08 ابريل 2017
طوفان في دولة البعث وداعش
كل سوري عاش في سورية، وتعلم في مدارسها، وسمع إعلامها، لا يستطيع أن يقول سد الفرات هكذا ببساطة، ففي كل الأدبيات السورية يأتي الاسم مشفوعا بكلمة العظيم، وقلما نطق أحد أو كتب الاسم في سورية كما هو ببساطة، وتلقائيا يقول السوريون "سد الفرات العظيم"، فطوال عقودٍ ظلت الثقافة الرسمية السورية تعتبر أن سد الفرات هو أعظم إنجازات "الحركة التصحيحية"، أي حافظ الأسد، على الرغم من أن مشروع السد سابق لحافظ الأسد وسابق لحكم البعث، والتخطيط له بدأ في عهد الوحدة مع مصر.
سد الفرات العظيم هذا تحت الضوء اليوم، لأنه يقع تحت القصف، ولأن القصف يهدّد جسم السد، وبالتالي يهدّد كل الأراضي بعده على مجرى النهر، ما يعني مدينتي الرقة ودير الزور ومناطق واسعة من العراق.
والتحذيرات التي انتشرت حول تعرّض جسم السد لإصابات شديدة أثارت حالةً من الرعب في جميع هذه المناطق، حتى أن الأخبار الواردة من داخل مدينة الرقة تقول إن تنظيم داعش حذّر الأهالي عبر مكبرات الصوت من الكارثة القادمة، وإن حركة نزوح كبيرة تشهدها المدينة، والتي تتوقع التحذيرات أن يصل ارتفاع المياه فيها إلى بضعة أمتار في حال انهار السد وتحرّرت المياه المخزنة خلفه.
يقول خبراء إن 17 مليار متر مكعب من المياه مخزنة في البحيرة (ويقول بعضهم إنها 14 مليارا)، وأيا كان الرقم فهي كمية كافية لإغراق مدنٍ بأكملها، والتسبب بطوفانٍ يشبه المذكورة في الكتب القديمة، وخبراء آخرون يقولون إن السد لا يمكن أن ينهار، وأن تصميمه الهندسي يراعي جميع الظروف، بما فيها القصف الحربي والتعرّض لزلازل، وأن السد بني أساسا بطريقةٍ تجعله جزءا من الطبيعة، وليس جسما صناعيا كما في سدود أخرى أصغر حجماً، وأن أقصى ما يمكن أن يحصل هو فقدان السيطرة على فتحات التحكم بالسد، وهي بحد ذاتها ليست خطرا قليلا، حيث ستنطلق المياه منها بكمياتٍ كبيرةٍ وستخرج عن السيطرة، لكنها لن تشكل الفيضان القادر على إغراق المدن.
السد العظيم إذاً ينذر اليوم بالطوفان العظيم، وهو خطر قائم بشكل أو بآخر، وإنْ لم يكن، في هذه المرة، فربما لاحقاً، والخطر الذي يشكله يمكن استخدامه أداة حربيةً يمكن أن يلجأ إليها أي طرفٍ لإلحاق الأذى بخصومه، فالتحالف الذي توجه له الاتهامات الآن بأن ضرباته الجوية تسببت بتدمير جزء من بوابات السد يمكن أن يفكر فعلا باستخدام مياه السد لدفع "داعش" إلى مغادرة الرقة، والفرار من المناطق المحيطة بها. و"داعش" يمكن أن تفكر باستخدام مياه السد لإغراق المدن والسكان المدنيين في المناطق الواقعة بعد البحيرة وسيلة ضغط على القوى المعادية له، وهي جميع القوى في العالم تقريباً. والنظام يمكنه أن يلجأ إلى إغراق الجميع، تحقيقا للتهديد الذي أطلقه، في الأيام الأولى للثورة، حين ردّد مؤيدوه (سنترك الحكم لكن بعد أن نعيد البلاد كما كانت يوم استلمناها) أي أن تدمير سد الفرات سيكون الخطوة الأخيرة في البرنامج الممنهج لإعادة البلد إلى نصف قرن مضى، وتدمير كل البنى التحتية، وسلب السوريين كل ما أنجزوه في خمسين عاماً.
قبل خمسة عشر عاماً، أنجز المخرج السينمائي الراحل عمر أميرالاي فيلما تسجيلياً مهماً عن سد الفرات، عرض فيه الأثر الاجتماعي والاقتصادي والبيئي المخرّب الذي تسبب به سد الفرات على مئات القرى ومئات آلاف المواطنين في المناطق التي غمرها السد، وتم ترحيل سكانها بالقوة، وعن المناطق الأثرية التي اختفت إلى الأبد تحت مياه البحيرة. وجاء الفيلم يومها ردّاً على عشرات السنوات من التغني بالسد العظيم وتعداد أمجاده، ومنها فيلم سابق للمخرج نفسه، أشاد وقتها بالسد، باعتباره نقلة حضارية ستتقدّم بسورية إلى الأمام، وقد أطلق أميرالاي على فيلمه اسماً يشبه النبوءة، حيث سماه "طوفان" في بلاد البعث، وها هو الطوفان يقترب حقاً، والنبوءة تكاد تتحقق فعلاً، وها هو سد الفرات الذي استمر "البعث" بالتفاخر به، واعتباره درة إنجازاته، بغض النظر عن أحقيته بذلك ام لا، ها هو يتحوّل إلى خطر محدق، بدلا من أن يكون خطوة تنموية "عملاقة"، وها هو سد الفرات "العظيم" يكاد يحقّق نبوءة أميرالاي، ويصبح طوفاناً في بلاد البعث وداعش.