يبدو القمر هنا أقربَ من ذي قبل، وأكبر حجماً من أيّ مكانٍ آخر. هكذا تراءى له في هذه الليلة وكأنّه يرفع عينيه نحو الأفق لأول مرّة. أمّا تلك المصابيح العملاقة والأضواء الكاشفة، فلم تبدّد الحيّز السرمدي بينه وبين العلو. فرغم أن السماء واحدةٌ في جميع المدن، إلا أنها في ليلِ هذه المدينة واضحة شفافة، ونجومها كقناديل متدلّية تتمايل فوق رأسِه.
لقد كان طالعُه حسناً منذ أن أسقط الكمبيوتر حرفاً واحداً من اسمه، حينها لبس نظّارته السميكة ونزعها ثلاث مرّات، وعقد حاجبيه عاصراً عينيه كزيتونتين. لم يلتفت إلى الوراء عندما تأكّد أن حرفاً من لقبه منقوصٌ على وثيقته الجديدة، بل اكتفى بوقوفٍ مرتبك ويداه ترتجفان، فتعجّب حارس مقرّ مقاطعة مارسيليا:
- هل أنت بخير يا سيّدي؟
شكره كثيراً ومضى على عجلٍ، ابتعد خطواتٍ صغيرة عن الباب الرئيسي، ثم شدّ الوثيقة الرسمية داخل قبضته حتى انغرزت أظافره في قاع كفّه، فاشتعلت الفكرة في رأسه مثل فتلة مصباح زيتي. حينها، قرّر أن يرهن كلّ أيامه المتبقّية في سبيل يوم واحدٍ، يغامر ثم يموت.
كان يرتقب نظرة ما يرفعها نحوه ضابط المطار؛ أن تكون أحدّ من المدية. لكن، بضغطة واحدةٍ ختم له جواز سفرِه الأحمر، فتلقّفه بأصابعه المتعرّقة، دسّه في جيب سترته، وقلبه الضعيف يسترجع نبضه بمشقّة.
أخيراً، ها هو يقفُ خارج مطار هواري بومدين في الجزائر العاصمة، والأرض تتزلزل تحت أقدامه. أمّا الهواء الذي يقبّل وجنتيه المحمرَّتين والحارّتين، فهو أنعم من نسمات الجنّة، ورائحة المكان تنعصر من ذاكرته كالرحيق. كلّ هذا المدى يشتاق إليه ويرغب في احتضانه.
وهو يتحسّس تلك اللحظة، لملم تحت جفونه كلّ الصور والأصوات والحركة، ماذا إن قبّل الإسفلت، وسحق بين أصابعه ورق الشجر الذابل بين أرصفة باركينغ المطار؟
فجأةً، تراءت له راية الوطن تصفّق كجناحَي الطير فوق رأسه الأشيب، فاستفزّ منظرُها قامَته الطويلة النحيلة التي يحاول موازنتها بحقيبةٍ جلديّة قديمة. يتردّد العجوز في رفع عينيه في حضرتها ثم يحدّق إليها ويتمعّن، إنها ترفرف عالياً بأخضرها الداكن وأبيضها الناصع. أما أحمرها القاني، فيشبه دم "علي... علي زيان". حينها سالت أمامه خطوط حمراء، ورسمت ظل عليّ الجريح على هامته، ثم حلّقت رايات كثيرات كالحمام، فالليلة عيد، والبلاد محتفلة.
دنا سائق التاكسي من العجوز الذي يبدو برّانياً1، وقطع شروده:
- إنها ليلة الفاتح نوفمبر، والحواجز الأمنية تملأ الطريق نحو وسط العاصمة.
- كم تكلفة سفري إلى بوسعادة؟
تخبّ السيّارة الصفراء في البراري والمسالك الجبلية، والشمس تستيقظ كعادتها، ويبتسم الصباح ملء شدقيه خلف الزجاج الندي. مسحه بيده المرتعشة ليرى السهول وأطباق الجبال التي تلملم الحشائش المتوهّجة في وادٍ من عقيق.
