خلال الحرب الدائرة في سورية، خسرت آلاف العائلات السوريّة معيلها. ثمّة رجال قتلوا أو اعتقلوا أو باتوا عاجزين عن العمل لسبب أو لآخر، فوجدت نساء أنفسهنّ مجبرات على خوض واقع جديد وصعب. كثيرات من هؤلاء لا يملكنَ شهادة جامعيّة، فيما لم تعتدْ أخريات العمل قط، إذ اعتدنَ العيش في كنف أب أو زوج يعيل الأسرة. إلى ذلك، باتت نسب البطالة مرتفعة جداً في البلاد، وباتت القوى المتحاربة بمعظمها تفرض شروطاً صعبة على المرأة وعملها.
تجارة في المنزل
تعيش أم علي مع طفليها علي وفرح في مدينة جسر الشغور في محافظة إدلب. زوجها، أبو علي، اعتقل من قبل الأمن السوري في عام 2012، لتتسلّم جثّته بعد سنتَين من اعتقاله. هذه المرأة التي لم تتجاوز الخامسة والثلاثين من عمرها، ما زالت ترتدي الأسود. لكن، رغم مأساتها، لا تغيب البسمة عن وجهها، خصوصاً حين تتحدث مع النساء اللواتي يقصدنَها لشراء الثياب. تقول: "بعد أربع سنوات، عرفت أنّ عليّ العمل، خصوصاً أنّ أحداً لن يتكفل بعائلتي في هذه الظروف". حين تزوّجت، تركت أم علي عملها في التدريس. وبعد اعتقال زوجها، عملت في إعداد المونة وبيعها، كالفليفلة اليابسة ودبس الرمان وغيرها. لكنّ هذا العمل لم يحسّن من وضعها. وبعد وفاته، قررت بيع الثياب الموجودة في محلّ زوجها. فصارت تبيعها في المنزل، "إذ لا يمكن لامرأة هنا أن تعمل في محلّ".
وتتعرض مدينة جسر الشغور لقصف الطائرات الحربية بين الحين والآخر، وقد هجرها كثيرون من سكانها خشية على حياتهم. أم علي فضّلت البقاء مع طفليها في المنزل، رغم القصف. تبرّر: "بالنسبة إلى امرأة مثلي، النزوح أمر صعب. ولأنّني رفضت عروض الزواج الكثيرة، تعرّضت لمضايقات، وهدّدني أحدهم بتقديم شكوى للهيئة الشرعيّة إذ إنّني أعيش من دون محرم، في حال لم أقبل الزواج منه. ولم يحلّ الأمر إلا بعد تدخّل الوسطاء". واليوم، تعيش أم علي وطفليها ممّا تجنيه من عملها في المنزل بعد شرائها البضائع بالجملة. وتوضح أنّه بسبب القصف وعدم قدرة النساء على التنقل بحرية في الأسواق، يفضّلنَ الشراء من المنازل، إذ يمكنهنّ الاستفادة من وقت أطول وانتقاءها بحرية والتفاوض مع البائعة. وتشير إلى أنّ "الناس هنا فقراء في الحقيقة، ولا يمكنني أن أجني ربحاً جيّداً. لكنّنا نعيش".
خبز التنور
عند السادسة من صباح كلّ يوم، تخرج تهامة من بيتها الريفي، وتقفل بابه على أطفالها النائمين. تخرج مع والدتها أم علاء وهما تحملان أكياس العجين وبعض قطع القماش والأواني النحاسية، وتتجهان إلى التنور الحجري الواقع عند جانب طريق رئيسيّ في ريف إدلب الغربي. ترتدي أم علاء، وهي امرأة ستينية في كامل صحتها، ثيابها الريفية الملوّنة التي اعتادت أن تخبز فيها ومعطفاً من الجلد الأسود، وتصرّ على حمل كل الأدوات.
هما من قرى ريف اللاذقية، وقد ترملتا في عام واحد. تهامة فقدت زوجها في إحدى معارك ريف اللاذقية بعد شهر من مقتل والدها بغارة جوية. وحالهما حال كثيرين من سكان ريف اللاذقية، اضطرتا إلى النزوح إلى ريف إدلب.
