صناعة التديّن.. بحثاً عن إسلام مغربي

09 سبتمبر 2019

مغاربة يؤدون صلاة عيد الفطر قرب الرباط (18/7/2015/الأناضول)

+ الخط -
أطلق المغرب؛ عقب اعتداءات الدار البيضاء عام 2003، مشروع إصلاح الحقل الديني وإعادة هيكلته، ببلورة سياسةٍ دينية جديدة، تعيد صياغة، أو بالأحرى صناعة، التدين المغربي على ضوء المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني. وحدّد الخطاب الملكي في 30 أبريل/ نيسان 2004 الأركان الثلاثة لهذا الإصلاح، المؤسساتي المرتبط بالهيئات التي تتولى مهمة المرفق العمومي في المجال الديني، والتأطيري الرامي إلى إعادة تنظيم المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية، والتعليمي والتربوي المتعلق بإنشاء مديرية خاصة للمدارس العتيقة.
تولت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مهام تنزيل هذا الإصلاح الهيكلي، في مجالٍ يتّسم بحساسية مفرطة لدى غالبية المغاربة، فالإسلام الشعبي المغربي يجمع، في توليفة فريدة ومتنوعة، مزيجا من التصورات الدينية والطقوسية والشعائرية، توارثها المغاربة وتعايشوا معها قرونا. نقيض النمطية التي يرمى هذا الإصلاح تكريسها، من خلال التمكين لفرقة صوفية بعينها؛ بعد تعيين الوزير أحمد توفيق على رأس الوزارة منذ 17 سنة، على حساب باقي الأطياف الفاعلة في الحقل الديني في المغرب.
واعتمدت الوزارة مداخل متعدّدة (التعليم، الإعلام، الثقافة، الدبلوماسية..) من أجل بسط سيطرتها على الشأن الديني الذي كان، عبر التاريخ، محط صراع بين السلطة المركزية 
(الإسلام الرسمي) وعامة الناس (الإسلام الشعبي). ما أدى إلى تشكيل ثنائية "الحقل الديني الرسمي" في مقابل "الحقل الديني المضاد"، الذي اختلفت مكوناته باختلاف السياسات التي تبنّتها الدولة، ففي عهد الراحل الحسن الثاني، شهدت هذه السياسة تغييراتٍ عدة، وفق ما يقتضيه السياق السياسي الداخلي، بدأت بدعم توجه معين لمواجهة الناصرية في الستينيات، ثم احتواء الإسلام للتصدّي للمد اليساري والفكر الشيعي بعد الثورة في إيران، وأخيرا استيراد السلفية الوهابية من المشرق لوقف زحف الإسلام السياسي.
في غمرة الاحتفال بالذكرى العشرين لعيد العرش، أصدرت الوزارة الوصية كتابا خاصا بالمناسبة، حمل عنوان "عشرون سنة من العهد المحمدي الزاهر (1999 - 2019)". تستعرض في محاوره الستة أهم ما ميز الشأن الديني المغربي في ظل حكم الملك محمد السادس. مشيدة بالجهود الاستثنائية المبذولة في هذه الورش الإصلاحية التي غطت سائر القطاعات الدينية (المساجد، الأوقاف، المجالس العلمية، دار الحديث الحسنية، رابطة العلماء، مجلس أوروبي لعلماء المغرب، التعليم العتيق، الإرشاد الديني، الخطابة، هيئة الإفتاء، الإعلام الديني ..) في تناغم واتساق أديا إلى إحداث تحول نوعي غير مسبوق. وقد سعى مهندسو الإصلاح إلى استعادة المجال الديني المغربي لمحتواه التاريخي، بكل أبعاده العقدية والفقهية والسلوكية، فالوعي بالخصوصية، في نظر هؤلاء، كان حتى زمن قريب محدودا جدا. وكانت الإحالة دائما، عند الحديث عن الخصوصية المغربية، على المذهب المالكي فقط. وتجسّد مشروع الاستعادة، بحسب الكتاب، في التشديد على اقتفاء أثر المذهب المالكي في العبادات، وتتبع البدع والخروق المذهبية ومحاربتها في أماكن العبادة، والعمل على إحياء الحركة
 الصوفية، ودفعها نحو المبادرة العملية في المجالات المختلفة.