شيئاً فشيئاً، شعر بتجاعيد الأرض ترتسم على وجهه، فالحجارة الكلسية المنفلتة من الإسفلت تعرفه، وتضاريس المكان تشبه خطوط يده، والهواء المشبع برائحة التراب يجفّف العرق البارد المتصبّب من جبهته التي نحتتها سنون الغربة. إنه يبدو خائفاً ومرتبكاً، مبتهجاً وعجولاً، وهذا ما يجعله يحسّ بالحرّ في صباحٍ خريفي فاتر.
هنالك في آخر المدى، حيث تتطاول سعوف النخيل بين التلال، تراءت مدينة الحب والصبا، المدينة التي أحبّها منذ أن فتح عينيه على الدنيا.
- لقد وصلنا إلى بوسعادة يا...
نظر إليه السائق عبر المرآة العاكسة، وتعجّب من سيرة رجلٍ صمت طيلة مئتي كيلومتر أو يزيد. كلّ ما جناه من ثرثرته ولفتاته نحوه بعض إيماءات وهزّة كتفٍ واحدة، ليغرق بعدها في سهوٍ عميق. لم يعدّ الزبون وريقات اليورو المنكمشة في يده، بل دكّها في جيب صاحب التاكسي على عجل، وابتعد.
ترجّل مهزوزاً هشّاً رافعاً عينيْه التعبتين الحائلتين نحو الأعلى طويلاً من دون أن تحترقا، ومشى واثق الخطوات، مرتبكاً حائماً بين الديار المبنيّة من صفائح الشمس. تحسّس التراب ثم شمّه حينما انغرست قدماه في الوحل الممزوج بالرطب المُلقى على قارعة الزقاق الملتوية، وهي تفسح له الاتجاه لولوج مدخل المدينة.
إنها أرجل الغادين والرائحين التي سحقت الحجارة عبر الأزمنة الفائتة، وصنعت دروب الممرّات لهؤلاء القرويين الذين سكنوا هذا الحي وتوافدوا إلى المدينة للعمل عند المعمّرين. وبين جنبات الأزقّة شبه المهجورة، ارتفعت هذه البيوت الطوبية في قديم الزمان، وشكّلت أحياء هشّة متماسكة يتكّأ بعضها على بعض. يبدو أنّها غدت خاويةً متداعية الأسوار والأبواب.
نظر الرجل المغترب عبر الشقّ المحفور نحو الداخل، فبدت السقوف الخشبية للغرف متآكلة وعارية، وتطاولت بين الجدران الضامرة أعشاب شهباء.
الشمس هنا بكامل فواكهها شهيّة حنونة لا مثيل لنورها، ووحدها لوحات مشاهير الفنّانين الذين مرّوا على المدينة وسكنوا إليها من تفضح سرّها، فلو رأى ألفونس إتيان دين" أزقّة بوسعادة مهملةً وزاهدة هكذا لبكى من كرم إلهامها. لماذا أحبّها الفنان الفرنسي البرجوازي أكثر منه، فبدّل دينه واسمه، وعاش زاهداً تحت سقفٍ من تراب وقصب، وأوصى أن تكون "القبّة البيضاء" مرقده الأبدي، بينما هو الذي تمتدّ عروق سلالاته تحت جلد هذه الأرض، قضى ثلاثة أرباع عمره في مدينة غريبة وباردة؟
الحي العربي لم يعد يكابر، لكنّه صامد رغم هجرة سكانه إلى البيوت الكولونيالية والعمارات الحديثة، إذ عمّروا كلّ أحياء المدينة الممتدّة نحو روابٍ كانت هناك قبل زمنٍ، فيما لم يعد أثر للسواقي والقنطرة والوديان الصحراوية اليوم.
