08 يوليو 2019
طرد الأرواح الشريرة
لطالما استخدمنا عباراتٍ لا نعرف من أطلقها، ونتداول أشياء لا نعرف تاريخها. "أنتم ملح الأرض" قولة شهيرة للسيد المسيح. إنه لا يتحدّث عن الملح، بل عن حوارييه. ألم تكن هناك مادة أثمن، أقوى، أكثر ندرةً، يصف بها تلامذته؟ كان الذهب، الفضة، الأحجار كريمة. هذه أندر وأثمن من الملح. لكنها لا تؤدي المعنى الذي يريده. في عصر المسيح، كان الملح نادراً أيضاً، وكان جزءاً من صراعات القوة. من يتخيّل هذا الآن؟ يصعب تخيل ذلك. لكنه حصل. للملح ارتباطٌ وثيقٌ بصراعات القوة، كما له ارتباط بالمقدّس، وحتى بالعقائد الشعبية، مثل رشّ الملح في أركان البيوت لطرد الجن.
تذكّرنا تحذيرات القادة البريطانيين في القرن السابع عشر من مخاطر الاعتماد على ملح البحر الفرنسي، بتحذيرات القادة الغربيين نفسها، في أزمنتنا، من مخاطر الاعتماد على النفط العربي؟ ولكن هذا التحذير البريطاني متأخر جداً في الجدل السياسي والاقتصادي حول الملح، فسجلات التاريخ تحفظ لنا سجالاتٍ أقدم وأعمق جرت في بلاط أباطرة الصين، ترقى إلى عهد كونفوشيوس.
كان كونفوشيوس، وأتباعه من بعده، يركّزون على الجانب الأخلاقي للحكم، فيما ظهرت مدرسة فكرية، جديدة ذات طابع عملي، سميت "الالتزام بحرفية القانون"، رأى أتباعها أن الأخلاق لا تتعارض مع إصلاح المؤسسات الحكومية والقانون الوضعي.
بدا الصراع شاقاً، كالعادة، بين الأخلاقي والواقعي. الأخلاقي يتمسّك دائما بالمبادئ. والواقعي يركّز على ما هو عملي. ويخبرنا التاريخ أن الواقعيين هم الذين ترجح كفّتهم في صراعٍ كهذا، فقلما تنتصر المبادئ على المصالح، فتاريخ البشرية، للأسف، هو تاريخ صنعه "الواقعيون" العمليون، لا أصحاب المبادئ والاخلاق.
ولكن علام دار الصراع في البلاط الصيني بين الكونفوشيين ودعاة "الالتزام بحرفية القانون"؟ على الملح! فقد تصدّى أتباع كونفوشيوس لدعاة الالتزام بحرفية القانون، عندما طرحوا أمام الامبراطور مشروع قرار لـ "تأميم" الملح. كان ذلك أول عمل احتكاري تقوم به الدولة عبر التاريخ في "تأميم" واحدةٍ من المواد الحيوية.
هكذا ظهرت "ضريبة الملح" في البلاط الصيني التي سيتردّد صداها لاحقاً، في إمبراطوريات جاءت بعدها، كان آخرها الإمبراطورية البريطانية في صراعها مع غاندي وحركة التحرّر الهندي.
وبالعودة الى بلاط الصين مرة أخرى، نقول إن احتكار الدولة مادة الملح درَّ عليها عائداتٍ كبيرة مكّنتها من بناء جيش ضخم، وشقّ الطرق التي جمعت بين أرجاء الصين مترامية الأطراف.. بل وبناء سور الصين العظيم!
وتحفظ لنا السجالات التي دارت بين أصحاب المدرستين الفكريتين في بلاط الصين جملةً اقتبسها أحد مناهضي ضريبة الملح تقول: "لا ترزح أي دولةٍ تحت طائلة الفقر المدقع بقدر ما يحدث عندما تبدو ملأى بالأغنياء". شكلت ضريبة الملح مصدراً مالياً، يماثل مصادر الدول العربية الخليجية اليوم من البترول (التي يبدّد بعضها موادره على الأسلحة وصفقات "شراء" الأمن)، لكن ذلك صنع أيضاً طبقةً من الأغنياء مقابل إفقار شامل للشعب.
