ظلت لـ"القُلَّة" الفخارية مكانتها المهمة في المجتمع المصري لفترة طويلة، أيام كانت الوسيلة الوحيدة للاحتفاظ بالماء البارد في البيوت والمساجد وعلى امتداد الطرق. فكان الناس يضعونها في أيام الصيف الحارة ليشرب منها الظمأى من عابري السبيل. ويكفي "القلّة" أن تُوضع في الظلّ حتّى تتكفّل بمهمة تبريد الماء من تلقاء نفسها.
القُلَّةهي أهم وِحْدة، وأكثرها رواجاً، في مجموعة من الصناعات الفخارية التي تضم "الزير" كذلك. وهو إناء ضخم لتبريد كمية كبيرة من الماء. وهناك "البلاص" الذي يستعمل في الحفاظ على الجبنة المملّحة. كما نعرف "البربخ"، الذي يستعمل بيتاً للأرانب لتحفظ فيها أبناءها. ومن الصناعات الفخارية "الصحفة" أو "الزبدية"، التي تستعمل لوضع الماء أمام الطيور المنزلية التي يربّيها الفلاحون.
القناوي و"قنا"
عادة ما تنسب القُلَلْ الفخارية إلى محافظة قنا، فيقال "القُلَلْ القناوي"، لاشتهار قنا بتلك الصناعة، ومنها كانت السفن النيلية تنقل الآلاف من المنتجات الفخارية إلى القاهرة والمحافظات. وعلى الرغم من زحف المدنية وتنازل المواطنين عن استخدام تلك الأدوات الفخارية، إلا أنّ بعض القرى لا يزال بعض اهلها متخصصين في صناعتها. من تلك القرى "كفر البلاص". وكما هو واضح فإنّ في الاسم إشارة إلى منتج "البلاص" الفخاري، الذي يعدّ من أساسيات المطبخ الصعيدي.
الفواخرجي أو الفخراني
يسمّى صانع تلك المنتجات "الفواخرجي" أو "الفخراني"، نسبة إلى الفخّار. كما يمكن أن يكون اسه "القُلَلِي". وتيمّنا بهذه المهنة يُسمّى واحد من الأحياء القديمة في مدينة القاهرة. فهذه واحدة من أقدم الصناعات التي عرفها الإنسان. وباستثناء العجلة (الراحونة) التي تساعد "الفواخيرغي" (باللهجة المصرية) يبدو أنّ طريقة الصناعة هي ذاتها المستخدمة قديماً في مصر الفرعونية قبل عصر الأسرات. ويقال إنّ عجلة الفخار عرفت في عصر الأسرة الأولى، ويذهب باحثون آخرون إلى أنّها عُرفت منذ عهد الأسرة الرابعة.
اقرأ أيضاً: حين يرقص النوبيون: جمال وتفاؤل
تتوارث بعض الأسر هذه المهنة، تماماً كعادة الحرف الشعبية، التي تقوم على العمل فيها النساء والرجال معاً. وإن كان يُقال إنّ "لكلّ شيخ طريقة". فهناك مثلاً في واحة سيوة من يقوم بعجن الطين وتشكيل الآنية ثم يتركها لتجف لمدّة يوم واحد، بعدها يزخرفها بالحنّاء، ثم يلقيها في "ركية" النار لمدّة ربع ساعة، قبل أن تصبح جاهزة للاستعمال.
طرق مختلفة
وهناك طريقة أخرى تنتشر في الفيوم، حيث يوضع الطمي في حفرة، وينقّى من الحصى والمواد الصلبة، ثم بعدها يُضاف إليه بعض الماء وبعض التبن، وفقاً لمقدار يعرفونه، من أجل تقوية الطين والتقليل من لزوجته. ثم يعجن بالأرجل، حتّى يصبح الطين قابلاً للتشكيل. وفي النهاية تؤخذ قطعة صغيرة من الطين المعجون، بالمقدار الذي يصنع قُلّة، ويبدأ الفواخرجي بتشكيلها يدوياً. بعدها يقوم بمسح سطح الآنية بيد مبلّلة ليزيد من نعومتها، ويقلل من قابليتها لنفاذ السوائل عبر قشرتها. ثم تجفّف الأواني الفخارية في الشمس لمدّة يومين أو أكثر، قبل أن تدخل إلى الفرن لتحرق بشكل نهائي.