يخرج الرجل من الحيّ محمّلا بعبء الذكريات، حيث تفوح في المدى روائح غريبة وسريّة، فانصهرت التوابل الحارّة في دمه، واخترقت رائحة الخبز المزيّن بالحبّة الطيبة والسمْسم أنفاسه. كأنّه يراهن يعجنّ وأيديهن تدنْدن بالأساور والدمالج، يتغامزن في غنجٍ على الصوّار نصر الدين الفرنسي المقرفص وسطهنّ بعباءته يرسمهن وينهرهن إذا تحرّكن.
هذا ما يرويه أهل المدينة وما جاورها عن نساء الرسّام المستشرق، وهم يفاخرون بلوحاته بخجلٍ. حينها، تذكّر المغترب "النايليات" الخارجات من الحمّام مثل سربٍ من الملائكة، حيث كان عطر أجسادهن المخضّبة بالحنّاء والعنبر يصل حتى آخر الزقاق، فيُثرن الشهوة في نفوس الرجال.
أصبح حذاؤه مبتلاً وسط بركة من الوحل حينما اكتشف أن الحيّين العربي والأوروبي ارتبطا بحبلٍ سرّي اليوم، بل صارا في رحم اتّساع عمراني ممتّد إلى ملمح الكثبان وهي تعانق جبال "أولاد نايل".
وصل إلى ساحة الشهداء. المكان يحتفظ بتفاصيله الأولى، تتوسّط بقايا نافورة "الفوّارة" الجنيْنة، وأشجار الدفلى وارفة بزهرها الأحمر، وشجيرة التوت تلك. كان في العشرين من عمره حين رمقها تمرّ تحت أغصانها فتوهّج وجهها بلآلئ شمس الأصيل، حين تسنّى له أن يلمح قدّها الممشوق، كسرت قلبه عيونها الذابلة، وسمع الرجال يهمسون إلى بعضهم البعض:
- كُلْما تَخرُجْ هَذي البْنِيّة، تْقُولْ للشمس طُلّي ولاّ نْطلّ".
أسرع في صبيحة الغد إلى خطبتها، وزُفّت إليه بعد ثلاثة أسابيع. يذكر أنه عاشرها من دون أن يقبلها يوماً، وبطنها كان ينتفخ ويتكوّر كلّ ليلة، لا يتذكّر أنها ارتعشت بين ذراعيه أو تأوّهت يوماً، ربما تمنُّعها عنه هو ما جعله يحبّها، ما زال يحبّها منذ نصف قرن.
أنجبت فاطنة منه، وظلّ وجهه متجهّما مسودّاً عبوساً، فهو لم يرغب في أنثى، وقال لها على فراش النفاس إنها كانت فأل شؤمٍ عليه، حيث ماتت والدته بغتةً بعد شهرٍ واحدٍ من زواجهما. وفي ليلة مخاضها، سمعت كل البلدة دويّ الرصاصة الأولى، لقد فعلها الرجال في تلك الليلة وحملوا السلاح وصعدوا إلى الجبال.
لم يمض وقت طويل على ولادة ابنته حتى دَكّ بدلتين في حقيبته وغادر قبل أن يختار لها اسماً، ثم اختفى لسنواتٍ، فلم يسمعوا عن أخباره إلاّ ما شاع عن وشايته بمخبأ جاره المناضل الذي عُذّب وأُعدم بالمقصلة، كما قيل أيضا إنّه فرّ في باخرة يوم "السيسيلفوا"2، خوفاً من أن يُقتلع رأسه بفأسٍ جزاء خيانته الثورة، فيُعلَّق جسده على أسوار المدينة ليشتُمه أهلها ويشمتوا فيه جيئةً وذهاباً.
قال له جاره بلعيد إن ابنته اسمها حورية، وزوجته فاطنة ربطت حزام جبّتها النايلية بعده، وظلّت أرملةً منذ ربيعها التاسع عشر. أمّا عندما زاره في بيته القصديري في ضواحي مارسيليا في الأيام الأولى للحرّية، فحكى له عن هؤلاء "البرّاوية"3 الذين أغاروا على حيّهم في بوسعادة، فحرقوا كلّ ما في بيوت المعمّرين وعملائهم من الحرْكى"4، ليحلّ القرويّون فيها بحصائرهم ودواجنهم، وربطوا أغنامهم إلى الشرفات. مرّوا على مقربةٍ من بيته ثم رحلوا.