***
سيشكل الملح أهميةً مماثلةً في الإمبراطورية الرومانية، لكنها لم تسع إلى احتكار الملح، بل إلى توفيره وضبط أسعاره. ويبدو أن تاريخ تأسيس المدن الرومانية مرتبط بالملح أيضاً، فقد بنيت معظم هذه المدن بالقرب من الملاحات، بما في ذلك عاصمة الإمبراطورية، روما، وللتقرّب من شعبها كانت حكومة الإمبراطورية تسعى إلى توفير الملح وخفض أسعاره، مثلما يوفر بعض الأنظمة سلعاً معينة، ويدعمها، لشراء بطون الشعوب وأفواهها.
ولمعرفة أهمية الملح في تاريخ الإمبراطورية الرومانية، يكفي أن نذكر أن أكبر الطرق التي شقت في إيطاليا عرفت بطرق الملح Via salaria، وهي تربط بين روما والأجزاء الداخلية لشبه الجزيرة الإيطالية. ويقول مارك كورلانسكي الذي تفيد هذه المقالة من كتابٍ له عن تاريخ الملح، إن الجنود الرومان كانوا يتقاضون رواتبهم، أحياناً، على شكل حفناتٍ من الملح، ومن هنا أصل الكلمة
Salary أي راتب. وقد تحولت كلمة Sal اللاتينية، كما يذكر كورلانسكي، إلى الكلمة الفرنسية Solde، والتي اشتقت منها كلمة Soldier أي جندي. وفي الإنكليزية، واللغات المشتقة من اللاتينية، يعود أصل مصطلح "جندي" Soldier إلى كلمة الملح. فهل هناك ارتباط أوثق، وأكثر دلالة، بين الملح وتاريخ القوة والسيطرة في العالم؟ لكن للملح علاقة بالمقدّس أيضاً، ففي الأديان السماوية الثلاثة، هناك ذكر للملح، كما أنه موضع اعتبار في الأديان الوثنية والإحيائية، وذكره واعتباره مقترنان، غالباً، بالطهارة والنقاء ودرء الأرواح الشريرة. فالملح مضادّ للفساد. لكن المشكلة عندما يفسد الملح نفسه. وهنا يتساءل السيد المسيح: بماذا نملّح؟
تذكّرنا تحذيرات القادة البريطانيين في القرن السابع عشر من مخاطر الاعتماد على ملح البحر الفرنسي، بتحذيرات القادة الغربيين نفسها، في أزمنتنا، من مخاطر الاعتماد على النفط العربي؟ ولكن هذا التحذير البريطاني متأخر جداً في الجدل السياسي والاقتصادي حول الملح، فسجلات التاريخ تحفظ لنا سجالاتٍ أقدم وأعمق جرت في بلاط أباطرة الصين، ترقى إلى عهد كونفوشيوس.
كان كونفوشيوس، وأتباعه من بعده، يركّزون على الجانب الأخلاقي للحكم، فيما ظهرت مدرسة فكرية، جديدة ذات طابع عملي، سميت "الالتزام بحرفية القانون"، رأى أتباعها أن الأخلاق لا تتعارض مع إصلاح المؤسسات الحكومية والقانون الوضعي.
بدا الصراع شاقاً، كالعادة، بين الأخلاقي والواقعي. الأخلاقي يتمسّك دائما بالمبادئ. والواقعي يركّز على ما هو عملي. ويخبرنا التاريخ أن الواقعيين هم الذين ترجح كفّتهم في صراعٍ كهذا، فقلما تنتصر المبادئ على المصالح، فتاريخ البشرية، للأسف، هو تاريخ صنعه "الواقعيون" العمليون، لا أصحاب المبادئ والاخلاق.