الرقبة الطويلة
من فنيات صناعة "القلة" أنه يوجد فاصل بين جسم القلّة المنتفخ وبين رقبتها الطويلة، يسمّى "شباكاً". وهو عبارة عن مجموعة من الفتحات الصغيرة، الهدف منها حفظ الماء من الحشرات والأقذار، فضلاً عن التهوية اللازمة لتنظيم تدفق الماء أثناء الشرب.
وقد تفنّن الحرفيون قديماً في تشكيل تلك الشبابيك. كذلك اهتم الأثريون بدراستها وتصنيفها والتأريخ لها، وفي المتاحف المصرية نماذج عديدة وجميلة من تلك الشبابيك.
يرى المستشرق "بير ألمر" أنّ غير المنتظم من ثقوب تلك الشبابيك يرجع إلى عصر الدولة الطولونية، كما أنّ عصر الفاطميين امتاز برسوم الحيوانات والطيور والشخوص الآدمية، بينما وجدت كتابات بخط النسخ ترجع إلى العصر الأيوبي، وامتاز العصر المملوكي بالرسوم الهندسية الدقيقة.
في الأغنيات المعاصرة
ينتشر ذكر "القُلَلْ" في التراث الشعبي والغنائي، فكان سيّد درويش يغني من تأليف بديع خيري:
مليحة قوي القلل القناوي
رخيصة قوي القلل القناوي
قرب حدانا وخد قلتين
خسارة قرشك وحياة ولادك
ع اللي ماهواش من طين بلادك.
وهي من أغنيات المقاومة، التي تدافع عن الصناعات المحلية في مواجهة المنتجات الحديثة التي جاء بها المستعمر البريطاني وأغرى بها الناس. بينما تشير أغنية "البحر بيضحك ليه.. وانا نازلة اتدلع أملي القلل؟" إلى عادة شعبية، إذ كانت الفتيات يجتمعنَ ويحملنَ الجرار على رؤوسهنّ ويذهبنَ إلى ضفاف نهر النيل ليملأنها بالماء. فالجرار والقلل كانت وسيلة نقل المياه الوحيدة إلى البيوت. والعبارة المذكورة هي المقطع الذي يتكرّر في أغنية ذات إسقاطات سياسية كتبها الشاعر المشاغب، نجيب سرور، وغنّاها المطرب، الشيخ إمام، وفيها يقول:
مساكين بنضحك م البلوه
زي الديوك والروح حلوه
سارقاها م السكين حموه
ولسه جوّه القلب أمل
والبحر بيضحك ليه
وانا نازلة اتدلع أملي القلل؟
قُلَلْنا فخّارها قناوي
بتقول حكاوي وغناوي
يا قلّة الذل أنا ناوي
ما اشرب ولو في الميّة عسل".
كسر القُلّة
وتحفظ العقلية الشعبية للقلّة دوراً مهماً في السلوك الانفعالي. فبعض الناس يكسرون القلة خلف الضيف الثقيل. وهي عادة فرعونية، إذ كانوا يكسرون القلّة والأواني الفخارية في جنائز الموتى وعلى قبورهم، خوفاً من عودة الروح مرّة أخرى إلى منزل المتوفى. وهي عودة قد تسبّب ضرراً للأحياء من سكان الدار. وتسمّى الأجزاء المكسورة من القلة أو الجرة "شُقف" (جمع شقفة) وبها تسمّت مقابر "كوم الشقافة" في مدينة الإسكندرية بمصر، وذلك نسبة إلى تلك "الشقف" التي كسروها خلف الجنائز وعلى القبور.
