31 أكتوبر 2024
عالم جديد يولد من تصدّع الشرق الأوسط
يشبه الشرق الأوسط اليوم أوروبا عشية نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث جميع الأطراف منهكة القوى، ومحطّمة الآمال، وتنتظر من يخرجها من المأزق، وإذا كانت المسالك، في تلك اللحظة، في أوروبا واضحةً، نظراً لأن الحرب انتهت إلى تشكّل نظام دولي جديد، أنهى دينامية الحرب، وصنع سياقا للتغيير، وأوجد آلياتٍ كاملة للانتقال، فإن هذه اللحظة تبدو بعيدة المنال في الشرق الأوسط.
انتهت اللعبة القديمة، بقواعد اشتباكها وأنظمتها الإقليمية، بتحالفاتها وخصوماتها وصراعاتها. كل الأحلام تكسّرت في خضم الوقائع، لا ثورات الشعوب استطاعت إرساء أنظمة ديمقراطية مدنية وعادلة، كما حلمت بها، ولا الثورات المضادة استطاعت استعادة الأمجاد السلطوية السابقة. وما حصل أن مطالب الشعوب جرى إخضاعها للعبة الأمن والسلام التي وضعتها الأنظمة بدائل للشعوب في مواجهة الثورات، فيما جرى إخضاع بقايا الأنظمة التي تم إنقاذها من السقوط لقوى خارجية، حيث بات من النادر العثور على نظام شرق أوسطي غير تابع، وبدرجة كبيرة، لقوى خارجية.
خضع الجميع إلى قاعدةٍ جديدةٍ، تقوم على مبدأ ممنوع أن يأخذ طرفٌ، حاكم أو محكوم، كل شيء، لم تأخذ الشعوب الحرية والعدالة، لكن انتهى زمن رفاهية الأنظمة السياسية، وصار صاحب السلطة مثل ثور الساقية الذي يبقى يدور، لكي يثبت أنه أفضل من الثورات، في ظل سلبيةٍ منقطعة النظير من الجماهير تجاه السلطات، وحالة عدم استجابة حتى على صعيد دفع الضرائب.
يجلس الجميع في الشرق الأوسط اليوم على الجمر، بعد أن شذّب أحلامه إلى أبعد مدى، وبات ينتظر ما تجود به المتغيرات والحوادث، اكتفت تركيا بالقليل. وبعد أن أرادت أن تكون سورية طريقها للنفوذ في الشرق الأوسط الأوسع، اكتفت من سورية بالباب، لتغلق من خلالها بوابة الحلم الكردي، وإيران التي حلمت بخيول فارس تجري في كثبان الشرق الأوسط تتوسّل روسيا اليوم للعبور من سمائها إلى سورية، علّ ذلك يرسل رسالةً إلى ترامب الذي يتوعّدها بالمطاردة إلى ما بعد طهران، ومصر تبحث عن تكليف أميركي في ليبيا أو غزة، يستطيع من خلاله نظامها إثبات أنه أكبر من أزمة السكّر، وأنه يستحق الرز بكل معنى الكلمة.
في سورية، انتهى نظام الأسد إلى سجّان محلي، كل ما يملكه هو قوائم بأسماء السوريين وخرائط عن مواقع البلاد يزوّد بهما إيران وروسيا، لتسهيل حركة قواتهما، مع وشاياتٍ يقدّمها بشار الأسد عن بعض اللاجئين. أما الثورة فهي تتلمس أطرافها، لتتاكد مما إذا كانت لا تزال على قيد الحياة، فمرّة تنفض قدمها في درعا، ومرّة تهز كاحلها في الغوطة.
لكن، وحتى لا يفهم من التحليل أن هناك قوى خفية تحرّك المشهد الشرق أوسطي، وتدير تفاعلاته، بما قد يوقعنا في شبهة التحليل المؤامراتي، يتوجّب التنبه إلى حقيقة أن القوى الدولية الكبرى في الشرق الأوسط، وتحديداً روسيا والولايات المتحدة الأميركية، ليست بالقوة المسيطرة إلى درجة تجعلها قادرةً على ضبط الصراعات، وتخريج المشهد وفق رؤيتها. ولو كان الأمر كذلك، ربما لكانت الإشكالية أقل حدّة، بدليل أن روسيا تتلطى خلف مليشيات إيران الفوضوية، لتثبّت أقدامها في الحقل السوري، وهذه تتظلّل بحمايتها في حربها المذهبية العدمية، وأن أميركا تائهة بين دعم الاكراد في سورية وبقايا جيشٍ أقرب للمليشيا، في العراق. وفي الحالتين، تتلطى مصالح دولية خلف أدواتٍ محليةٍ فوضويةٍ، تبحث، هي الأخرى، عن مصالح لا عقلانية، فلم تعد أميركا، المتورّمة جراحها، قادرة على التدخل بكامل قوام قوتها، كما حصل في العراق، ولا هذه روسيا التي دخلت أفغانستان بجيوشها الجرّارة، وتعتمد مبدأ الحرب باللسعات عن بعد، ويجري ذلك كله تحت مسمى ذكاء استراتيجي، يتجنب من خلاله القادة الابتعاد عن شبح الغرق في مستنقعات الصراع.