اقــرأ أيضاً
الطقس البارد يجبرهما على الانتظار طويلاً ريثما تشتعل نار التنور، قبل تحضير أرغفة الخبز. تقول تهامة: "خبز الأفران ليس متوفراً بكثرة في منطقتنا. نبيع كلّ ما نخبزه ونجني ما يعيننا على تغطية مصاريفنا وتربية أطفالنا. كانت أمي تخبز لنا ما يكفينا فقط، لكن بات علينا أن نخبز كميات كبيرة. إنّه عمل شاق لكنّنا نتحمّل مسؤوليّات كبيرة لتأمين الطعام واللباس والوقود وحماية أنفسنا". تنتهي أم علاء وابنتها من إعداد الخبز عند الظهيرة، وتسلّم الخبز لأحد الشبان الذي يوزّعه ويتقاسم معهما ربحهما الزهيد. تقول إنّ "المرأة لا تسلم من أفواه الناس مهما فعلت. حين يرونها من دون رجل، يظنّون أنّها ضعيفة. لسنا ضعيفات وما نفعله لا يفعله الرجال".
أطعمة جاهزة
بخلاف ابنتَيها اللّتين تدرسان في كلية الطب البشري، لم تعرف أم سماح الجامعة في حياتها. تقول: "بعد نزوحنا من حيّ صلاح الدين في عام 2012، كان زوجي يملك عربة خضار في حيّ الجميلية. في ذلك الوقت، كان وضعنا صعباً، وكنّا نحرم أنفسنا من كلّ شيء لنتمكن من تأمين مصاريف دراسة الفتاتين. وساءت الأمور حين أصيب زوجي بشظية قذيفة هاون في ظهره، وبات عاجزاً عن السير. وصرنا مهدّدين بإخلاء المنزل الذي استأجرناه وعدم متابعة ابنتَي تعليمهما الجامعي". تضيف: "فكّرت في العمل، وبدأت أطهو في المنزل وأبيع ما أعدّه لأحد المطاعم الراقية. لم أكن أجني مالاً كثيراً في ذلك الوقت، لكن بعد أشهر عدّة، عرض عليّ الطهي وإعداد الحلويات لأحد الأعراس. ومنذ ذلك الحين، بدأت تتزايد الطلبات".
في الوقت الحالي، تعجز أم سماح عن تلبية كلّ الطلبيات التي تردها. لذلك، باتت تستعين بنساء يحتجنَ إلى العمل. تقول: "من السهل لرجل أن يجد عملاً. على الأقل، يمكنه بيع أيّ شيء في الشارع، بخلاف المرأة. حالياً، أشرف على إدارة الطلبيات وتحضير الوجبات، إذ يجد الناس صعوبة في تحضير الطعام بسبب قلة المياه وغاز الطهي وانقطاع الكهرباء". تضيف أنّها في صدد فتح محلّ للمأكولات الجاهزة.
إعادة إنتاج الألبسة
اعتادت بدور منذ تخرّجها من كليّة الاقتصاد في جامعة دمشق، تحمّل مسؤولية أخواتها ومساعدة زوجها في تدبّر مصاريف عائلتهما الصغيرة. لكنّها، بعد اعتقالها وزوجها في عام 2012، بدأت المعاناة. بعد أشهر، أفرج عنها وفصلت من وظيفتها. تقول: "أمضيت عاماً كاملاً أبحث عن عمل. خلال هذه الفترة، كنت أنفق من مدخراتنا عليّ وعلى طفلي أحمد". تضيف: "في شتاء عام 2014، اتفقت مع أخي الذي يملك محلاً تجارياً صغيراً، ببيع بعض ملابس الصوف المشغولة يدوياً. مع الوقت، زاد الإقبال على المحل، وبتنا نملك ورشة وصرنا نوزّع ما ننتجه على عدد من المحال التجارية في دمشق". وتوضح أنّها تعيد إنتاج بعض الثياب المستعملة، بعدما تستخلص خيوط الصوف وتعقّمها. تحيكها من جديد و"هو ما يوفر علينا تكلفة شراء مواد أولية جديدة".
