موسم الصيف وإجازاته السنوية بالنسبة للمهاجرين في فرنسا يمثل فرصة لزيارة أرض الآباء والأجداد، خصوصاً مع انتهاء شهر رمضان. لكنّ الصراع ينشأ ما بين الحنين وشروط السفر والاستقبال الصعبة.
في بعض الأوقات تكون الظروف مواتية أكثر من أوقات أخرى لمختلف الأمور. وهو ما حدث هذه السنة بالذات في ما يتعلق بالإجازات الصيفية، وعودة المهاجرين وأبنائهم في فرنسا إلى أرض الآباء والأجداد. فقد مرَّ شهر رمضان الكريم، في شهر يونيو/حزيران، أي قبل انتهاء الامتحانات وابتداء الإجازات، التي تكون غالباً في شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب، ما يمنح المهاجرين، عند وصولهم إلى بلدانهم الأصلية، حرية أكبر في التنقل وارتياد الشواطئ والمنتجعات وحضور الاحتفالات التي تكثر في الصيف.
تقول سمية، وهي مغربية في الخامسة والخمسين: "لم أسافر إلى بلدي الأصلي منذ أربع سنوات، ففي شهر رمضان تلغى الاحتفالات غير الدينية، ويسود جوّ خاص، يليق بالشهر الكريم، ويفرض على المرء أن يظل في انسجام مع روحية هذا الشهر. وهذا ما لا يناسبني، لأنّ أبنائي لا يستطيعون بعد سنة كاملة من الدراسة والتعب أن يسافروا إلى بلد آبائهم، كي يظلوا في البيت".
لكنّ العودة إلى الأوطان الأصلية ليست مسألة تلقائية. فالشاب جواد، وهو من أصول جزائرية، يعترف: "عدت إلى الجزائر أكثر من خمس مرات مع والديّ، لكني أفضّل أن أتعرف، الآن، على بلدان أخرى. هذه السنة سأسافر إلى تايلاند مع أصدقائي".
غيره كثيرون على هذه الحال، وتتعدد الأسباب التي لا تشجعهم على العودة إلى بلدان آبائهم وأجدادهم. سليم (30 عاماً) من أصول تونسية يقول: "التقاليد ما زالت ضاغطة في الأرياف، والفساد الإداري لم يختفِ بعد. وهذا ما لا يشجع على السفر إلى هناك".
استقبالات رسمية
ليس ثمة شك أنّ سلطات دول المغرب العربي واعية جداً بأهمية الحفاظ على جسور مع هؤلاء المهاجرين، وليس غريباً أن تجد وزارات مكرسة للمهاجرين وقضاياهم. وهي وزارات تعقد آمالاً كبيرة على عودة بعض هؤلاء للاستثمار في بلدانهم الأصلية ونقل خبراتهم ومهاراتهم، مع الإعلان عن تسهيلات في ما يخص تعجيل دراسة الملفات أو الإعفاء من كثير من الرسوم والضرائب. ولا يغيب عن أحد أيضاً دور التحويلات المالية لهؤلاء في الاقتصادات المحلية، وهي تحويلات يسيل لها لعاب المسؤولين في المغرب العربي، لأنّها تخفف من أعبائهم ومن أزماتهم الاقتصادية الخانقة.
يصل الأمر، أحياناً، إلى تنظيم استقبالات رسمية للوافدين. في احتفالات المغرب مثلاً يقدم الحليب والتمر والماء، من قبل مسؤولين حكوميين للمهاجرين العائدين. وقد ابتدأت، هذه السنة، عملية استقبال المغاربة المقيمين في الخارج، عبر تهيئة 17 مكاناً مخصصاً للاستقبال لمواكبة الحركة الكثيفة للنقل البحري والجوي. وتراهن السلطات المغربية على استقبال أكثر من مليون شخص هذا العام، من بين نحو أربعة ملايين ونصف مليون مهاجر مغربي حول العالم.
يطلق على حركة استقبال المهاجرين اسم "مرحباً 2017" وقد انطلقت الحملة أوائل الشهر الماضي، وستتواصل حتى 15 سبتمبر/أيلول 2017، وذلك تحت الرئاسة الفعلية للعاهل المغربي الملك محمد السادس.
صعوبات السفر
لا يختلف الأمر في تونس والجزائر. فالحكومات المغاربية تعتبر هؤلاء الوافدين ذخيرة يجب الحفاظ عليها وإغراؤها بالتواصل مع بلدانها، وإدراجها في إطار التنمية المستدامة. لكنّ السفر ليس بالأمر السهل دائماً، وإذا كانت ظروف السفر أكثر رحمة بالنسبة للمغاربة والتونسيين فإنّها ليست كذلك بالنسبة للجزائريين.
وبينما يتمكن المسافرون إلى المغرب وتونس من التنقل في رحلات "شارتر" أي تأجير طائرة كاملة، فهو ليس متوفرا في الجزائر، فالخطوط الوطنية الرسمية تحتكر هذا المجال الحيوي، بكلّ تبعاته من ارتفاع أثمان بطاقات السفر. وهو ما يدفع جزائريين كثيرين إلى السفر إلى تونس أو المغرب، وهذه حالة مالك: "أستغل التخفيضات التي تعرفها بطاقات السفر والحجوزات في الفنادق، فأسافر، مع عائلتي، إلى الحمامات في تونس في سنة، وإلى مراكش في المغرب في سنة أخرى".