الواضح أن العالم في بداية مخاض تشكّل نظام دولي، لم يأت نتيجة حربٍ فاز فيها طرفٌ واضحٌ، بل هو نتيجة تطوراتٍ متراكمةٍ، وصلت إلى حالةٍ من الفوضى، أربكت النظام العالمي القديم الذي لم يعد قادرا على السير وفق الأسلوب القديم. وفي هذه الحالة، لم يعد ممكنا للتفاصيل الصغيرة أن تشكّل المشهد، ولا يستطيع الكبار، في الوقت نفسه، أن يفرضوا التشكّل الذي يرغبون به. التداعيات والاختبارات والرؤى والتصورات وكل مزيج ذلك سيصنع عالما جديداً غير الذي نحن في خضمه، والذي يبدو أن مفاعيله انتهت، وقيمه لم تعد صالحة. أما الإطار الزمني لهذا التحول، فسيستغرق زمناً ليس قصيراً، تبعاً لحذر أطرافه الشديد. وليس بالضرورة أن ينتهي إلى حالةٍ تسيطر فيها إحدى القوى الراهنة، فقد تتنحّى هذه الدول، أو بعضها، ويخرج تشكّل مختلف، ومقدار الاستنزاف وطبيعة الانخراط والقدرة على الاستمرار والطاقة، كل تلك شروطٌ وعناصرُ ستحدّد ماهية القوى الصاعدة والمؤثرة.
من أحد الأخطاء التحليلية تصوّر صعود نظام عالمي ثنائي القطبية من أميركا والغرب مقابل الصين وروسيا، أو نظام ثلاثي الأقطاب، أميركا، روسيا والصين، مع إهمال حقيقة وجود إرهاصاتٍ بنظام دولي أوسع من ذلك بكثير، قد يشمل، إلى جانب تلك القوى، اليابان والهند وأوروبا بقيادة ألمانيا. وسيكون ذلك مؤشراً على الاستجابة للتحديات التي تواجهها تلك الأطراف، وقد يحقق هذا التشكّل التوازن المطلوب، وقيادة أفضل للعالم، بعد ظهور متغيرين أثّرا بشكل كبير في البيئة الأمنية الدولية: العولمة ونتائجها الكارثية، وتصدّع العالم الثالث.
انتهت اللعبة القديمة، بقواعد اشتباكها وأنظمتها الإقليمية، بتحالفاتها وخصوماتها وصراعاتها. كل الأحلام تكسّرت في خضم الوقائع، لا ثورات الشعوب استطاعت إرساء أنظمة ديمقراطية مدنية وعادلة، كما حلمت بها، ولا الثورات المضادة استطاعت استعادة الأمجاد السلطوية السابقة. وما حصل أن مطالب الشعوب جرى إخضاعها للعبة الأمن والسلام التي وضعتها الأنظمة بدائل للشعوب في مواجهة الثورات، فيما جرى إخضاع بقايا الأنظمة التي تم إنقاذها من السقوط لقوى خارجية، حيث بات من النادر العثور على نظام شرق أوسطي غير تابع، وبدرجة كبيرة، لقوى خارجية.
خضع الجميع إلى قاعدةٍ جديدةٍ، تقوم على مبدأ ممنوع أن يأخذ طرفٌ، حاكم أو محكوم، كل شيء، لم تأخذ الشعوب الحرية والعدالة، لكن انتهى زمن رفاهية الأنظمة السياسية، وصار صاحب السلطة مثل ثور الساقية الذي يبقى يدور، لكي يثبت أنه أفضل من الثورات، في ظل سلبيةٍ منقطعة النظير من الجماهير تجاه السلطات، وحالة عدم استجابة حتى على صعيد دفع الضرائب.
يجلس الجميع في الشرق الأوسط اليوم على الجمر، بعد أن شذّب أحلامه إلى أبعد مدى، وبات ينتظر ما تجود به المتغيرات والحوادث، اكتفت تركيا بالقليل. وبعد أن أرادت أن تكون سورية طريقها للنفوذ في الشرق الأوسط الأوسع، اكتفت من سورية بالباب، لتغلق من خلالها بوابة الحلم الكردي، وإيران التي حلمت بخيول فارس تجري في كثبان الشرق الأوسط تتوسّل روسيا اليوم للعبور من سمائها إلى سورية، علّ ذلك يرسل رسالةً إلى ترامب الذي يتوعّدها بالمطاردة إلى ما بعد طهران، ومصر تبحث عن تكليف أميركي في ليبيا أو غزة، يستطيع من خلاله نظامها إثبات أنه أكبر من أزمة السكّر، وأنه يستحق الرز بكل معنى الكلمة.