قال له بلعيد أيضاً إن فاطنة تتمنّع عن تسلّم رسائله، وتردّ له الحوّالة الشهرية التي يرسلها. تقول لساعي البريد إن "الفرنك" لم يعد صالحاً هنا. كلّ ما عرفه عن ابنته أنها تزوّجت أحد أبناء الشهداء وأنجبت ولداً. مات جاره وانقطعت الأخبار منذ سنين. وها هو اليوم يعود ليُصلح ما أفسده القدر.
عند الزاوية في مخرج الساحة، بائع الجرائد ومكتبة رفعت أعلى واجهتها لافتة "بيع مستلزمات الهاتف النقّال". بالقرب منهما كان هناك في الماضي بقّال وبائع حليب، يبدو أنّهما رحلا، لكن المقهى لا يزال في مكانه. دخل إليه واستلقى بجسده المنهك على كرسي بلاستيكي وراح يتأمّل الحوانيت الجديدة وضوضاء السيارات وهرج الناس من حوله.
ارتشف سائلاً أسود عُصر من الماكينة البخارية، بلع الجرعة عائفاً فلم يعد للقهوة مذاق ولا مزاج. فجأةً، ملأت رائحة البنّ المحمّص المكان، وأصبحت الكراسي خشبيةً، والرجال بعمائمهم وجلابيبهم الصوفية يجلسون قربه، بدؤوا يقلّبون الفناجين الفخّارية بين أصابعهم، ويلملمون لفافات التّبغ في أكفّهم وينتشون، ثم سمع طقطقة عربات تجرّها الأحصنة، ورأى رجالاً ونساء في الجوار ببذلاتهم الأوروبية يمشون مثنى مثنى. سمع أحدهم يهمس لصاحبه:
- يا اللّه نروحوا، لقد جاء البيّاع5.
ارتعدت البطارية المغروسة في شرايين قلبه المريض، لكن سرعان ما خمدت الجلبة حوله ووجد نفسه وحيداً مركوناً وسط الكراسي الفارغة، فحمد ربّه على أنها كانت مجرّد أضغاث أحلام.
تفحص القهواجي الشاب حقيبة الرجل الغريب وتقاسيم وجهه الذي لفحته الشمس:
- عمّي الحّاج... راح نقفل المقهى.
وقف العجوز في الطابور أمام باب دكّان قريب، حيث أطربته لكنة الناس ومزاحهم، وجرت عربيتهم الدافئة في عروقه، فلاحت أمامه ذكريات الكتاتيب والشيخ بوجمعة يزجر وينفخ حنجرته حتى توشك عيناه على السقوط من محجريهما، ثم يصيح: "الألف ما ينْقطْش، الباء نقطة من تحت، والتاء زوج من الفوْق". كان الشيخ الكفيف يلوّح بسوطه، فيذعن الصغار ويهمّون بالتدويح والترتيل، يعانقون اللوح المطلي بالصلصال الذي كُتبت عليه الآيات بالمداد الطاهر. ما زال يحفظ "الفاتحة" و"الإخلاص"، السورتين الوحيدتين اللتين يقرأهما في صلاته.
من ينسى ساعة "الفلقة"؟ كانوا يتباكون من الضحك كلما عوقب أحدهم، وكان يحين دورهم لا محالة. جلبت ابتساماته الضاجّة بالحنين أنظار الزبائن المندهشة، نفض ذاكرته المكتظّة ثم سأل البائع بعربيته المفرنسة:
- من فضلك، هل تعرف دار داوو... داوود البيّا؟
لمع في نظرة الحانوتي الهرم شيء ما:
- اقطع الطريق اللي جاية، تلقى دار قديمة، هذيك هي.
