تتغير الخارطة السياسية في ليبيا بنسق سريع نحو مزيد من التقسيم والفرقة، بعد مرور ما يقارب عاماً كاملاً على توقيع اتفاق الصخيرات، الذي ظنّ البعض أنه قد يكون مدخلاً لحل سياسي ينهي الحرب والفوضى الأمنية والانهيار الاقتصادي وسطوة المليشيات وشبح التقسيم. وما إن شرعت مختلف الأطراف تتهيأ لكي تتكيف مع المتغير المتمثل بسيطرة قوات خليفة حفتر، الذي رفض الاتفاق السياسي، على معظم آبار منطقة الهلال النفطي، حتى حصل تفكك جديد داخل طرابلس، إذ اعتبرت "المنظمة الليبية للسياسات والاستراتيجيات"، في تقرير، أن دخول رئيس حكومة الإنقاذ المنبثقة عن المؤتمر الوطني العام، خليفة الغويل إلى القصور الرئاسية "أنهى حالة الهدوء الأمني السياسي الذي استمر منذ دخول المجلس الرئاسي إليها في 31 مارس/آذار من العام نفسه". وقد كشف هذا التحرك عن أن الجبهة في العاصمة طرابلس مفككة، والجميع ليسوا على قلب رجل واحد.
وبدا أن حكومة الوفاق الوطني التي يقودها فائز السراج قد فشلت في تحقيق الأهداف التي تشكلت من أجلها، إذ لم تتمكن من بناء مؤسسات قوية، ولم تنجح في التقدم بخطوات ملموسة وثابتة في اتجاه توسيع دائرة الوفاق بين الأطراف الرئيسية المتنازعة، ولم تخلق الحركية المطلوبة حول الدستور المرتقب. ورغم الإنجاز العسكري الهام الذي تم تحقيقه في مقاومة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وتحرير مدينة سرت، إلا أن الحالة الأمنية لا تزال متردية، كما لم تتطور الخدمات الأساسية، ولا تزال انتهاكات حقوق الإنسان واسعة وخطيرة في ظل فوضى السلاح واستمرار غياب الدولة وعدم الالتزام بالقانون.
وبالرغم من استمرار تمسك الأطراف الدولية بحكومة السراج، رغم ضعفها وفقدانها التدريجي لمقومات البقاء، فإن هذه الأطراف ليست متفقة حول كيفية التعامل مع الملف الليبي، حاضراً ومستقبلاً، إذ لكل دولة حساباتها ورهاناتها. ففرنسا على سبيل المثال تعتبر أن استمرار حكومة الوفاق الوطني ضرورة، وتؤكد أنها مع القرار الأممي الداعم لهذه الحكومة، لكنها في الوقت ذاته تقف إلى جانب حفتر، وتدعمه وتدرب قواته، وقد انحازت إلى جانبه عسكرياً رغم عدم اعترافه بمختلف جوانب المسار السياسي الأممي في ليبيا. كما أن عيون فرنسا لم تفارق الجنوب الليبي الذي لها صلات قديمة به وبجزء من نخبه الفاعلة. وتقف إيطاليا في موقع مختلف، فهي لا تثق بتحركات حفتر وحلفائه داخل ليبيا وخارجها، وهي في ذلك مدعومة من قبل واشنطن ولندن، غير أنها في الوقت ذاته لم تقطع صلاتها به، ولا ترغب في مناوشته، وقد تتعاون معه سراً أو علناً من أجل تأمين مصالحها، مثلما فعلت أخيراً للحصول على جزء من النفط الليبي الواقع تحت دائرة نفوذ قواته. وتبدو روسيا حذرة، وهي تتوغل تدريجياً في الشأن الليبي، خصوصاً في ظل تصاعد خلافاتها مع واشنطن. فالسياسة الخارجية الروسية تستبطن في هذه المرحلة استعادة أجواء الحرب الباردة مع أميركا من خلال التموضع الجغرافي والسياسي، واستغلال المداخل بهدف منافسة الولايات المتحدة على مناطق النفوذ الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط وغيرها من العالم.
أما واشنطن ولندن فلهما سياسة متقاربة ومشتركة تجاه الملف الليبي، وقد بادرتا إلى عقد اجتماع لندن أخيراً عساه يحرك قليلاً المياه الراكدة. ويحاول الرئيس الأميركي، باراك أوباما قبل أيام من انتهاء ولايته أن يكفر عن ذنبه، وذلك بعد أن اعترف لشبكة "فوكس نيوز" بأن الخطأ الأكبر الذي قام به خلال ولايته هو "الفشل في التخطيط لما بعد الصراع" في ليبيا، وهو اعتراف جاء متأخراً جداً، ولم تعد له أي قيمة سياسية بعد الخراب الكبير. ومع أهمية توفر غطاء خارجي من هذا الحجم، فإن على السراج أن يجد لنفسه موطئ قدم فاعل ومؤثر في الداخل الليبي. الدعم الخارجي غير كاف لخلق معادلة جديدة من شأنها أن تحلحل الأوضاع وتؤسس لشرعية دائمة، فكيف يمكنه أن يحافظ على استمرار الدعم الدولي، إذا ما عجز عن إحكام السيطرة الأمنية على مدينة طرابلس، أو يحمي القصر الرئاسي بعد أن انقلب عليه الحرس المكلفون بحمايته بسبب عجزه عن دفع أجورهم؟ هكذا تستمر الباخرة الليبية وكأنها تترنح شيئاً فشيئاً، لا تملك قائداً فعلياً يتمتع بالخيال والكاريزما والالتفاف الشعبي، وليس لديها نخبة سياسية تغلب فكرة الوطن على المصالح الفردية والجهوية. الليبيون وحدهم هم الذين يدفعون ثمناً باهظاً.