اقرأ أيضاً: تامكروت المغربية... إبداع الفخّار الأخضر
القُلَّةهي أهم وِحْدة، وأكثرها رواجاً، في مجموعة من الصناعات الفخارية التي تضم "الزير" كذلك. وهو إناء ضخم لتبريد كمية كبيرة من الماء. وهناك "البلاص" الذي يستعمل في الحفاظ على الجبنة المملّحة. كما نعرف "البربخ"، الذي يستعمل بيتاً للأرانب لتحفظ فيها أبناءها. ومن الصناعات الفخارية "الصحفة" أو "الزبدية"، التي تستعمل لوضع الماء أمام الطيور المنزلية التي يربّيها الفلاحون.
القناوي و"قنا"
عادة ما تنسب القُلَلْ الفخارية إلى محافظة قنا، فيقال "القُلَلْ القناوي"، لاشتهار قنا بتلك الصناعة، ومنها كانت السفن النيلية تنقل الآلاف من المنتجات الفخارية إلى القاهرة والمحافظات. وعلى الرغم من زحف المدنية وتنازل المواطنين عن استخدام تلك الأدوات الفخارية، إلا أنّ بعض القرى لا يزال بعض اهلها متخصصين في صناعتها. من تلك القرى "كفر البلاص". وكما هو واضح فإنّ في الاسم إشارة إلى منتج "البلاص" الفخاري، الذي يعدّ من أساسيات المطبخ الصعيدي.
الفواخرجي أو الفخراني
يسمّى صانع تلك المنتجات "الفواخرجي" أو "الفخراني"، نسبة إلى الفخّار. كما يمكن أن يكون اسه "القُلَلِي". وتيمّنا بهذه المهنة يُسمّى واحد من الأحياء القديمة في مدينة القاهرة. فهذه واحدة من أقدم الصناعات التي عرفها الإنسان. وباستثناء العجلة (الراحونة) التي تساعد "الفواخيرغي" (باللهجة المصرية) يبدو أنّ طريقة الصناعة هي ذاتها المستخدمة قديماً في مصر الفرعونية قبل عصر الأسرات. ويقال إنّ عجلة الفخار عرفت في عصر الأسرة الأولى، ويذهب باحثون آخرون إلى أنّها عُرفت منذ عهد الأسرة الرابعة.
اقرأ أيضاً: حين يرقص النوبيون: جمال وتفاؤل
تتوارث بعض الأسر هذه المهنة، تماماً كعادة الحرف الشعبية، التي تقوم على العمل فيها النساء والرجال معاً. وإن كان يُقال إنّ "لكلّ شيخ طريقة". فهناك مثلاً في واحة سيوة من يقوم بعجن الطين وتشكيل الآنية ثم يتركها لتجف لمدّة يوم واحد، بعدها يزخرفها بالحنّاء، ثم يلقيها في "ركية" النار لمدّة ربع ساعة، قبل أن تصبح جاهزة للاستعمال.
طرق مختلفة
وهناك طريقة أخرى تنتشر في الفيوم، حيث يوضع الطمي في حفرة، وينقّى من الحصى والمواد الصلبة، ثم بعدها يُضاف إليه بعض الماء وبعض التبن، وفقاً لمقدار يعرفونه، من أجل تقوية الطين والتقليل من لزوجته. ثم يعجن بالأرجل، حتّى يصبح الطين قابلاً للتشكيل. وفي النهاية تؤخذ قطعة صغيرة من الطين المعجون، بالمقدار الذي يصنع قُلّة، ويبدأ الفواخرجي بتشكيلها يدوياً. بعدها يقوم بمسح سطح الآنية بيد مبلّلة ليزيد من نعومتها، ويقلل من قابليتها لنفاذ السوائل عبر قشرتها. ثم تجفّف الأواني الفخارية في الشمس لمدّة يومين أو أكثر، قبل أن تدخل إلى الفرن لتحرق بشكل نهائي.