شكره ثم مسح قطراتٍ من العرق البارد، وأكمل طريقه مطمئناً. شاهد على ناصية الشوارع جمهرةً كثيفة، وتلاميذ يرتدون مآزر بالألوان ذاتها، يصطفّون ويستقيمون ثم يرفعون الراية وينشدون "قسماً". الرايات في كل مكان تتدلّى من السماء مرفرفةً مثل فراشات الجنّة، تراءى له طيْف "علي ...علي زيان" يتوسّط الجموع وكأنّه حيّ يرزق، فتذكّر منظره عندما كان يشدّ على قلبه مطارَداً بين الزقاق جريحاً، ثم تمايل وتراخى وتهاون ثم سقط. ما كان ليتمكنّ منه الجنود الفرنسيون لولا وشايته.
عندما أُعدم رفقة ثوّار آخرين، وذهب هو ليقبض، أجابه الضابط الفرنسي قائلاً: "الواشون لا يكافئون".
ذاكرته طريّة وإن اشتعل رأسه شيباً، فهو يتذكّر صراخ النائحات الذي يمزّق الأفئدة وكأنّهم شيّعوا علي البارحة فقط، فعندما رفعوا جسده المُسجّى بمثل قطعة الكتّان المرفرفة هناك، تقعقعت السماء بالزغاريد، وبكت الصبايا اليافعات بدموع قليلة الملوحة، كأنهنّ فرحات. تزعزع ضميره بعد تلك الجنازة المهيبة، وأراد حينها أن يعرف ما الذي يجعلهنّ يخطن سرّاً تلك القطع الملوّنة، ويطرزن عليها نجمة وهلالاً بفرح وحذر، ويخبّئنها مثل أثوابٍ ثمينة في جهاز عرسهن. كنّ غير مكترثات إن أغار عليهن الجنود في الليالي الحالكات، لينتهي بهن الأمر في زنزاناتٍ معذبات ومغتّصبات، وكأنهم عثروا بحوزتهن على سلاحٍ أو منشورٍ سريّ. حدث كل ذلك قبل خمسين عاماً، وهو لم ينس ولن يقدر على ذلك.
بخطىً كئيبة وجسدٍ مثقل بالهموم، مشى العجوز حتى وجد نفسه وسط جمهرةٍ من الناس في ساحة الاحتفال، قصد أحد التلاميذ وربّت على كتفه سائلاً:
- وليدي، كاين محلّ ورد قريب من هنا؟
- لا، ولكن رئيس البلدية سيضع إكليلاً عند نصب الشهيد. أستطيع أن أسرق لك واحدة إن رغبت؟
أردف مبتسماً:
- إذن، هل تعرف بستاناً في الجوار؟
لفتت باقة الأزهار البرّية في يده أنظار الجيران الرابضين بضجرٍ عند العتبات، يبددون الوقت وينتظرون اللاشيء، ثم تناظروا وتهامسوا، فهو يبدو غريباً وهم يطردون الملل فحسب. لقد وجده أخيراً.
لاح المنزل بين البناءات الحديثة مكابراً وصامداً، لم يتغير شيء في معماريته إلا ما لُحّم على النوافذ من القضبان الحديدية. حينها، شغّفت ذكريات الصبا قلبه فلم يستطع منها فكاكاً، ولن يمكنّه الصبر من رفع المزلاج ودق الباب الخشبي. رتّب الزهور ثم نفض أكمام بدلته وعدّلها، فهو سيتمنى لحورية عيد ميلاد سعيداً، ويحمل إليها وثيقةً ثمينةً في حقيبته حيث كتب فيها أملاكه ومحلّاته ورصيده لها ولحفيده. ربّما سيغفران له ما ألحقه بهما من عار، فالجميع هنا يحلم بالعيش هناك.