منذ نحو عامين، لم تعرف بدور أي شيء عن زوجها. تقول إنّ "المصاعب المادية هي أبسط ما تواجهه امرأة في مثل وضعي"، لافتة إلى أنّ البحث عن مصير زوجها كان مليئاً بمحاولات الاستغلال والابتزاز. تضيف: "عليّ أن أجيب على أسئلة طفلي حول والده. لكنّني لا أعرف إن كان ما زال حياً".
اقــرأ أيضاً
تجارة في المنزل
تعيش أم علي مع طفليها علي وفرح في مدينة جسر الشغور في محافظة إدلب. زوجها، أبو علي، اعتقل من قبل الأمن السوري في عام 2012، لتتسلّم جثّته بعد سنتَين من اعتقاله. هذه المرأة التي لم تتجاوز الخامسة والثلاثين من عمرها، ما زالت ترتدي الأسود. لكن، رغم مأساتها، لا تغيب البسمة عن وجهها، خصوصاً حين تتحدث مع النساء اللواتي يقصدنَها لشراء الثياب. تقول: "بعد أربع سنوات، عرفت أنّ عليّ العمل، خصوصاً أنّ أحداً لن يتكفل بعائلتي في هذه الظروف". حين تزوّجت، تركت أم علي عملها في التدريس. وبعد اعتقال زوجها، عملت في إعداد المونة وبيعها، كالفليفلة اليابسة ودبس الرمان وغيرها. لكنّ هذا العمل لم يحسّن من وضعها. وبعد وفاته، قررت بيع الثياب الموجودة في محلّ زوجها. فصارت تبيعها في المنزل، "إذ لا يمكن لامرأة هنا أن تعمل في محلّ".
وتتعرض مدينة جسر الشغور لقصف الطائرات الحربية بين الحين والآخر، وقد هجرها كثيرون من سكانها خشية على حياتهم. أم علي فضّلت البقاء مع طفليها في المنزل، رغم القصف. تبرّر: "بالنسبة إلى امرأة مثلي، النزوح أمر صعب. ولأنّني رفضت عروض الزواج الكثيرة، تعرّضت لمضايقات، وهدّدني أحدهم بتقديم شكوى للهيئة الشرعيّة إذ إنّني أعيش من دون محرم، في حال لم أقبل الزواج منه. ولم يحلّ الأمر إلا بعد تدخّل الوسطاء". واليوم، تعيش أم علي وطفليها ممّا تجنيه من عملها في المنزل بعد شرائها البضائع بالجملة. وتوضح أنّه بسبب القصف وعدم قدرة النساء على التنقل بحرية في الأسواق، يفضّلنَ الشراء من المنازل، إذ يمكنهنّ الاستفادة من وقت أطول وانتقاءها بحرية والتفاوض مع البائعة. وتشير إلى أنّ "الناس هنا فقراء في الحقيقة، ولا يمكنني أن أجني ربحاً جيّداً. لكنّنا نعيش".
خبز التنور
عند السادسة من صباح كلّ يوم، تخرج تهامة من بيتها الريفي، وتقفل بابه على أطفالها النائمين. تخرج مع والدتها أم علاء وهما تحملان أكياس العجين وبعض قطع القماش والأواني النحاسية، وتتجهان إلى التنور الحجري الواقع عند جانب طريق رئيسيّ في ريف إدلب الغربي. ترتدي أم علاء، وهي امرأة ستينية في كامل صحتها، ثيابها الريفية الملوّنة التي اعتادت أن تخبز فيها ومعطفاً من الجلد الأسود، وتصرّ على حمل كل الأدوات.
هما من قرى ريف اللاذقية، وقد ترملتا في عام واحد. تهامة فقدت زوجها في إحدى معارك ريف اللاذقية بعد شهر من مقتل والدها بغارة جوية. وحالهما حال كثيرين من سكان ريف اللاذقية، اضطرتا إلى النزوح إلى ريف إدلب.