الرقبة الطويلة
من فنيات صناعة "القلة" أنه يوجد فاصل بين جسم القلّة المنتفخ وبين رقبتها الطويلة، يسمّى "شباكاً". وهو عبارة عن مجموعة من الفتحات الصغيرة، الهدف منها حفظ الماء من الحشرات والأقذار، فضلاً عن التهوية اللازمة لتنظيم تدفق الماء أثناء الشرب.
وقد تفنّن الحرفيون قديماً في تشكيل تلك الشبابيك. كذلك اهتم الأثريون بدراستها وتصنيفها والتأريخ لها، وفي المتاحف المصرية نماذج عديدة وجميلة من تلك الشبابيك.
يرى المستشرق "بير ألمر" أنّ غير المنتظم من ثقوب تلك الشبابيك يرجع إلى عصر الدولة الطولونية، كما أنّ عصر الفاطميين امتاز برسوم الحيوانات والطيور والشخوص الآدمية، بينما وجدت كتابات بخط النسخ ترجع إلى العصر الأيوبي، وامتاز العصر المملوكي بالرسوم الهندسية الدقيقة.
في الأغنيات المعاصرة
ينتشر ذكر "القُلَلْ" في التراث الشعبي والغنائي، فكان سيّد درويش يغني من تأليف بديع خيري:
مليحة قوي القلل القناوي
رخيصة قوي القلل القناوي
قرب حدانا وخد قلتين
خسارة قرشك وحياة ولادك
ع اللي ماهواش من طين بلادك.
وهي من أغنيات المقاومة، التي تدافع عن الصناعات المحلية في مواجهة المنتجات الحديثة التي جاء بها المستعمر البريطاني وأغرى بها الناس. بينما تشير أغنية "البحر بيضحك ليه.. وانا نازلة اتدلع أملي القلل؟" إلى عادة شعبية، إذ كانت الفتيات يجتمعنَ ويحملنَ الجرار على رؤوسهنّ ويذهبنَ إلى ضفاف نهر النيل ليملأنها بالماء. فالجرار والقلل كانت وسيلة نقل المياه الوحيدة إلى البيوت. والعبارة المذكورة هي المقطع الذي يتكرّر في أغنية ذات إسقاطات سياسية كتبها الشاعر المشاغب، نجيب سرور، وغنّاها المطرب، الشيخ إمام، وفيها يقول:
مساكين بنضحك م البلوه
زي الديوك والروح حلوه
سارقاها م السكين حموه
ولسه جوّه القلب أمل
والبحر بيضحك ليه
وانا نازلة اتدلع أملي القلل؟
قُلَلْنا فخّارها قناوي
بتقول حكاوي وغناوي
يا قلّة الذل أنا ناوي
ما اشرب ولو في الميّة عسل".
كسر القُلّة
وتحفظ العقلية الشعبية للقلّة دوراً مهماً في السلوك الانفعالي. فبعض الناس يكسرون القلة خلف الضيف الثقيل. وهي عادة فرعونية، إذ كانوا يكسرون القلّة والأواني الفخارية في جنائز الموتى وعلى قبورهم، خوفاً من عودة الروح مرّة أخرى إلى منزل المتوفى. وهي عودة قد تسبّب ضرراً للأحياء من سكان الدار. وتسمّى الأجزاء المكسورة من القلة أو الجرة "شُقف" (جمع شقفة) وبها تسمّت مقابر "كوم الشقافة" في مدينة الإسكندرية بمصر، وذلك نسبة إلى تلك "الشقف" التي كسروها خلف الجنائز وعلى القبور.
اقرأ أيضاً: تامكروت المغربية... إبداع الفخّار الأخضر