10 فبراير 2024
عبق الذكريات (1)
إليكم طرفًا من قصتي، أنثر حروفها بين أيديكم، وأترك لكم حرية التعليق والتمزيق، لكن شيئًا واحدًا أراهن عليه؛ إنه حضوري بينكم بعد 214 سنة من مولدي، هذا في حد ذاته نجاح لم يحققه كثيرون، لا أقول ممن سبقوني أو عاصروني، بل إنه نجاح لم يحققه كثيرون ممن يعيشون بينكم الآن!
أنتمي لبيئة أرستقراطية؛ فجدتي لأبي حفيدة أغسطس الثاني ملك بولندا، وتعود أصول عائلتي إلى السلالة الألمانية السويدية (كونيجمارك)، واسمي وفق شهادة الميلاد أورور دوبان، وصلت إلى الدنيا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، إذ ولدت في الأول من يوليو/تموز 1804، وعشت في كنف أسرتي بين أحضان قصر نوهان الكبير.
بعد أربع سنوات من ولادتي، سقط أبي سقطة دقت عنقه، كان سقوطًا مؤسفًا من على ظهر فرسه، وتركني بين أمي وجدتي، وبينهما ما صنع الحداد بل يزيد. لم تحتمل أمي مشاكسات جدتي، وقررت أن تسافر إلى باريس لتعيش حياتها، وأن تترك لجدتي تشكيل حياتي بما يناسبها. عشت في الريف مدة أتابع البسطاء والمهمشين، لكن جدتي تريد لي حياةً أخرى، أحببت قصص الرعب والحياة غير المألوفة للوسط الأرستقراطي.
ارتديت ملابس الرجال ودخلت عالمًا غريبًا، عشت أو حاولت في صغري على الأقل أن أعيش حياة بوهيمية مترفة، وثارت ثائرة جدتي لتصرفاتي غير المبررة، وصفعتني صراحتها صفعة أدمت قلبي؛ فعرفت منها أن أمي امرأة لعوب ساقطة، وأنها لم تستأهل أن تعيش في هذا المستوى المتحضِّر الراقي، ولصرفي عن التوجهات الغريبة قررت جدتي أن تسلمني لبعض الأديرة، ثم ألحقتني بمعهد الراهبات في باريس سنة 1817.
في جو الرهبنة وجدت نفسي، غلفتني مسحة غريبة من الصوفية واستسلمت لها، تشبعت بأجواء المعبد وتاقت نفسي للرهبنة، وتشربت أفكار الأب بريمور من رأسي حتى قدمي، وعلمت جدتي بما عزمت عليه؛ فأسرعت بإخراجي من الدير بحجة أنها على وشك الموت، وأنها في مسيس الحاجة للرعاية، وأنني خير من يؤدي هذه المهمة الشاقة والنبيلة، بينما كانت جدتي تؤمن بأفكار الفيلسوف فولتير، ولم ترد لي حياة الرهبنة المطلقة.
لما خرجت من الدير وعدت إلى قصر نوهان، همست جدتي في أذني أنها تريد أن تراني بفستان الزفاف، وألحت في طلبها حتى تقر عينها بزواجي قبل أن تلحق بقطار الراحلين. حققت لها ما طلبت، وقبلت الزواج في سن 18 من كازيمير دودوفان، وهو ابن غير شرعي لبارون من بارونات الإمبراطورية الفرنسية، لا أذكر الآن موعد الزفاف، أظنه عُقِدَ يوم 22 إبريل/نيسان 1822، أو ربما يوم 10 سبتمبر/أيلول من العام ذاته.
ضقت ذرعًا بالعلاقة الحميمة، لا أدري سببًا لذلك على وجه الدقة، لكن هذا ما جرى وقتها، وبعد عام أنجبت منه -على مضض- موريس، ثم أنجبت حلوتي سولانغ بعد ثلاث سنوات. شعرت بضيق شديد وسخط على كازيمير وكل ما يتصل به، وسافرت إلى جبال البرانس سنة 1825، وتعلقت بأورليان دي سيز تعلُّقًا أفلاطونيًا، وشجعني على الكتابة تشجيعًا لم أسمعه من زوجي!
خلعت عن عنقي ربقة كازيمير، وتركته سنة 1830 قاصدةً باريس، مثلما تركتني أمي قبل سنوات إلى المدينة ذاتها، بحثت أمي عن لذة جسدها ولم تكترث بي، واليوم أهرب إلى مدينة النور بحثًا عن نفسي ولذة جسدي معًا، قد يمسي جرمي أكبر مما فعلته أمي؛ فإنها لم تترك والدي بل صبرت حتى رحيله، بينما أنا ألهو وأتحرر تحررًا صارخًا وزوجي على بُعد خطواتٍ مني.
لا أفهم نفسي، وهذه سنة غريبة في الإنسان، يحاول أن يفهم غيره ويفسر تصرفاتهم وفق معيار من مُثُله ومبادئه الخاصة، ثم هو ينسف بتصرفاته مثله وقيمه بدمٍ بارد وتبريرات حمقاء. قبل زواجي أردت أن أكون راهبة صوفية، وأن أعيش في مسوح القديسين هادئة مستكينة، واليوم أواعد الرجال تحت سقف يجمعني بزوجي، تُرى متى أبرح هذا الشقاء؟ أم تراني ألوذ بباب الرذيلة لا أريم عنه؟!
هنا في باريس، وعلى عادة المدن، الحياة قاسية جافة، حياة كل ما فيها مزيَّف؛ فالكل يتقنَّع ليقتنص ما يتحين افتراسه، حياة لا ترحم ولا تعترف ببساطة القرية، إنما تعدها سذاجة ممقوتة! ربما يساعدك بعضهم، إنهم قليلون من يمدون يد المساعدة بحق، قد تجد من يخطب خطبةً عصماء، ويمطرك بقصيدة محكمة عن قضاء حوائج النَّاس ومساعدة المنكوبين والمنكودين، لكنه سيطلق ساقيه للريح حين تسأله المساعدة!
في هذه الأجواء الخانقة، مد لي الصحافي "لا توش" يده ليساعدني، وأوجد لي ثقب إبرة أعتاش منه وابنتي سولانغ، وقد تركت موريس مع أبيه كازيمير في نوهان، وأنظر إلى سولانغ نظرة إشفاق، أظنها ستصير امرأة لعوب، لست قاسية في حكمي عليها؛ فقد كانت جدتها امرأة سافلة ساقطة، وعلى الدرب نفسه تسير أمها الآن؛ فكيف أطالبها أن تصير قديسة طاهرة؟!
ساعدني لا توش على العمل في صحيفة لوفيغارو، وعملت محررة للأخبار مدة وبدخلٍ مقبول، ثم توطدت علاقتي بـ"جول صاندو"، وقد عرفته سنة 1829 وسافرت باريس لأكون بجواره، إذ سحرني بشخصيته. لم يكن وسيمًا قط، إنه طالب بالحقوق ويعمل أمينًا بمكتبة، يرفع راية تطوير المجتمع ولم يطور من ذوقه في التعامل مع النساء، لكنني مع ذلك أحببت شخصيته الخشنة، لم أجد ذلك في كازيمير، وما أتعس المقارنات!
كتبت مع جول صاندو أول أعمالي "روز وبلانش"، وساعدني لا توش على نشرها، ثم قررت الانفصال عن شريكي والكتابة باسمي المنفرد؛ فنصحني الناشر أن أفيد من نجاح الكتاب المشترك، وأن أحتفظ لنفسي باللقب (صاندو) حتى وإن غيرت الاسم الأول؛ فاخترت لنفسي اسمًا أدبيًا عرفتموني به؛ إنه جورج صاند. يشبهني هذا الاسم إلى حدٍ بعيد؛ فإنني وإن كنت شرهة في العلاقة الحميمة، وامرأة في السرير طاغية الأنوثة، إلا أنني ولسبب لا أفهمه أميل لارتداء الملابس الرجالية، وأجدها تناسبني جدًا، لست سحاقية ولا مثلية ولا تهمني هذه التسميات تشابهت أو اختلفت، لكنني أحب الملابس الرجالية، وأدخن السيجار والغليون تمامًا كما يفعل الرجال.
عام 1832، حمل أول أعمالي الروائية المنفردة اسم "إنديانا"، وعليها اسمي الفني الجديد، جورج صاند، وضحكت حين وصلني خطاب زوجي الرسمي! زوجي السيد كازيمير مستنكرًا تعدد علاقاتي الغرامية، وصله نبأ رجلٍ أو رجلين؛ فكيف لو علم بهم جميعًا؟! المهم أني تعرفت إلى الكاتب بروسير سنة 1833 ومللته سريعًا، ثم اتصلت أسبابي بالشاعر ألفريد دي موسيه، يومها كنت أكبر منه بسبع سنين، هو في الثانية والعشرين وأنا في التاسعة والعشرين، وعشنا لحظات مجنونة.
أعرف تعدد علاقات موسيه سلفًا، ولم أطمع في الزواج منه؛ فالمبدأ عندي اللذة المحضة ولا شيء غيرها، لذلك لم أعوِّل كثيرًا على علاقتي به، ولما ألحَّ عليَّ الصداع أيامًا ثم لحقته الدروسنتاريا، لم يتحملني موسيه وكتب إنه يعيش معي "سآمةً مجسَّمة"، ثم كتب إنني لست عشيقته بل أمه. كتمت كل ذلك في صدري، ثم تركت موسيه وسافرت مع الطبيب الإيطالي بيترو باجيللو، وهو الطبيب الذي أحضره موسيه ليفحص حالتي.
أوجعت موسيه بهذا التصرف، وتعمدت إهانته لقاء ما كتبه عني وتطاول به عليَّ؛ إنه كيد النساء، وأيّ كيدٍ أن تطعنك المرأة بخنجرٍ أهديته إليها! علمت أنه استسلم للخمر حزنًا وحسرة، لكن لا يهمني حتى وإن قتل نفسه؛ فإنه أهانني وليس بعد الإهانة خط رجعة. تركت كل الرجال وعشقته، وعشت معه في شارع السين رقم 31 أيامًا جامحة، لكنه نعتني بأمه وبالعجوز الشمطاء؛ فماذا يتوقع مني؟! علمت أنه زير نساء، وأن انحلاله الأخلاقي لا يقل عن انحلالي قيد أنملة، وأن سيرته مضغة بأفواه الفرنسيين عن بكرة أبيهم، ومع كل ذلك ربطت سمعتي بسمعته، لكنه أصر أن يكون الشاعر الذي أخمدت حياته النساء من كل صنف ولون.
طويت صفحة موسيه، وبدأت صفحة جديدة بين عامي 1835 – 1837 مع الموسيقار "فرانز ليست" والمحامي الخاص "ميشيل دي جورج"، وتأثرت بأفكار ميشيل الاشتراكية والجمهورية، وفي عام 1838 تعرفت إلى الموسيقار البولندي المعجزة "فريدريك شوبان"، وقلت له إنه يستحق العبادة؛ فطار فرحًا بهذه الجملة واصطفاني من بين نساء الأرض، كنت أمرِّضه وأتابع علاجه من مرض الدرن (السُّل)، واستمرت علاقتي به عشر سنوات.
حاولت الاتصال بفيكتور هيغو لكنه تهرَّب مني، وكذلك فعل ألكسندر دوماس الأكبر، وحاولت العودة إلى موسيه وقصصت شعري وقدمته له عربون صدق وعلامة وفاء وولاء، لكنه رفض أن تعود علاقتنا لسابق عهدها. حاولت أن أعود لحظيرة الإيمان وقرأت عددًا من الكتب الدينية، ورجعت عن تحرري الصارخ مدة، لكن نفسي تاقت للعربدة والشهوة الجنسية الفتاكة، وظللت على ذلك حتى انطفأت شهوتي، لم تنطفئ بوازعٍ إيماني بل بزحف الشيخوخة عليَّ، وانتزاع رحيق أنوثتي شيئًا فشيئًا.
في خضم تحرري وتعدد علاقاتي، لم أغفل أنني كاتبة لها قلم مختلف وأسلوب متفرد؛ فكنت أكتب يوميًا من العاشرة مساءً وحتى الخامسة صباحًا، إنتاجي غزير لا يقارن بغيري؛ فربما انتهيت من الرواية فجرًا فأسلمها للمطبعة في الصباح، ثم أعود إلى مكتبي مساء اليوم نفسه لأشرع في كتابة عملٍ جديد. ألزمت نفسي كتابة 20 – 30 صفحة يوميًا، وامتد إنتاجي الأدبي 44 سنة، أنجزت فيها 90 مؤلَّفًا ما بين رواية وقصة ومسرحية ومقال.
أفدت كثيرًا من نصائح وتوجيهات الناقد الفرنسي الفذ "سانت بوف"، وآمنت أن الناقد ليس عدو المبدع، بل إنه يأخذ بيده إلى عوالم من النجاح، وبالطبع ليس كل ناقد يفعل ذلك، إنما أحكم على تجربتي مع بوف، وأفدت من الناقد الفرنسي جولياس جانن، أحد سحرة الأقلام الأفذاذ في عصري.
لا أعرف الأساس الذي قسم النقاد وفقه حياتي الأدبية إلى أربع مراحل؛ عاطفية، اجتماعية، ريفية وذكريات، لكني أتباهى بأنني أدخلت عالم الريف البسيط إلى الأدب الفرنسي، الريف ببهجته ولهجته، وتفرد أهله في التعامل والطيبة الكامنة في صدورهم، وابتعادهم شبه المطلق عن التصنُّع؛ فضمني بعض النقاد إلى مؤسسي الإقليمية في الأدب الفرنسي.
الشيء الذي قد تضحك له وأنت تقرأ خاتمة مقالي هذا، أنني جورج صاند الأديبة أو أرورو دوبان السيدة الأرستقراطية، لم أجد الرجل الذي يفهمني، ليست دعابة ولا قفلة مقال حراقة، إنها الحقيقة التي عشتها، وظلت أفكاري مرتبطة بالشخص الذي أعيش معه؛ فإن انفصلت عنه انفصلت أفكاري عن أفكاره، ببساطة كده وبكل وضوح!
وعشت أؤمن أن الحب يعطي أما الشهوة فتأخذ، وكثيرًا ما ناديت الرجال "لا تحطموا الخضرة"، خضرة المرأة وزينتها وجمالها، وخضرة الطبيعة الأنثى وخضرة كل أنثى وإن كانت جمادا. بُح صوتي وأنا أكرر نداءاتي، وجاء الخميس -ولم يكن ونيسًا يومها- الموافق السابع من يوليو/تموز 1879؛ فركبت قطار الراحلين لألحق بأبي وأحبتي وأنزل أرضًا من ذهب إليها لا يعود إلى أرضكم، لحقت بهم بعد 72 سنة بحلوها ومرها في بلدي، لكنني -وبعد رحيلي عن عالمكم بنحو 143 سنة- أعيش الآن بينكم وأنتم تقرأون كلماتي.
أنتمي لبيئة أرستقراطية؛ فجدتي لأبي حفيدة أغسطس الثاني ملك بولندا، وتعود أصول عائلتي إلى السلالة الألمانية السويدية (كونيجمارك)، واسمي وفق شهادة الميلاد أورور دوبان، وصلت إلى الدنيا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، إذ ولدت في الأول من يوليو/تموز 1804، وعشت في كنف أسرتي بين أحضان قصر نوهان الكبير.
بعد أربع سنوات من ولادتي، سقط أبي سقطة دقت عنقه، كان سقوطًا مؤسفًا من على ظهر فرسه، وتركني بين أمي وجدتي، وبينهما ما صنع الحداد بل يزيد. لم تحتمل أمي مشاكسات جدتي، وقررت أن تسافر إلى باريس لتعيش حياتها، وأن تترك لجدتي تشكيل حياتي بما يناسبها. عشت في الريف مدة أتابع البسطاء والمهمشين، لكن جدتي تريد لي حياةً أخرى، أحببت قصص الرعب والحياة غير المألوفة للوسط الأرستقراطي.
ارتديت ملابس الرجال ودخلت عالمًا غريبًا، عشت أو حاولت في صغري على الأقل أن أعيش حياة بوهيمية مترفة، وثارت ثائرة جدتي لتصرفاتي غير المبررة، وصفعتني صراحتها صفعة أدمت قلبي؛ فعرفت منها أن أمي امرأة لعوب ساقطة، وأنها لم تستأهل أن تعيش في هذا المستوى المتحضِّر الراقي، ولصرفي عن التوجهات الغريبة قررت جدتي أن تسلمني لبعض الأديرة، ثم ألحقتني بمعهد الراهبات في باريس سنة 1817.
في جو الرهبنة وجدت نفسي، غلفتني مسحة غريبة من الصوفية واستسلمت لها، تشبعت بأجواء المعبد وتاقت نفسي للرهبنة، وتشربت أفكار الأب بريمور من رأسي حتى قدمي، وعلمت جدتي بما عزمت عليه؛ فأسرعت بإخراجي من الدير بحجة أنها على وشك الموت، وأنها في مسيس الحاجة للرعاية، وأنني خير من يؤدي هذه المهمة الشاقة والنبيلة، بينما كانت جدتي تؤمن بأفكار الفيلسوف فولتير، ولم ترد لي حياة الرهبنة المطلقة.
لما خرجت من الدير وعدت إلى قصر نوهان، همست جدتي في أذني أنها تريد أن تراني بفستان الزفاف، وألحت في طلبها حتى تقر عينها بزواجي قبل أن تلحق بقطار الراحلين. حققت لها ما طلبت، وقبلت الزواج في سن 18 من كازيمير دودوفان، وهو ابن غير شرعي لبارون من بارونات الإمبراطورية الفرنسية، لا أذكر الآن موعد الزفاف، أظنه عُقِدَ يوم 22 إبريل/نيسان 1822، أو ربما يوم 10 سبتمبر/أيلول من العام ذاته.
ضقت ذرعًا بالعلاقة الحميمة، لا أدري سببًا لذلك على وجه الدقة، لكن هذا ما جرى وقتها، وبعد عام أنجبت منه -على مضض- موريس، ثم أنجبت حلوتي سولانغ بعد ثلاث سنوات. شعرت بضيق شديد وسخط على كازيمير وكل ما يتصل به، وسافرت إلى جبال البرانس سنة 1825، وتعلقت بأورليان دي سيز تعلُّقًا أفلاطونيًا، وشجعني على الكتابة تشجيعًا لم أسمعه من زوجي!
خلعت عن عنقي ربقة كازيمير، وتركته سنة 1830 قاصدةً باريس، مثلما تركتني أمي قبل سنوات إلى المدينة ذاتها، بحثت أمي عن لذة جسدها ولم تكترث بي، واليوم أهرب إلى مدينة النور بحثًا عن نفسي ولذة جسدي معًا، قد يمسي جرمي أكبر مما فعلته أمي؛ فإنها لم تترك والدي بل صبرت حتى رحيله، بينما أنا ألهو وأتحرر تحررًا صارخًا وزوجي على بُعد خطواتٍ مني.
لا أفهم نفسي، وهذه سنة غريبة في الإنسان، يحاول أن يفهم غيره ويفسر تصرفاتهم وفق معيار من مُثُله ومبادئه الخاصة، ثم هو ينسف بتصرفاته مثله وقيمه بدمٍ بارد وتبريرات حمقاء. قبل زواجي أردت أن أكون راهبة صوفية، وأن أعيش في مسوح القديسين هادئة مستكينة، واليوم أواعد الرجال تحت سقف يجمعني بزوجي، تُرى متى أبرح هذا الشقاء؟ أم تراني ألوذ بباب الرذيلة لا أريم عنه؟!
هنا في باريس، وعلى عادة المدن، الحياة قاسية جافة، حياة كل ما فيها مزيَّف؛ فالكل يتقنَّع ليقتنص ما يتحين افتراسه، حياة لا ترحم ولا تعترف ببساطة القرية، إنما تعدها سذاجة ممقوتة! ربما يساعدك بعضهم، إنهم قليلون من يمدون يد المساعدة بحق، قد تجد من يخطب خطبةً عصماء، ويمطرك بقصيدة محكمة عن قضاء حوائج النَّاس ومساعدة المنكوبين والمنكودين، لكنه سيطلق ساقيه للريح حين تسأله المساعدة!
في هذه الأجواء الخانقة، مد لي الصحافي "لا توش" يده ليساعدني، وأوجد لي ثقب إبرة أعتاش منه وابنتي سولانغ، وقد تركت موريس مع أبيه كازيمير في نوهان، وأنظر إلى سولانغ نظرة إشفاق، أظنها ستصير امرأة لعوب، لست قاسية في حكمي عليها؛ فقد كانت جدتها امرأة سافلة ساقطة، وعلى الدرب نفسه تسير أمها الآن؛ فكيف أطالبها أن تصير قديسة طاهرة؟!
ساعدني لا توش على العمل في صحيفة لوفيغارو، وعملت محررة للأخبار مدة وبدخلٍ مقبول، ثم توطدت علاقتي بـ"جول صاندو"، وقد عرفته سنة 1829 وسافرت باريس لأكون بجواره، إذ سحرني بشخصيته. لم يكن وسيمًا قط، إنه طالب بالحقوق ويعمل أمينًا بمكتبة، يرفع راية تطوير المجتمع ولم يطور من ذوقه في التعامل مع النساء، لكنني مع ذلك أحببت شخصيته الخشنة، لم أجد ذلك في كازيمير، وما أتعس المقارنات!
كتبت مع جول صاندو أول أعمالي "روز وبلانش"، وساعدني لا توش على نشرها، ثم قررت الانفصال عن شريكي والكتابة باسمي المنفرد؛ فنصحني الناشر أن أفيد من نجاح الكتاب المشترك، وأن أحتفظ لنفسي باللقب (صاندو) حتى وإن غيرت الاسم الأول؛ فاخترت لنفسي اسمًا أدبيًا عرفتموني به؛ إنه جورج صاند. يشبهني هذا الاسم إلى حدٍ بعيد؛ فإنني وإن كنت شرهة في العلاقة الحميمة، وامرأة في السرير طاغية الأنوثة، إلا أنني ولسبب لا أفهمه أميل لارتداء الملابس الرجالية، وأجدها تناسبني جدًا، لست سحاقية ولا مثلية ولا تهمني هذه التسميات تشابهت أو اختلفت، لكنني أحب الملابس الرجالية، وأدخن السيجار والغليون تمامًا كما يفعل الرجال.
عام 1832، حمل أول أعمالي الروائية المنفردة اسم "إنديانا"، وعليها اسمي الفني الجديد، جورج صاند، وضحكت حين وصلني خطاب زوجي الرسمي! زوجي السيد كازيمير مستنكرًا تعدد علاقاتي الغرامية، وصله نبأ رجلٍ أو رجلين؛ فكيف لو علم بهم جميعًا؟! المهم أني تعرفت إلى الكاتب بروسير سنة 1833 ومللته سريعًا، ثم اتصلت أسبابي بالشاعر ألفريد دي موسيه، يومها كنت أكبر منه بسبع سنين، هو في الثانية والعشرين وأنا في التاسعة والعشرين، وعشنا لحظات مجنونة.
أعرف تعدد علاقات موسيه سلفًا، ولم أطمع في الزواج منه؛ فالمبدأ عندي اللذة المحضة ولا شيء غيرها، لذلك لم أعوِّل كثيرًا على علاقتي به، ولما ألحَّ عليَّ الصداع أيامًا ثم لحقته الدروسنتاريا، لم يتحملني موسيه وكتب إنه يعيش معي "سآمةً مجسَّمة"، ثم كتب إنني لست عشيقته بل أمه. كتمت كل ذلك في صدري، ثم تركت موسيه وسافرت مع الطبيب الإيطالي بيترو باجيللو، وهو الطبيب الذي أحضره موسيه ليفحص حالتي.
أوجعت موسيه بهذا التصرف، وتعمدت إهانته لقاء ما كتبه عني وتطاول به عليَّ؛ إنه كيد النساء، وأيّ كيدٍ أن تطعنك المرأة بخنجرٍ أهديته إليها! علمت أنه استسلم للخمر حزنًا وحسرة، لكن لا يهمني حتى وإن قتل نفسه؛ فإنه أهانني وليس بعد الإهانة خط رجعة. تركت كل الرجال وعشقته، وعشت معه في شارع السين رقم 31 أيامًا جامحة، لكنه نعتني بأمه وبالعجوز الشمطاء؛ فماذا يتوقع مني؟! علمت أنه زير نساء، وأن انحلاله الأخلاقي لا يقل عن انحلالي قيد أنملة، وأن سيرته مضغة بأفواه الفرنسيين عن بكرة أبيهم، ومع كل ذلك ربطت سمعتي بسمعته، لكنه أصر أن يكون الشاعر الذي أخمدت حياته النساء من كل صنف ولون.
طويت صفحة موسيه، وبدأت صفحة جديدة بين عامي 1835 – 1837 مع الموسيقار "فرانز ليست" والمحامي الخاص "ميشيل دي جورج"، وتأثرت بأفكار ميشيل الاشتراكية والجمهورية، وفي عام 1838 تعرفت إلى الموسيقار البولندي المعجزة "فريدريك شوبان"، وقلت له إنه يستحق العبادة؛ فطار فرحًا بهذه الجملة واصطفاني من بين نساء الأرض، كنت أمرِّضه وأتابع علاجه من مرض الدرن (السُّل)، واستمرت علاقتي به عشر سنوات.
حاولت الاتصال بفيكتور هيغو لكنه تهرَّب مني، وكذلك فعل ألكسندر دوماس الأكبر، وحاولت العودة إلى موسيه وقصصت شعري وقدمته له عربون صدق وعلامة وفاء وولاء، لكنه رفض أن تعود علاقتنا لسابق عهدها. حاولت أن أعود لحظيرة الإيمان وقرأت عددًا من الكتب الدينية، ورجعت عن تحرري الصارخ مدة، لكن نفسي تاقت للعربدة والشهوة الجنسية الفتاكة، وظللت على ذلك حتى انطفأت شهوتي، لم تنطفئ بوازعٍ إيماني بل بزحف الشيخوخة عليَّ، وانتزاع رحيق أنوثتي شيئًا فشيئًا.
في خضم تحرري وتعدد علاقاتي، لم أغفل أنني كاتبة لها قلم مختلف وأسلوب متفرد؛ فكنت أكتب يوميًا من العاشرة مساءً وحتى الخامسة صباحًا، إنتاجي غزير لا يقارن بغيري؛ فربما انتهيت من الرواية فجرًا فأسلمها للمطبعة في الصباح، ثم أعود إلى مكتبي مساء اليوم نفسه لأشرع في كتابة عملٍ جديد. ألزمت نفسي كتابة 20 – 30 صفحة يوميًا، وامتد إنتاجي الأدبي 44 سنة، أنجزت فيها 90 مؤلَّفًا ما بين رواية وقصة ومسرحية ومقال.
أفدت كثيرًا من نصائح وتوجيهات الناقد الفرنسي الفذ "سانت بوف"، وآمنت أن الناقد ليس عدو المبدع، بل إنه يأخذ بيده إلى عوالم من النجاح، وبالطبع ليس كل ناقد يفعل ذلك، إنما أحكم على تجربتي مع بوف، وأفدت من الناقد الفرنسي جولياس جانن، أحد سحرة الأقلام الأفذاذ في عصري.
لا أعرف الأساس الذي قسم النقاد وفقه حياتي الأدبية إلى أربع مراحل؛ عاطفية، اجتماعية، ريفية وذكريات، لكني أتباهى بأنني أدخلت عالم الريف البسيط إلى الأدب الفرنسي، الريف ببهجته ولهجته، وتفرد أهله في التعامل والطيبة الكامنة في صدورهم، وابتعادهم شبه المطلق عن التصنُّع؛ فضمني بعض النقاد إلى مؤسسي الإقليمية في الأدب الفرنسي.
الشيء الذي قد تضحك له وأنت تقرأ خاتمة مقالي هذا، أنني جورج صاند الأديبة أو أرورو دوبان السيدة الأرستقراطية، لم أجد الرجل الذي يفهمني، ليست دعابة ولا قفلة مقال حراقة، إنها الحقيقة التي عشتها، وظلت أفكاري مرتبطة بالشخص الذي أعيش معه؛ فإن انفصلت عنه انفصلت أفكاري عن أفكاره، ببساطة كده وبكل وضوح!
وعشت أؤمن أن الحب يعطي أما الشهوة فتأخذ، وكثيرًا ما ناديت الرجال "لا تحطموا الخضرة"، خضرة المرأة وزينتها وجمالها، وخضرة الطبيعة الأنثى وخضرة كل أنثى وإن كانت جمادا. بُح صوتي وأنا أكرر نداءاتي، وجاء الخميس -ولم يكن ونيسًا يومها- الموافق السابع من يوليو/تموز 1879؛ فركبت قطار الراحلين لألحق بأبي وأحبتي وأنزل أرضًا من ذهب إليها لا يعود إلى أرضكم، لحقت بهم بعد 72 سنة بحلوها ومرها في بلدي، لكنني -وبعد رحيلي عن عالمكم بنحو 143 سنة- أعيش الآن بينكم وأنتم تقرأون كلماتي.