الطقس البارد يجبرهما على الانتظار طويلاً ريثما تشتعل نار التنور، قبل تحضير أرغفة الخبز. تقول تهامة: "خبز الأفران ليس متوفراً بكثرة في منطقتنا. نبيع كلّ ما نخبزه ونجني ما يعيننا على تغطية مصاريفنا وتربية أطفالنا. كانت أمي تخبز لنا ما يكفينا فقط، لكن بات علينا أن نخبز كميات كبيرة. إنّه عمل شاق لكنّنا نتحمّل مسؤوليّات كبيرة لتأمين الطعام واللباس والوقود وحماية أنفسنا". تنتهي أم علاء وابنتها من إعداد الخبز عند الظهيرة، وتسلّم الخبز لأحد الشبان الذي يوزّعه ويتقاسم معهما ربحهما الزهيد. تقول إنّ "المرأة لا تسلم من أفواه الناس مهما فعلت. حين يرونها من دون رجل، يظنّون أنّها ضعيفة. لسنا ضعيفات وما نفعله لا يفعله الرجال".
أطعمة جاهزة
بخلاف ابنتَيها اللّتين تدرسان في كلية الطب البشري، لم تعرف أم سماح الجامعة في حياتها. تقول: "بعد نزوحنا من حيّ صلاح الدين في عام 2012، كان زوجي يملك عربة خضار في حيّ الجميلية. في ذلك الوقت، كان وضعنا صعباً، وكنّا نحرم أنفسنا من كلّ شيء لنتمكن من تأمين مصاريف دراسة الفتاتين. وساءت الأمور حين أصيب زوجي بشظية قذيفة هاون في ظهره، وبات عاجزاً عن السير. وصرنا مهدّدين بإخلاء المنزل الذي استأجرناه وعدم متابعة ابنتَي تعليمهما الجامعي". تضيف: "فكّرت في العمل، وبدأت أطهو في المنزل وأبيع ما أعدّه لأحد المطاعم الراقية. لم أكن أجني مالاً كثيراً في ذلك الوقت، لكن بعد أشهر عدّة، عرض عليّ الطهي وإعداد الحلويات لأحد الأعراس. ومنذ ذلك الحين، بدأت تتزايد الطلبات".
في الوقت الحالي، تعجز أم سماح عن تلبية كلّ الطلبيات التي تردها. لذلك، باتت تستعين بنساء يحتجنَ إلى العمل. تقول: "من السهل لرجل أن يجد عملاً. على الأقل، يمكنه بيع أيّ شيء في الشارع، بخلاف المرأة. حالياً، أشرف على إدارة الطلبيات وتحضير الوجبات، إذ يجد الناس صعوبة في تحضير الطعام بسبب قلة المياه وغاز الطهي وانقطاع الكهرباء". تضيف أنّها في صدد فتح محلّ للمأكولات الجاهزة.
إعادة إنتاج الألبسة
اعتادت بدور منذ تخرّجها من كليّة الاقتصاد في جامعة دمشق، تحمّل مسؤولية أخواتها ومساعدة زوجها في تدبّر مصاريف عائلتهما الصغيرة. لكنّها، بعد اعتقالها وزوجها في عام 2012، بدأت المعاناة. بعد أشهر، أفرج عنها وفصلت من وظيفتها. تقول: "أمضيت عاماً كاملاً أبحث عن عمل. خلال هذه الفترة، كنت أنفق من مدخراتنا عليّ وعلى طفلي أحمد". تضيف: "في شتاء عام 2014، اتفقت مع أخي الذي يملك محلاً تجارياً صغيراً، ببيع بعض ملابس الصوف المشغولة يدوياً. مع الوقت، زاد الإقبال على المحل، وبتنا نملك ورشة وصرنا نوزّع ما ننتجه على عدد من المحال التجارية في دمشق". وتوضح أنّها تعيد إنتاج بعض الثياب المستعملة، بعدما تستخلص خيوط الصوف وتعقّمها. تحيكها من جديد و"هو ما يوفر علينا تكلفة شراء مواد أولية جديدة".
منذ نحو عامين، لم تعرف بدور أي شيء عن زوجها. تقول إنّ "المصاعب المادية هي أبسط ما تواجهه امرأة في مثل وضعي"، لافتة إلى أنّ البحث عن مصير زوجها كان مليئاً بمحاولات الاستغلال والابتزاز. تضيف: "عليّ أن أجيب على أسئلة طفلي حول والده. لكنّني لا أعرف إن كان ما زال حياً".