هناك في العالم من ينتبه إلى ذلك. يضيفون إلى عنوان توفيق الحكيم "الطعام لكل فم" حقاً جديداً: الموسيقى ابنة الهواء اللانهائي. الهواء: أرخص موجود وأغلى مفقود.
التقيت القطب في دار الأوبرا بالحي الثقافي "كتارا"، حيث أحيت أوركسترا قطر التقليد الموسيقي المسمى "حفل العام الجديد" وهو نمساوي المنشأ، وغدا عالمياً.
تراث موسيقي للبهجة والتفاؤل في بداية كل عام، اكتسى رمزيته منذ ليلة رأس السنة، 31 ديسمبر/ كانون الأول 1939، حين عزفت الأوركسترا في فيينا موسيقى للعام 1940 الذي سيهلّ، في مواجهة جحيم وقع منذ ثلاثة أشهر الأول من سبتمبر/ أيلول 1939، وسموه الحرب العالمية الثانية.
بين القطع العديدة على مدار ساعتين كانت للقطب مشاركة كبرى، والأصعب، تمثلت في كونشرتو البيانو للنمساوي المجري فرانز ليست. ولأنها صعبة، تبدو بالطبيعة مغايرة للموسيقى المرحة مثل البولكا والفالس.
يقول القطب "عادة، تكون قطع كونشرتو البيانو مؤلفة خصيصاً لهذه الآلة، كي تبرز مهارات العازف، وترافقه الأوركسترا. لكن في هذا الكونشرتو يظهر دور الأوركسترا بقوة. فليس عازف البيانو وحده، إنما كل عازف لديه مقاطعه الصعبة التي يؤديها. ورغم الطابع التأملي العميق، إلا أن هذه القطعة تختتم بما يشبه المهرجان الموسيقي".
لكن العازف الذي يبرز مهاراته على البيانو في حضور مهيب لأوركسترا ضخمة، مسكون بالموسيقى التي تعود بالإنسان إلى الإيقاع الأول الرحمي، مع دقات قلب الأم التي يخبرها الجنين، ويعدها بروحه ما بين ستين إلى ثمانين دقة، وهي التي يحن إليها الناس، كلما كبروا لأنها ترافقت مع الخلق الأول.
سنوات طويلة قضاها القطب في الاشتغال على تطوير مهارات ذوي الإعاقة من خلال الموسيقى. جاء الطبيب عام 2006 إلى سورية بهذه السبل المساعدة، ليقترب من أطفال التوحد ومتلازمة داون وسواهم.
وبعد مغادرته بلاده جاب عديد الدول بنشاطات فنية وورش ومؤتمرات، رسخت اسمه في ميدان حقوق المساواة موسيقياً، وفي ميدان آخر أكثر أهمية، وهو مساعدة فئات ذات إعاقات على قطع مسافات متقدمة من التواصل مع الباقين من حولهم.
يشرح وسيم القطب "استعملتُ الموسيقى، لا للاستماع إليها، بل لتحسين مهارات وسلوك أطفال مصابين بالتوحد، على سبيل المثال".
* ماذا تقصد بـ"لا للاستماع إليها"؟
- يعني أن الموسيقى صوت ذو طاقة، نستخدمها للتأثير على جسم الإنسان وإدراكه والحصول على تعديلات سلوكية، وليس فقط لفوائدها حين نستمع إليها، من إراحة الأعصاب، وما أشبه ذلك. فالطفل الذي لا يميز الجهات الأربع، يكون لديه عادة مدرب خاص يدربه عبر ترديد: يمين يسار، أملاً في أن يحفظ الجهات.
دوري، كان إدخال الصوت لمساعدة الطفل على تحسين ذاكرته السمعية، عبر تعليمه شيئاً جديداً يربط اليمين بمصدر صوت معين، واليسار بصوت معين آخر، وهذا أكثر فاعلية.
هناك مثال التأتاة، ولك أن تلاحظ أن الطفل الذي يتأتئ، إذا طلبتَ منه الغناء، فإنه يفعل ذلك بطلاقة، وحين تطلب منه التكلم يتأتئ.
والتفسير الطبي واضح. فمركز الغناء موجود في الجهة اليمنى من الدماغ، ومركز الكلام في الجهة اليسرى. والمعالج هنا يستخدم مركزاً دوره أن يتكلم، لكن كأنه يغني، إذ أثبتت البحوث العلمية أنها هذه الطريقة تساعد في نمو الخلايا العصبية حول المكان المصاب، وبناء مشابكات جديدة تسمح للسيالات العصبية بالمرور حوله.
* منذ مغادرتك البلاد، هل لاحظت استكمالاً لمشروعك الذي بدأته في 2006؟
- سأقول بالجملة إن العلاج بالموسيقى يحتاج إلى دراسة. والناس قد يظنون أن أي موسيقي يمكن أن يصبح معالجاً، وهذا أمر خطير، لكن ذلك لا ينفي وجود تجارب فردية جيدة.
بعد مغادرتي سورية، استمررت في قطر من خلال ورش، كالتي أقيمت للأطباء والممرضات في جامعة ويل كورنيل، وندوة توعوية في مشفى سدرة، ومعرض في متحف الفن الإسلامي.
حكايات سورية
كما يمكن تخيل المساحة الإبداعية التي يمضي إليها من دور الأوبرا مع الأوركسترات، إلى الموسيقى بوصفها خدمة مساندة لذوي الإعاقة، نذهب مع قطب إلى منجزه الذي يعتز به.
إنه هنا مؤلف موسيقي لمتتالية من خمس قطع اسمها "حكايات سورية"، ضمن مشروع اسمه أوديوفيزابيليتي (An Audiovisability) أي الصوت والصورة إذ يندمجان مع بعضهما البعض.
* حدثني عن هذه الحكايات السورية التي لم تنل حقها من الشهرة الكافية.
- في هذه المتتالية حاولت أن أفسح المجال كي تكون موسيقاي متاحة للعازفين، دون تفرقة أيضاً كما للمتلقين.
هي مزيج بين الموسيقى الشرقية والغربية مبنية على ألحان سورية معروفة، تضم العود والإيقاع الشرقي. من الموسيقيين سوريون وإنكليز. أنت تابعتهم على يوتيوب. هناك على المسرح مؤدون ذوو إعاقات مختلفة، مثل عازفة الفلوت التي لديها إعاقة سمعية، لذلك كانت تستعين بجهاز مساند للسمع.
كنا نتخيل كيف يمكن أن تصل الموسيقى إلى أصم؟ وما الألوان التي تخطر بالبال مع كل موسيقى؟ أنجزنا رموزاً لونية لكل لحن، ترجمت إلى لوحات. والشابة التي ترسم لديها إعاقة بصرية بنسبة 95%. كانت تسمع وتتخيل وتحول الموسيقى إلى صورة.
أيضاً أضفت إلى المقطوعات المسجلة، كلمات توضيحية. ومع العرض الموسيقي والرسم المباشر، هنك لغة الإشارة، لكنها لا تترجم، فورياً كما نشرة الأخبار، بل تحول الكلمات إلى أداء حركي.
يعني هذا بالمحصلة أننا استخدمنا أكثر من حاسة حتى نفهم الموسيقى. أعد هذا من أهم المشاريع التي خضناها، لأننا استطعنا أن نصل إلى الإنسان بغض النظر عن حالته التي تمنعه من التفاعل مع الموسيقى على المسرح.
هذه المتتالية الموسيقية عزفت في لندن بالمركز العربي البريطاني ومهرجان أدنبرة العالمي، ومركز فابريكا في برايتون.