فُتح الباب، أطلّت امرأة في الخمسين من عمرها، فبينما هي تتأمّل وجه الطارق وحزمة أزهارٍ وحقيبة في يده المرتعشة، تطابقت ظلاهما فانفلتت دموع من عينيها. تراجعت حورية بخطوتين ثم أجهشت.
حيطان المنزل تسرد أحاديثها، وتهمس بما اندّس فيها من المسرّات والشدائد، وغبش من الذكريات المتواترة تلتحفه بحنو، ركن حقيبته وراح يتوسّم زوايا منزل تسكن تفاصيله فؤاده، حيث عادت حورية مع وحيدها للعيش فيه بعد رحيل زوجها، لم تحتمل ضرّتها والورثة المتصارعين على تركة أبيهم الشهيد. اقترب أبوها من صورة شابّ معلّقة على جدار غرفة الراحلة فاطنة، وحدّق في عينيه مقهوراً متصلّباً، فالملامح التي أمامه ليست غريبة عنه.
قالت ابنته:
- أسمته أمّي داوود... مثلك.
تناول من يدها فنجان القهوة، وهو يطارد خيطاً ضائعاً من سيرة ابنةٍ تركها كتلة لحمٍ غضّة ليجدها امرأةً قد تجاوزت سنّ اليأس، بدأ الكلام يراوغ شفتيه المتخمتين بالصبر والحسرة، ثم يغالب الصمت فيغلبه، إلى أن تعب وهو ينتظر سماع حركةٍ ثالثة تدّب في مجلسهما. لقد نفذ صبر العجوز ولم يأت أحد.
بعدما أطفأ جمرة الوجوم في داخله، نطق أخيراً:
- وقتاش يجي وليدك يا حورية؟
تعالت من أسفل الرابية أصوات المدينة المحتفلة بعيد الثورة، وتداخل إيقاع الأناشيد مع طلقات البارود وهي تزمجر كالرعد تحت سماءٍ من دخان، فوضع الغريب الزهور وهمّ بقراءة السورتين، ودنا معصور القلب يزيح بعض الأعشاب العالقة على شاهد القبر، فقرأ اسم داوود دون تكلّفٍ، ثم لبس نظّارته السميكة على عجلٍ مرتبكاً، وتهجّى الحروف:
- داوود... ز يـــ ا ن.
تسرّب إليه صوت امرأة طاعنة في السن، تجلس على حافة القبر المجاور، وترّش الحشائش البرّية على جوانبه، اقتربت منه وهي تنتحب وتعصر أرنبة أنفها بطرفي عصابتها، وقالت:
- كيف تصبر أمّ هذا الغزال على فراقه وتنسى؟ لقد كوى قلبها المسكينة بحرقتين، مرّة عندما ركب البحر وغاب، ومرّةً حين عاد إليها ممدّداً في صندوقٍ خشبي.
لم يعد يسمع شيئاً، بينما ظلّت شفتا العجوز ويداها تتحرّكان، كأنّها تتكلّم وتبكي وتناجي. فجأةً، فرقع صوت ردّد الفراغ صداه، فانتبه إلى تملّص ظلّها عن ظلّه المثقوب بقطرات الدمع، لمحها تتعثّر كحمّالة الحطب وسط القبور، ويتبدّد حائكها المرمري وسط سحابات ملّونة..
أضاءت الألعاب النارية سقف السماء وزلزل البارود الأرض من تحته. لم يعد يرى شيئاً وكأن الظلام خيّم عند الظهيرة.
1 كلمة عامية تعني الغريب
2 وقف إطلاق النار في 19 آذار/ مارس 1962
3 جمع برّاني، وتعني سكّان الأرياف أو الأجانب
4 الخونة
5 الواشي
* كاتبة وقاصّة جزائرية من مواليد 1981، صدرت لها مجموعتان قصصيتان؛ هما: "أزرق جارح" (2009) و"البرّاني" (2016)، ومسرحية بعنوان "مدن الكرتون" (2014). القصّة من مجموعتها الأخيرة.