في سورية، انتهى نظام الأسد إلى سجّان محلي، كل ما يملكه هو قوائم بأسماء السوريين وخرائط عن مواقع البلاد يزوّد بهما إيران وروسيا، لتسهيل حركة قواتهما، مع وشاياتٍ يقدّمها بشار الأسد عن بعض اللاجئين. أما الثورة فهي تتلمس أطرافها، لتتاكد مما إذا كانت لا تزال على قيد الحياة، فمرّة تنفض قدمها في درعا، ومرّة تهز كاحلها في الغوطة.
لكن، وحتى لا يفهم من التحليل أن هناك قوى خفية تحرّك المشهد الشرق أوسطي، وتدير تفاعلاته، بما قد يوقعنا في شبهة التحليل المؤامراتي، يتوجّب التنبه إلى حقيقة أن القوى الدولية الكبرى في الشرق الأوسط، وتحديداً روسيا والولايات المتحدة الأميركية، ليست بالقوة المسيطرة إلى درجة تجعلها قادرةً على ضبط الصراعات، وتخريج المشهد وفق رؤيتها. ولو كان الأمر كذلك، ربما لكانت الإشكالية أقل حدّة، بدليل أن روسيا تتلطى خلف مليشيات إيران الفوضوية، لتثبّت أقدامها في الحقل السوري، وهذه تتظلّل بحمايتها في حربها المذهبية العدمية، وأن أميركا تائهة بين دعم الاكراد في سورية وبقايا جيشٍ أقرب للمليشيا، في العراق. وفي الحالتين، تتلطى مصالح دولية خلف أدواتٍ محليةٍ فوضويةٍ، تبحث، هي الأخرى، عن مصالح لا عقلانية، فلم تعد أميركا، المتورّمة جراحها، قادرة على التدخل بكامل قوام قوتها، كما حصل في العراق، ولا هذه روسيا التي دخلت أفغانستان بجيوشها الجرّارة، وتعتمد مبدأ الحرب باللسعات عن بعد، ويجري ذلك كله تحت مسمى ذكاء استراتيجي، يتجنب من خلاله القادة الابتعاد عن شبح الغرق في مستنقعات الصراع.
الواضح أن العالم في بداية مخاض تشكّل نظام دولي، لم يأت نتيجة حربٍ فاز فيها طرفٌ واضحٌ، بل هو نتيجة تطوراتٍ متراكمةٍ، وصلت إلى حالةٍ من الفوضى، أربكت النظام العالمي القديم الذي لم يعد قادرا على السير وفق الأسلوب القديم. وفي هذه الحالة، لم يعد ممكنا للتفاصيل الصغيرة أن تشكّل المشهد، ولا يستطيع الكبار، في الوقت نفسه، أن يفرضوا التشكّل الذي يرغبون به. التداعيات والاختبارات والرؤى والتصورات وكل مزيج ذلك سيصنع عالما جديداً غير الذي نحن في خضمه، والذي يبدو أن مفاعيله انتهت، وقيمه لم تعد صالحة. أما الإطار الزمني لهذا التحول، فسيستغرق زمناً ليس قصيراً، تبعاً لحذر أطرافه الشديد. وليس بالضرورة أن ينتهي إلى حالةٍ تسيطر فيها إحدى القوى الراهنة، فقد تتنحّى هذه الدول، أو بعضها، ويخرج تشكّل مختلف، ومقدار الاستنزاف وطبيعة الانخراط والقدرة على الاستمرار والطاقة، كل تلك شروطٌ وعناصرُ ستحدّد ماهية القوى الصاعدة والمؤثرة.
من أحد الأخطاء التحليلية تصوّر صعود نظام عالمي ثنائي القطبية من أميركا والغرب مقابل الصين وروسيا، أو نظام ثلاثي الأقطاب، أميركا، روسيا والصين، مع إهمال حقيقة وجود إرهاصاتٍ بنظام دولي أوسع من ذلك بكثير، قد يشمل، إلى جانب تلك القوى، اليابان والهند وأوروبا بقيادة ألمانيا. وسيكون ذلك مؤشراً على الاستجابة للتحديات التي تواجهها تلك الأطراف، وقد يحقق هذا التشكّل التوازن المطلوب، وقيادة أفضل للعالم، بعد ظهور متغيرين أثّرا بشكل كبير في البيئة الأمنية الدولية: العولمة ونتائجها الكارثية، وتصدّع العالم الثالث.