من جهته، يقول رئيس فيدرالية (اتحاد) الجمعيات المغربية في فرنسا، محمد زرولت: "بالإضافة إلى رحلات شارتر إلى المغرب، يمكن للمسافر أن يستقل حافلات لا تكلف المسافر الواحد أكثر من 70 يورو إلى أقصى الجنوب المغربي، بالإضافة إلى أنّ كثيرين يسافرون بواسطة سياراتهم عبر إسبانيا".
عائلة الرحموني، من ريف المغرب، سعيدة لأنّ ابنها البكر حصل على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) في العلوم، فقررت السفر هذه السنة إلى تركيا. يقول الأب أسّي محمد: "الريف المغربي متوتر جداً، فقررنا، هذا العام، بشكل استثنائي، أن نسافر إلى تركيا. الأجواء في هذا البلد المسلم مناسبة لنا، فالبلد متقدم، ويمكن لنا أن نعيش فيه حياتنا الروحية أيضاً".
سميرة، وهي جزائرية، ما زالت عائلتها تقطن في مدينة وهران. تستعيد ذكرياتها أيام كانت تسافر في سيارتها، عن طريق المغرب: "هذا السفر أضحى حلماً بعيد المنال، الآن. فالحدود البرية مغلقة بين الجارين الشقيقين. ويتوجب عليّ أن أركب السفينة من مارسيليا إلى وهران. ويستمر إبحارنا فيها أكثر من 25 ساعة. الرحلة مرهقة، ويا حبذا لو يفكر سياسيو البلدين الشقيقين المغرب والجزائر فيرحموننا من هذا العناء".
"بابور زمّر"
لا يخفي التونسيون حماسهم الكبير في زيارة بلادهم. فهم يعرفون أنّ العودة إليها في الصيف، في ظل الضائقة الاقتصادية، التي أعقبت الثورة، وبعد اعتداءات إرهابية دموية أريد منها كسر السياحة، ومن خلالها الاقتصاد، مسألة واجب وطني وإنساني مُلحّ. يقول حميد الشابي: "للثورة التونسية، ولشهدائها، دَين كبير علينا. الآن يستطيع المواطن التونسي، بفضل الله والثورة، أن يجهر بمواقفه السياسية والدينية وينتقد الحكومة، من دون أن يسجن، ويتجه للصلاة في الفجر بغير قلق من اختطاف أو تحقيق". يضيف: "الاقتصاد التونسي يحتاج إلينا، لأنّ تونس في وضعية هشَّة، والانتقال الديمقراطي يحتاج إلى بعض الوقت وإلى النوايا الحسنة. كذلك، فالاستقرار من حولنا مفقود، خصوصاً في ليبيا، حيث يسود العنف ويتدفق مهاجرو أفريقيا الساحل وجنوب الصحراء".
جواد، طالب تونسي وصل إلى فرنسا عقب رحيل الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي. أصله من جنوب تونس، ويتابع في فرنسا دراسات عليا في الطب. يقول: "أنا من الجنوب، الذي أهملته كلّ الحكومات المتعاقبة على تونس، بعد الاستقلال. أعود، كلّ سنة إلى بلدي. قررت هذه السنة أن أسافر في عبّارة من مارسيليا إلى العاصمة تونس. هي رحلة متعبة، تمتد نحو 21 ساعة، لكنّ الحنين إلى البلاد، وتقاسم الرحلة مع أبناء بلدي وبعض السياح لا يخلو من فائدة". وفي نوع من ذلك الحنين إلى زمن مضى، يقول: "هي رحلة تذكرني الآن بالفنان الملتزم هادي قلّة، الذي رحل بعد انتصار الثورة، والذي اشتهر عليه، بأغنيته: بابور زمّر. أغنية تتحدث عن مآسي شباب فقدوا الأمل في بلدانهم فاضطروا إلى مغادرتها".
بالرغم من الصعاب المختلفة، التي يمكن مواجهتها في هذا البلد المغاربي أو ذلك، تعتبر أغلبية المهاجرين والمنحدرين من الهجرات والشتات المغاربي أنّ العودة إلى بلدان الآباء والأجداد، نوعٌ من الوفاء لهم، وأيضا نوعٌ من صلة الرحم. كما يدرك المسؤولون في هذه البلدان أنّ توفير البنى التحتية لاستقبالهم، وأيضاً، إصلاح الإدارات ومحاربة الفساد، من الشروط الضرورية لاستمالة هؤلاء المواطنين الذين يعيشون في بلدان ديمقراطية، حيث يمارسون حقوقهم بحريّة.
كذلك، يدرك المسؤولون أنّه يتوجب عليهم تقديم حوافز ومغريات لهؤلاء الشباب للاستثمار في بلدانهم الأصلية، من دون أن يُنظر إليهم على أنّهم بقرة حلوب تؤمّن تحويلات مالية إلى الوطن فحسب. فتلك التحويلات قد تنضب، كما يقول مسؤول في اتحاد العمال المغاربيين: "ليس فقط، بسبب الأزمات الاقتصادية التي يعيشها الغرب، بل لأنّ العلاقات الحميمة بين المهاجرين الأوائل (الذين يصرون على أن يُدفنوا عند موتهم، في بلدانهم الأصلية) وأوطانهم، ليست بذات القوة واللحمة التي تربط الأجيال الجديدة من المهاجرين مع أرض الآباء والأجداد".