في لحظة من تاريخ الأردن الحديث لم تأخذ حقّها في الدرس والتحليل، برز تيار بأفكار سياسية بدت مرفوضة للنظام الجديد الذي تأسّس عام 1921، لكنه استطاع تكريس وجوده لأسباب عديدة، ربما كانت القصيدة أهمّها، كما في حالة مصطفى وهبي التل (الملقّب بعرار)، حيث شكّلت أساس علاقته الإشكالية وأداته في السجال مع القصر.
وضَع فريق آخر لنفسه مهمّات رسولية تتعلّق بموقع الثقافة ودورها في صياغة الهوية والمجتمع، وكان في مقدّمته عيسى الناعوري وروكس بن زائد العزيزي، مقابل فريق آمن بـ المنظومة الرسمية باعتبارها النموذج الوحيد القادر على الوصول إلى دولة مستقرة وحديثة، وكان أبرز ممثّل له الشاعر عبد المنعم الرفاعي (1917 - 1985)، الذي تمرّ اليوم، السبت، ذكرى ميلاده.
في عام 1926 حمله القطار من صفد إلى عمّان ليلتحق بشقيقه الأكبر سمير الذي سيشكّل الحكومة الأردنية عام 1944، وفيها يُنهي صاحب ديوان "المسافر" تعليمه الثانوي وينتقل إلى بيروت لينال شهادة الأدب العربي من "الجامعة الأميركية" عام 1937، ويعود منها إلى عمّان ليعمل مدرّساً لعام واحد.
تُجمع المرويات الأولى على نبوغه المبكّر الذي يضعه في مكانة ليست بعيدة عن رموز الجيل الثاني الذين كتبوا عمود الشعر، مثل محمد مهدي الجواهري وعمر أبو ريشة، وستظلّ حادثة لقائه للمرة الأولى عبد الله الأول حاضرة في الدراسات القليلة حوله، حيث صحّح خطأ لغوياً في بيت شعر قرضه الملك الذي غادر بدوره المجلس معتبراً أن المعاهد الأجنبية أفسدت لغته.
لكن الملك سيصحو في اليوم التالي ليعيّنه كاتباً في ديوانه، وينقله بعد فترة قصيرة إلى السلك الدبلوماسي الناشئ حديثاً، ويتسلّم سفارات عدّة في مصر وسورية ولبنان، ويكون أول ممثل للأردن في الأمم المتحدة عام 1956، ثم ترأّس الإذاعة في مرحلة كانت تُعتبر من أهم المؤسّسات السيادية في البلاد، ويتسلّم بعدها وزارة الخارجية ورئاسة الحكومة مرتين في عامي 1969 و1970.
شغل الرفاعي تلك المناصب جميعها، لكنه لن يصبح جزءاً من الوسط السياسي مثلما شقيقه سمير الذي سيورّث ابنه وحفيده رئاسة الوزراء، حيث يُشار إليه دائماً بصفات ونعوت مركّبة، مثل الدبلوماسي الشاعر أو الشاعر السياسي، ولن يحظى بصفة واحدة تعرّفه وتوضّح ملامح تجربته.
لا تبدو هذه الخلاصة مستغربة، إذا ما عرفنا أن صاحب ديوان "الاتحاد العربي: ثورة العرب" وحّد في عام 1946، أكثر من عشر قصائد كانت تُردَّد في المدارس؛ مثل: "العلم" لبشارة الخوري، و"موطني" لإبراهيم طوقان"، و"هذي أرضي" لسليمان المشيني، و"ربيع بلادي" لحسني فريز، مؤلّفاً النشيد الملكي بمفتتحه الشهير "عاش المليك/ عاش المليك/ سامياً مقامه/ خافقاتٍ في المعالي أعلامه"، الذي لم يحفظ طلبة الأردن غيره إلى اليوم.
نشيد قد لا يُعجب كثيرين بمعايير زمننا الحالي؛ حيث لا يتضمّن كلمة عن الوطن، لكنه في معايير ذلك الزمان كان سيكفل لصاحبه ذكراً خالداً تؤمّنه الماكينة الرسمية، لكن ذلك لم يحدث مع صاحب أطروحة "الجواري وأثرهن في الشعر العباسي"، فربما لن تعثر على قصيدة واحدة له ضمن المناهج الدراسية أو تُغنّى له مثل عشرات القصائد التي كتبها آخرون لاحقاً، بل ستحجب السلطة اسمه كمثّقف أو شاعر إلا كإشارة عابرة في سيرته الذاتية التي توضَع على الموقع الإلكتروني لرئاسة الوزارة.
مفارقة أخرى تتّصل بانفصاله عن نهلة القدسي التي جمعه بها حبّ كبير وزواج قصير جداً، حيث ارتبطت بعدها بالملحّن المصري محمد عبد الوهاب حتى رحيله، وربما تكون هذه الواقعة الأكثر انتشاراً ورسوخاً حوله في العالم العربي الذي لا يعرف عنه الكثير، رغم أنها تمثّل وجهاً آخر في محاولة فهم سيرته وتجربته إذا افترضنا أن أحلامه المؤجّلة وحياته التي لم يعشها تجسّدت وفق رغبته في الإنسان الأقرب إليه، والذي قرّر في لحظه أن ينطلق بعيداً عنه ليحقّقها.
انتمى عبد المنعم الرفاعي إلى زمن شعري ماضٍ ولم يستطع أن يجدّده أو يجد له طريقاً إلى الحاضر، ولم ينظر إلى السياسة خارج منطق الوظيفة التي أخلص لها وتفانى من أجلها، لكنه لم يستطع أن يتقمّص قناع رجل السياسة. ربما نلخّص سيرته بالقول إنه آمن بالدولة حقيقةً أبديةً في مرحلة كان الشك يغلب اليقين حولها، واكتفى بها معنى نهائياً لوجوده وإبداعه.