يخوض الرئيس التونسي الأسبق، المنصف المرزوقي، الانتخابات الرئاسية المبكرة المقرر تنظيمها في 15 سبتمبر/أيلول المقبل، بخطاب سياسي مختلف عن السابق، فاجأ كثيرين، بسبب التغييرات الكبيرة التي طرأت عليه، لا سيما تخلّي المرزوقي عن فكرة صراع الثورة والثورة المضادة، وتركيزه بشكل كبير على القضايا الاجتماعية والاقتصادية، بعيداً عن الصراعات الأيديولوجية.
كما قال المرزوقي، خلال ندوة صحافية عقدها الأربعاء، إن على التونسيين ألا يرضخوا للضغوط النفسية التي سلّطتها شركات استطلاع الرأي، ومسؤوليتهم أن يحسنوا الاختيار وفق مقاييس واضحة وجلية، وهي نظافة اليد والنضال والتجربة والأخلاق العامة، لأنه لم يعد مسموحاً المغامرة بمستقبل تونس، لأن هذه الانتخابات ستحدد مستقبل البلاد لنصف القرن المقبل.
وكان المرزوقي، بعد وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي، حرص على عدم إثارة خصوماته السابقة وخلافاته الكبيرة مع الرئيس الراحل، بل أكد أنه "مستعد لحمل نعشه على كتفه يوم الجنازة". هذه التصريحات أثارت الكثير من الردود الإيجابية في الأوساط الإعلامية والسياسية والشعبية، بعد عداوة طويلة للمرزوقي مع الأوساط الإعلامية بالذات، والتي قال الأخير إنه يرغب في فتح صفحة جديدة معها.
مفاجآت المرزوقي لم تتوقف عند هذا الحد، بل طاولت مضمون خطابه السياسي ما بعد الانتخابات الماضية، إذ تخلى كما يبدو عن فكرة صراع الثورة والثورة المضادة، ودعا إلى تجميع العائلة التونسية على مختلف مشاربها، ورجال الأعمال الصالحين والصحافيين الهادفين والسياسيين النزهاء إلى توحيد جهودهم في المرحلة المقبلة.
واعتبر المرزوقي، في حوار إذاعي، أن رهان المستقبل يقوم على ثلاثة عناصر هي "الاستقرار والاستثمار والازدهار"، وأن المعركة اليوم بالأساس تهدف إلى ملء النصف الفارغ من الكأس ومواصلة البناء. وعن مواصفات الرئيس المقبل، قال المرزوقي إن "الرئيس هو أب التونسيين جميعهم... يجب أن يكون قلبه مفتوحاً للجميع وليس لطائفة أو للحزب الذي انتمى إليه"، محذراً من حرب التسريبات والإشاعات، ومشيراً إلى أن حرب الثورة والثورة المضادة انتهت، وأن الاختلافات الحاصلة والصراعات تحدث في أعتى الديمقراطيات.
ورأى المرزوقي أن وجود طيف كبير من الأحزاب والقائمات الانتخابية سيصعّب تشكيل حكومة الوحدة الوطنية المقبلة، قائلاً "أنصح جميع الأطياف والأحزاب بألا تجرّح ببعضها خلال المنافسة الانتخابية، لأنهم سيجدون أنفسهم مستقبلاً أمام ضرورة الجلوس والحوار لتكوين الحكومة المقبلة".
ويبدو أن تداعيات "الخميس الأسود" (في 27 يونيو/حزيران الماضي يوم مرض السبسي المفاجئ ودخوله المستشفى العسكري تزامناً مع اعتداءين إرهابيين في اليوم نفسه وسط العاصمة) تقف وراء قراءة المرزوقي الجديدة للمشهد التونسي، إذ يؤكد أن ما حصل هو "بروز لحمة وطنية كبيرة وشعب نبيل واستقرار أمني وسياسي لافت انتهى بانتقال دستوري سلس للسلطة، ما يعني أن الدستور يمثّل أرضية صلبة يمكن البناء عليها".
خطاب المرزوقي الجديد بدا جامعاً ويحمل موجة تفاؤل واضحة بخصوص تركيبة المجتمع التونسي وقدراته في تجاوز الأزمات ومواصلة التجربة، ويبدو أنه انتبه إلى أن ما يعني التونسيين بالأساس حالياً هي قضاياهم الاجتماعية والاقتصادية، بعيداً عن الصراعات الأيديولوجية التي يُدفعون إليها أحياناً، وهو ما يستوجب تجميعاً لهذه القوى الحية القادرة على تحريك هذا الواقع.
ويدرك المرزوقي أن المعركة الانتخابية والسياسية المقبلة ستدور حول هذه القضايا أساساً وليس حول الاستقطابات التي ميّزت انتخابات 2014، وأن هناك مؤشرات حقيقية تدعو إلى هذا التفاؤل، ولكن تجاوزه فكرة صراع الثورة والثورة المضادة بالذات يحمل تغيّراً كبيراً في خطابه، لا يبدو أنه يعود إلى مجرد حسابات انتخابية، بقدر ما يبدو أنه قراءة واقعية لرغبة عدد من التونسيين في تجاوز كل الصراعات التي عطّلت مسيرة النمو بالأساس، وهو مطلب الثورة الأول.
القيادي في "حراك تونس الإرادة"، عماد الدايمي، أكد في تصريح لـ"العربي الجديد" أن خطاب المرزوقي في الفترة الأخيرة يعكس استفادة من دروس الماضي، وتفكيراً في تطلعات التونسيين في المرحلة الحالية، ودعماً معنوياً للتونسيين، خصوصاً أن تونس عاشت مرحلة صعبة أخيراً بعد وفاة السبسي، وتمكّنت من تجاوز الأزمة بحكمة التونسيين ولحمتهم، لافتاً إلى أن خطاب المرزوقي أخيراً لا يخلو من تفاؤل، وهو يريد أن يوجّه خطاباً للتونسيين يرفع من معنوياتهم بعد الظرف الصعب ويقدّم لهم خطاب الحقيقة والدفع المعنوي. وأضاف الدايمي أن هذا الخطاب جاء أيضاً للحفاظ على المسار الديمقراطي وعلى التجربة التونسية التي تُعتبر مستهدفة من العديد من القوى المضادة.
من جهته، أكد رئيس حركة "وفاء"، عبد الرؤوف العيادي، لـ"العربي الجديد"، أن من يؤمن بمشروع لا بد أن يكون متفائلاً، والمرزوقي صاحب مشروع ومن الضروري ألا يكون متشائماً وإلا لن يدخل الانتخابات الرئاسية لأن الأمور عندها ستكون عبثية، معتبراً أن وضع تونس لا تحسد عليه في ظل التشتت في المشهد السياسي الذي يعاني من التفكك، وهو ما يتطلّب عملاً كبيراً للتوحيد وتجميع القوى.