذ البداية، ما قد يدفع أنقرة لمزيد من الابتعاد عن الأخير. وتمكن الروس والأتراك، في فترة ما بعد الحرب الباردة، من غض النظر عن الخلافات الحادة بينهم حول العديد من المسائل الحيوية، لناحية فصل الملفات والاعتماد على ملفات الاقتصاد والطاقة لتعزيز العلاقات ومنع التصادم، الأمر الذي خرج عن السيطرة بعد قيام سلاح الجو التركي بإسقاط إحدى المقاتلات الروسية العاملة في سورية في 2015، ما أدى إلى أزمة، تم تجاوزها بسرعة كبيرة نسبياً، لتتحول موسكو إلى واحدة من أهم العواصم التي دعمت الإدارة التركية الحالية في مواجهة المحاولة الانقلابية، وذلك في ظل البرود الغربي الواضح الذي قوبلت به المحاولة، وصولاً إلى منح حق اللجوء لمشاركين في المحاولة الانقلابية من أنصار "حركة الخدمة" في الدول الأوروبية، ورفض واشنطن تسليم زعيم "الخدمة"، فتح الله غولن، المتهم الأول بإدارة المحاولة، فيما بدا تواطؤاً غربياً معها، وهو تواطؤ لم يتردد المسؤولون الأتراك في التعبير عنه مراراً، الأمر الذي سمح للتأثير الروسي في تركيا بالنمو بشكل مضطرد.


في مقابل ذلك، ورغم التعاون الروسي المحدود مع قوات حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني)، إلا أن أنقرة تعي تماماً أن هدف روسيا في سورية لن يتجاوز في أي وقت حماية المصالح الاستراتيجية لحليفها، أي النظام السوري الرافض بأي شكل من الأشكال لمنح "العمال الكردستاني" شرعية الاستمرار بالتواجد على أراضيه، ما دفع أنقرة نحو المزيد من التقارب مع موسكو وصولاً للتلويح بورقة كسر نظام تسليحها الغربي، في مواجهة خيبة أملها الكبيرة من قيام حلفائها الغربيين، وخصوصاً واشنطن، بتقديم دعم كبير لقوات حزب الاتحاد الديمقراطي بحجة محاربة تنظيم "داعش"، رغم العروض التركية السخية لمساعدة واشنطن في قتال التنظيم. وبينما تكاد تخلو وسائل الإعلام التركية من أي انتقادات لموسكو في دعمها للنظام السوري، لا يمر يوم دون أن يكون هناك تقرير عن دعم الغرب لعدو الجمهورية الأول، أي حزب العمال الكردستاني في سورية، إذ تشير آخر استطلاعات الرأي التركية إلى أن 18 في المائة من الأتراك يرون روسيا تهديداً للأمن القومي بعد أن كانت نسبتهم 35 في المائة العام الماضي، بينما يرى 66 في المائة من الأتراك أن حليف الجمهورية التقليدي، أي واشنطن، هو التهديد الأكبر للأمن القومي التركي.

وأخيراً، لطالما كان الجيش التركي منقسماً في رؤية المجال الجيواستراتيجي لأنقرة، بين من يرى تركيا دولة أوروآسيوية وبين من يراها تنتمي إلى الكتلة الغربية، الخلاف الذي كان يتصاعد مراراً في كل أزمة، سوى في الأزمة القبرصية بعد التدخل التركي في الجزيرة وما تلاه من حظر أميركي على تصدير السلاح إلى أنقرة، أو خلال الحرب المستمرة منذ الثمانينيات مع حزب العمال الكردستاني وتخاذل الحلفاء في مساعدة تركيا في ضرب الحزب، بل وتقديم الحماية والدعم له، خصوصاً في ألمانيا وبلجيكا وهولندا. لكن يبدو أن الأمور تغيرت هذه المرة، خصوصاً بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة. فللمرة الأولى تنقلب الموازين في الجيش، على ما يبدو، لصالح الضباط المؤمنين بالعقيدة الأوروآسيوية، الذين تسلموا معظم الشواغر التي خلفها الانقلابيون، الذين كان معظمهم من الضباط الموالين لحلف شمال الأطلسي، ما قد يجعل صفقة "إس 400" في حال إتمامها واستمرار واشنطن بسياساتها حيال حزب العمال الكردستاني، أول الخطوات في طريق طويل لانفصال تركيا عن الكتلة الغربية، أو على الأقل إضعاف نفوذ "الأطلسي"، وتحول تركيا، ربما، إلى قوة مستقلة ذات علاقات متوازنة مع كل من روسيا والغرب.