ولكن علام دار الصراع في البلاط الصيني بين الكونفوشيين ودعاة "الالتزام بحرفية القانون"؟ على الملح! فقد تصدّى أتباع كونفوشيوس لدعاة الالتزام بحرفية القانون، عندما طرحوا أمام الامبراطور مشروع قرار لـ "تأميم" الملح. كان ذلك أول عمل احتكاري تقوم به الدولة عبر التاريخ في "تأميم" واحدةٍ من المواد الحيوية.
هكذا ظهرت "ضريبة الملح" في البلاط الصيني التي سيتردّد صداها لاحقاً، في إمبراطوريات جاءت بعدها، كان آخرها الإمبراطورية البريطانية في صراعها مع غاندي وحركة التحرّر الهندي.
وبالعودة الى بلاط الصين مرة أخرى، نقول إن احتكار الدولة مادة الملح درَّ عليها عائداتٍ كبيرة مكّنتها من بناء جيش ضخم، وشقّ الطرق التي جمعت بين أرجاء الصين مترامية الأطراف.. بل وبناء سور الصين العظيم!
وتحفظ لنا السجالات التي دارت بين أصحاب المدرستين الفكريتين في بلاط الصين جملةً اقتبسها أحد مناهضي ضريبة الملح تقول: "لا ترزح أي دولةٍ تحت طائلة الفقر المدقع بقدر ما يحدث عندما تبدو ملأى بالأغنياء". شكلت ضريبة الملح مصدراً مالياً، يماثل مصادر الدول العربية الخليجية اليوم من البترول (التي يبدّد بعضها موادره على الأسلحة وصفقات "شراء" الأمن)، لكن ذلك صنع أيضاً طبقةً من الأغنياء مقابل إفقار شامل للشعب.
***
سيشكل الملح أهميةً مماثلةً في الإمبراطورية الرومانية، لكنها لم تسع إلى احتكار الملح، بل إلى توفيره وضبط أسعاره. ويبدو أن تاريخ تأسيس المدن الرومانية مرتبط بالملح أيضاً، فقد بنيت معظم هذه المدن بالقرب من الملاحات، بما في ذلك عاصمة الإمبراطورية، روما، وللتقرّب من شعبها كانت حكومة الإمبراطورية تسعى إلى توفير الملح وخفض أسعاره، مثلما يوفر بعض الأنظمة سلعاً معينة، ويدعمها، لشراء بطون الشعوب وأفواهها.
ولمعرفة أهمية الملح في تاريخ الإمبراطورية الرومانية، يكفي أن نذكر أن أكبر الطرق التي شقت في إيطاليا عرفت بطرق الملح Via salaria، وهي تربط بين روما والأجزاء الداخلية لشبه الجزيرة الإيطالية. ويقول مارك كورلانسكي الذي تفيد هذه المقالة من كتابٍ له عن تاريخ الملح، إن الجنود الرومان كانوا يتقاضون رواتبهم، أحياناً، على شكل حفناتٍ من الملح، ومن هنا أصل الكلمة
Salary أي راتب. وقد تحولت كلمة Sal اللاتينية، كما يذكر كورلانسكي، إلى الكلمة الفرنسية Solde، والتي اشتقت منها كلمة Soldier أي جندي. وفي الإنكليزية، واللغات المشتقة من اللاتينية، يعود أصل مصطلح "جندي" Soldier إلى كلمة الملح. فهل هناك ارتباط أوثق، وأكثر دلالة، بين الملح وتاريخ القوة والسيطرة في العالم؟ لكن للملح علاقة بالمقدّس أيضاً، ففي الأديان السماوية الثلاثة، هناك ذكر للملح، كما أنه موضع اعتبار في الأديان الوثنية والإحيائية، وذكره واعتباره مقترنان، غالباً، بالطهارة والنقاء ودرء الأرواح الشريرة. فالملح مضادّ للفساد. لكن المشكلة عندما يفسد الملح نفسه. وهنا يتساءل السيد المسيح: بماذا نملّح؟