تُمثِّل التجربة النرويجية أحد المحاور الهامة التي يجب الوقوف عندها لاستخلاص العِبر، خاصة من قبل الدول النفطية التي تواجه تدهوراً في ميزان مدفوعاتها وارتفاع عجزها المالي كُلّما سجّل برميل النفط تراجُعاً ملموساً، كما هو حال أسواق الطاقة العالمية حالياً.
فالنرويج أصبحت واحدة من أغنى البلدان في العالم، وذلك من خلال بنائها نموذجاً فكرته تتلخص في توفير المال الذي تمتلكه من عائدات النفط، في وقت تنفق دول عديدة أخرى، وبسخاء شديد، المال المتأتي من الإيرادات النفطية الضخمة المحققة سنوياً.
مملكة النرويج هي إحدى الدول الإسكندنافية التي تقع أقصى الشمال الغربي لأوروبا، وتعتبر خامس أكبر مُصدّر للنفط وثالث أكبر مُصدّر للغاز في العالم. ورغم ذلك، فإن صادراتها من النفط والغاز لا تشكل أكثر من 20% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا يعكس مدى تنوع مصادر الدخل الحقيقي في بلد عدد سكانه خمسة ملايين نسمة تقريباً.
أدركت النرويج مبكراً أن اقتصادها لن يستفيد بتاتاً من إطلاق العنان لعائدات النفط في اجتياح بلادها، على طريقة تسونامي، لتتسبب في تدمير قطاعات اقتصادية غير نفطية، وإحداث صدمات اقتصادية ناجمة عن تذبذبات أسعار النفط. لذلك، سعت النرويج إلى وضع ما يقرب جميع إيراداتها النفطية التي جنتها منذ عام 1990 في حساب أُطلق عليه "صندوق النفط"، فحققت وفورات متنامية ضخمة بلغت قيمتها اليوم نحو 850 مليار دولار، حيث يُعد من أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم.
ولهذا الصندوق فضل كبير في تجنيب النرويج "لعنة النفط" التي يعاني منها العديد من الدول الأخرى الغنية بالموارد، وخاصة في دول العالم النامي، ما جنّبها الإصابة بما سمي "المرض الهولندي" في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، حين أدى ارتفاع عائدات هولندا الهائلة من النفط إلى تضخم العملة المحلية، وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، ما دمّر الصادرات ورفع من مُعدل البطالة في حينها.
وتقوم الحكومة النرويجية بسحب كمّية صغيرة من أموال الصندوق، وبنسبة لا تتجاوز 4% سنوياً، كي تنفقه على تدعيم ميزانياتها العامة فقط، إذ لا يُسمح للصندوق السيادي بالاستثمار في النرويج خشية حدوث تضخم مُدمِّر. في حين يتم استخدامه لدعم الصناعات المحلية وتنمية صناعات جديدة مُستدامة، تُسهم في جعل الشركات غير النفطية أكثر قُدرة على المنافسة عالمياً. وكانت نتيجة تلك السياسات الاقتصادية أن انخفض تأثُّر الاقتصاد النرويجي بتقلُّبات أسعار النفط، وضُبط التضخُّم، وتكوّن احتياطي نقدي كبير في "صندوق النفط."
وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية، اعتبر المصرفيون العُملة النرويجية، الكرونة، إحدى أكثر العُملات ثباتاً في العالم. فقد أثبتت الأزمة المالية العالمية نجاح التجربة النرويجية. فحينما كان أفراد دول الجوار يقضون أوقاتاً عصيبة جرّاء تراجُع الأداء الاقتصادي، كان النرويجيون يتمتّعون بمستوى معيشة مُرتفع، وهو ما يُفسّر إجراء زيادات مستمرة على الأجور من قِبل الحكومة النرويجية على عكس دول أُخرى قامت بتقليصها بشكل كبير.
ولتجنُّب حدوث ضغوطات تضخميّة على الأسعار وكبح جِماح النمو الاقتصادي، قامت الحكومة النرويجية، في عام 2013، بخفض إنفاقها من عائدات النفط وبواقع مليار دولار سنوياً، وهو إجراء لا يبدو قادراً على إزعاج النرويجيين أو إثارة قلقهم، ذلك أنهم مصممون على ادخار أموال هذا الصندوق للأجيال المقبلة، بل والاستمرار في دفع ضرائب تُعتبر الأعلى عالمياً، حيث يصل مُعدّل الدخل الضريبي 40% من الناتج المحلي الإجمالي.
وليس مستغرباً أن تُحافظ النرويج على المرتبة الأولى عالمياً في مؤشر التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي على مدى ست سنوات متتالية، وتُصنّف باستمرار على أنها من أكثر البلدان سلميّة في العالم من قبل مؤشر السلام العالمي. إضافة إلى كونها من أكبر المُساهمين مالياً في الأمم المتحدة. وإذا كان هناك من إرث قد تركته الحرب العالمية الثانية للنرويجيين الذين عاشوا تحت نير الاحتلال النازي، فهو هذا الشعور بالانتماء، والاعتماد كلياً على قُدراتهم الذاتية التي قلّصت حجم التبعية لعمالقة الاقتصاد المتقدّم.
(محلل اقتصادي أردني)
مملكة النرويج هي إحدى الدول الإسكندنافية التي تقع أقصى الشمال الغربي لأوروبا، وتعتبر خامس أكبر مُصدّر للنفط وثالث أكبر مُصدّر للغاز في العالم. ورغم ذلك، فإن صادراتها من النفط والغاز لا تشكل أكثر من 20% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا يعكس مدى تنوع مصادر الدخل الحقيقي في بلد عدد سكانه خمسة ملايين نسمة تقريباً.
أدركت النرويج مبكراً أن اقتصادها لن يستفيد بتاتاً من إطلاق العنان لعائدات النفط في اجتياح بلادها، على طريقة تسونامي، لتتسبب في تدمير قطاعات اقتصادية غير نفطية، وإحداث صدمات اقتصادية ناجمة عن تذبذبات أسعار النفط. لذلك، سعت النرويج إلى وضع ما يقرب جميع إيراداتها النفطية التي جنتها منذ عام 1990 في حساب أُطلق عليه "صندوق النفط"، فحققت وفورات متنامية ضخمة بلغت قيمتها اليوم نحو 850 مليار دولار، حيث يُعد من أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم.
ولهذا الصندوق فضل كبير في تجنيب النرويج "لعنة النفط" التي يعاني منها العديد من الدول الأخرى الغنية بالموارد، وخاصة في دول العالم النامي، ما جنّبها الإصابة بما سمي "المرض الهولندي" في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، حين أدى ارتفاع عائدات هولندا الهائلة من النفط إلى تضخم العملة المحلية، وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، ما دمّر الصادرات ورفع من مُعدل البطالة في حينها.
وتقوم الحكومة النرويجية بسحب كمّية صغيرة من أموال الصندوق، وبنسبة لا تتجاوز 4% سنوياً، كي تنفقه على تدعيم ميزانياتها العامة فقط، إذ لا يُسمح للصندوق السيادي بالاستثمار في النرويج خشية حدوث تضخم مُدمِّر. في حين يتم استخدامه لدعم الصناعات المحلية وتنمية صناعات جديدة مُستدامة، تُسهم في جعل الشركات غير النفطية أكثر قُدرة على المنافسة عالمياً. وكانت نتيجة تلك السياسات الاقتصادية أن انخفض تأثُّر الاقتصاد النرويجي بتقلُّبات أسعار النفط، وضُبط التضخُّم، وتكوّن احتياطي نقدي كبير في "صندوق النفط."
وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية، اعتبر المصرفيون العُملة النرويجية، الكرونة، إحدى أكثر العُملات ثباتاً في العالم. فقد أثبتت الأزمة المالية العالمية نجاح التجربة النرويجية. فحينما كان أفراد دول الجوار يقضون أوقاتاً عصيبة جرّاء تراجُع الأداء الاقتصادي، كان النرويجيون يتمتّعون بمستوى معيشة مُرتفع، وهو ما يُفسّر إجراء زيادات مستمرة على الأجور من قِبل الحكومة النرويجية على عكس دول أُخرى قامت بتقليصها بشكل كبير.
ولتجنُّب حدوث ضغوطات تضخميّة على الأسعار وكبح جِماح النمو الاقتصادي، قامت الحكومة النرويجية، في عام 2013، بخفض إنفاقها من عائدات النفط وبواقع مليار دولار سنوياً، وهو إجراء لا يبدو قادراً على إزعاج النرويجيين أو إثارة قلقهم، ذلك أنهم مصممون على ادخار أموال هذا الصندوق للأجيال المقبلة، بل والاستمرار في دفع ضرائب تُعتبر الأعلى عالمياً، حيث يصل مُعدّل الدخل الضريبي 40% من الناتج المحلي الإجمالي.
وليس مستغرباً أن تُحافظ النرويج على المرتبة الأولى عالمياً في مؤشر التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي على مدى ست سنوات متتالية، وتُصنّف باستمرار على أنها من أكثر البلدان سلميّة في العالم من قبل مؤشر السلام العالمي. إضافة إلى كونها من أكبر المُساهمين مالياً في الأمم المتحدة. وإذا كان هناك من إرث قد تركته الحرب العالمية الثانية للنرويجيين الذين عاشوا تحت نير الاحتلال النازي، فهو هذا الشعور بالانتماء، والاعتماد كلياً على قُدراتهم الذاتية التي قلّصت حجم التبعية لعمالقة الاقتصاد المتقدّم.
(محلل اقتصادي أردني)