وشكلت استعادة التدين التاريخي المغربي خطوة كبيرة في مسار تشكيل خصوصية دينية مغربية، يراها أصحاب الإصلاح أفضل وسيلةٍ لإنتاج خطاب ديني، يستوعب واقع الحياة المعاصرة، يمكن التسلح به من أجل حماية الأمن الروحي للمغاربة، في عصر العولمة والثورة التكنولوجية، حيث الفوضى والعشوائية والقصف الإعلامي هو السائد في المجال الديني.
حظيت مساعي صناعة نموذج ديني مغربي خاص بالإشادة والقبول دوليا، باعتبار أن ما أقدم عليه تجربة نوعية في العالم العربي والإسلامي تذكّر بتجارب الإصلاح الديني في أوروبا. ولكن المساعي وحدها لا تكفي؛ فالنجاح في التنظيم الشكلي للحقل الديني، بما يعنيه ذلك من هيكلة لمختلف المرافق ذات الصلة بهذا الشأن، وبلورة سياسة دينية شاملة لمختلف زوايا الحقل الديني، لا يضمنان إطلاقا النتائج نفسها والأثر نفسه في أوساط المجتمع. ولنا في الواقع المغربي، بعد مضي 15 سنة على انطلاق الإصلاح، أكثر من حجة ودليل.
أولا: أدّت رغبة الدولة في بسط سيطرتها على الحقل الديني إلى فقدان ممثليه استقلاليتهم، ما انعكس بالضرورة على مصداقية الخطاب الديني الذي ينتجه فقهاء السلطة، بمختلف مراتبهم؛ علماء وفقهاء ووعاظا، فسعي الدولة المحموم وراء الضبط والتقييد، بتعيين الأئمة وعزلهم وتوحيد الخطب، بل وتسييسها في أحيان كثيرة، أدى إلى توسيع دائرة التوجس لدى شريحة واسعة من المجتمع المغربي، ممن فقدت ثقتها في كل شيء يأتي من جهة الدولة. ما أفضى إلى انتشار التوجهات السلفية في أوساط المغاربة، وفق ما كشفت عنه تقارير عديدة عن الشأن الديني في المغرب، ودفع كثيرين إلى تلقي الفتوى مباشرة من القنوات الفضائية والشيوخ المستقلين وغيرها من المسالك غير الرسمية.
ثانيا: جاءت هيكلية الحقل الديني بالأساس من أجل تجفيف منابع العنف في أوساط المجتمع المغربي، بعد اعتداءات الدار البيضاء، لكنها لم تنجح في محاصرة انتشار الفكر المتطرّف، فالتقرير الصادر عن المكتب المركزي للأبحاث القضائية؛ وهو جهاز أمني متخصص في مواجهة الجريمة الإرهابية، يفيد بأن الإجراءات الوقائية والاستباقية التي قام بها منذ عام 
2002 مكّنته من تفكيك 183 خلية، سعت إلى القيام باعتداءات في المملكة، نتج عنها اعتقال أكثر من 3129 شخصا، 292 منهم لهم سجل إجرامي. كما حالت تدخلاته الناجحة دون وقوع 361 عملا تخريبيا.
ثالثا: لا تعزّز الأرقام الخاصة بأصول المقاتلين في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في بؤر التوتر كثيرا ما يروّجه المغرب بشأن نموذجه الديني، فبعد سنوات من المراجعات الجذرية للسياسة الدينية في البلاد، وجد نفسه ضمن الدول المصدرة للمتطرّفين في العالم، فقد احتل المرتبة السابعة في صفوف الدول المصدرة للمقاتلين، بحسب "مؤشر الإرهاب العالمي" لعام 2017، كما أن معظم منفذي الهجمات والاعتداءات في دول أوروبية من أصول مغربية. وتعد واقعة الاعتداء، أواخر العام الماضي، على سائحتين اسكندنافيتين في منطقة قروية نواحي مراكش، في سابقةٍ من نوعها في تاريخ التطرّف في المغرب، خير شاهد على أن الإصلاح الجذري للشأن الديني في المملكة جاء بنتائج عكسية، بسبب غلو الدولة في تنفيذه، حيث طمس معالم "الإسلام الشعبي" (التديّن التقليدي) لصالح فرض "إسلام رسمي" ترعاه الدولة. ولكن المغاربة ينفرون منه نحو اعتناق أنماط جديدة من التديّن (السلفية، التشيع، الأحمدية..)، وأحيانا ديانات أخرى (المسيحية، الإلحاد..).
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري