بعد ثلاث سنوات من معاناة المصريين مع ما أطلق عليه برنامج الإصلاح الاقتصادي، والذي تم إملاؤه من صندوق النقد الدولي كشرط أساسي لحصول مصر على تمويل بمبلغ 12 مليار دولار، يبدو أن الصندوق يسعى من جديد للعودة إلى بلدٍ كثيراً ما أعلن مسؤولوه أن تجربتهم مع تصحيح مسار الاقتصاد، التي انتهت قبل أقل من ثلاثة أشهر، تعد نموذجاً يُحتذى به لكافة دول العالم المأزومة اقتصادياً.
وبعد خفض الدعم المقدم لأسعار الكهرباء والماء والوقود والغاز ورغيف العيش، وانعكاس ذلك في ارتفاع تكلفة كل شيء تقريباً، من المسكن والملبس والمأكل إلى وسائل التنقل والتعليم والعلاج والخدمات الحكومية، فاجأنا الصندوق قبل يومين، بالإعلان عن حاجة مصر إلى "موجة جديدة من الإصلاح"، والتأكيد على استعداد صندوق النقد الدولي لمساعدة هذا البلد "بكافة الطرق الممكنة"، بعيداً عن توفير تمويل مباشر جديد للحكومة المصرية.
ووقع صندوق النقد اتفاقاً مع الحكومة المصرية في نهاية عام 2016 لإقراضها 12 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات، تمنح بعدها فترة سماح، قبل أن تبدأ في السداد البطيء على سنوات طويلة.
ولم يأت التمويل الممنوح من الصندوق خاليا من الشروط، حيث فرض الصندوق على الحكومة المصرية العديد من الإجراءات، كان على رأسها التحرير الكامل لسعر الصرف (أي تعويم الجنيه)، ورفع معدلات الفائدة على الجنيه المصري لكبح معدلات التضخم، وتخفيض عجز الموازنة عن طريق تخفيض إنفاق الحكومة المصرية على الدعم، بالإضافة إلى بيع العديد من شركات الحكومة لتوفير السيولة للدولة.
حرر البنك المركزي سعر الصرف، فوصل سعر الدولار إلى أكثر من عشرين جنيهاً في نهاية العام 2016، قبل أن يتراجع بشدة بعد عامٍ من اتخاذ قرار التعويم، ليصل إلى 15.85 جنيها وقت كتابة هذه السطور، أي ما يقرب من ضعف سعره الرسمي قبل التحرير، الأمر الذي تسبب في تضاعف سعر كل ما يتم استيراده، وهو ما تشير بعض الإحصائيات إلى كونه يمثل أكثر من 60% مما يستهلكه المصريون.
رفع البنك المركزي معدلات الفائدة على العملة المحلية، فتباطأ الاستثمار الداخلي، وتوقف اقتراض الشركات، وتعثر العديد منها، واضطر أصحاب الأعمال للتفكير ألف مرة قبل التوجه للاقتراض للتوسع، فانخفض الإنتاج الزراعي والصناعي، وتباطأ النمو.
ولولا الدعم المؤقت والمصطنع الناتج من اكتشافات الغاز والنفط، لأفصحت معدلات نمو الناتج المحلي والتضخم عن الكثير مما خفي، وأظنه أعظم.
خفضت الحكومة عجز الموازنة العامة عن طريق تقليص نفقات الدعم، ومع ذلك لم يظهر الأثر واضحاً بسبب ارتفاع ما استحوذ عليه بند خدمة الدين من الموازنة المصرية، بعد ارتفاع مديونية الحكومة المصرية بصورة غير مسبوقة.
ورغم ما تسبب فيه تخفيض المبالغ الموجهة لدعم الحكومة للسلع والخدمات من تراجع مستوى معيشة ملايين المصريين، لم يتناسب المردود الإيجابي على الموازنة المصرية مع الثمن المدفوع.
وفي المقابل، لم تكن خطوات الصندوق في تلك الفترة تشير إلى أدنى قدر من تحمل المسؤولية، أو الاهتمام بتأثير نصائحه وإملاءاته على أحوال المصريين، مع ملاحظة الخضوع التام من المسؤولين المصريين لها.
لم يعط الصندوق المصريين الفرصة لالتقاط أنفاسهم عند اتخاذ قرار التعويم، ولم يقبل بالتخفيض المتدرج لقيمة العملة، وأصر على التحرير الكامل لسعر الصرف من أول يوم، ولم يرأف لحال ملايين المصريين وهم يشهدون انهيار قيم مدخراتهم ومداخيلهم أمام أعينهم، ونزول الملايين منهم ممن انتموا قبل القرار إلى الطبقة المتوسطة تحت خط الفقر، بعد أن فقدت العملة المصرية أكثر من 60% من قيمتها خلال أسبوعين!
لم يتراجع الصندوق وهو يشاهد آلاف العمال يفقدون وظائفهم، بعد تعثر وإغلاق مئات المصانع، خلال الشهور الأولى من بدء برنامج إصلاح الصندوق، ثم تكرار الظاهرة بعد سيطرة المؤسسات السيادية على العديد من الأنشطة الاقتصادية في كافة المجالات بتشجيع من الصندوق، ولم يتابع التزام الحكومة المصرية بالإنفاق الاجتماعي، الذي جاء ضمن بنود الاتفاق كعنصر أساسي للمساهمة في تخفيف وطأة قرارات الإصلاح، مؤكداً أن هذا ليس دوره، ومستبشراً بصمت المصريين وعدم خروجهم للتظاهر ضد إملاءاته، باعتبارهما دليلين على تقبل المصريين للقرارات وتفهمهم للحاجة إليها!
لم يبق من إملاءات الصندوق شيء لم ينفذ سوى بيع شركات الحكومة، حيث لم يتم بيع إلا شركة أو شركتين، رغم إعلان الحكومة في أكثر من مرة نيتها بيع أكثر من عشرين شركة، وهو ما يبدو أن الصندوق جاء هذه المرة، بدون وعود إقراض، فقط من أجل ضمان تسريع تنفيذه.
لم يقلق الصندوق وهو يرى ملياراته الممنوحة للحكومة المصرية تستخدم في بناء القصور الرئاسية بصورة غير مبررة، وفي صفقات سلاح هي في الواقع وسائل اكتساب شرعية ومزيد من الدعم من الدول الكبرى، وفي أحكام تعويض في قضايا دولية، بدون أدنى محاسبة أو شفافية.
استمر الصندوق في دعم نظامٍ يدرك جيداً أن محركه الأساسي هو أجندته الخاصة، بعيداً عن مصالح الشعب الذي يحكمه، ثم جاءت اللحظة التي رآها مناسبة للعودة، طلباً للحصول على بقية أتعابه من "العملية السابقة"، ممثلة في تسهيل إجراءات بيع الشركات المصرية، تحت عنوان "جولة جديدة من الإصلاحات".
صندوق النقد الذي تخلى عن الأرجنتين بعد انتخاب رئيس لم تسعد به الولايات المتحدة، ولا يتوقع أحد خضوعه لإملاءات الصندوق، لتدخل البلاد في أزمة جديدة وتفلس رغم عدم الإعلان الرسمي، بعد فترة وجيزة من عودتها للأسواق العالمية وتسجيل إقبال منقطع النظير على سنداتها، ومنها ما امتد لمائة عام، هو نفس الصندوق الذي يمتنع حالياً عن تقديم العون لفنزويلا وهي على شفا الانهيار، انتظاراً لتسلم المعارض المدعوم أميركياً كافة مفاتيح السلطة، وهو نفس الصندوق الذي يعلن رغبته في العودة لمصر، لتقديم المساعدة "بكافة الطرق الممكنة".
فهل نصدق "حسن نواياه" مرة أخرى، أم نطلب منه على طريقة الفيلم المصري "ألا يبسطها علينا أكثر مما سبق"؟