عبر تفكيك جملة مغالطات سياسية متراكمة تتعلّق بـ "المبادرات" الأميركية منذ عام 1970 وحتى اليوم، قرأ المفكّر العربي عزمي بشارة في الثالث من شباط/ فبراير الماضي في ندوة عقدها "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" خطة اليمين الأميركي - الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية في سياق تاريخي، مذكّراً برفض "إسرائيل" لها وسط قبول عربي، خلافاً لما تسوّقه مواقف رسمية لقادة عرب جدد.
ويرى صاحب كتاب "أن تكون عربيا في أيامنا" (2009)، أن "مبادرة ترامب" تشكّل قطعاً مع جميع المبادرات السابقة للولايات المتحدة التي انحازت خلالها للكيان الصهيوني، لكنها كانت تحاول التصرّف كدولة عظمى صاحبة دور دولي، و"تحافظ على بعض الخجل" في التعامل مع شعب منكوب سُلبت أراضيه في وضح نهار القرن العشرين في سطو مسلّح، وشُرّد في كلّ أصقاع الأرض ويرزح جزء منه تحت الاحتلال، وأن الرئيس الأميركي المذكور يتنازل حتى عن هذا الدور.
يؤكّد بشارة في كتاب صدر حديثاً بعنوان "صفقة ترامب – نتنياهو: الطريق إلى النص، ومنه إلى الإجابة عن سؤال: ما العمل؟" عن "المركز العربي"، أن تنفيذ الصفقة على الأرض بدأ تدريجياً مع قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2017، ثم إعلان إدارة ترامب في 18 تشرين الثاني/ نوفمير 2018 أن المستوطنات الإسرائيلية لا تمثّل انتهاكاً للقانون الدولي، مع وقف تمويل الأونروا في آب/ أغسطس من العام نفسه، وإغلاق مكتب بعثة منظّمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.
ويوضّح بشارة أنه عبر هذه الإجراءات تمّ إزالة قضايا الحل الدائم ممثّلة بالاستيطان والحدود واللاجئين والقدس، ولم يعد هنالك ما يُتفاوض عليه، منتقلاً بعدها لقراءة وتحليل رؤية ترامب للسلام القائمة على صفقة بين الرئيسين الأميركي والإسرائيلي اللذين يحتاجان إلى دعم متبادل في الانتخابات في واشنطن وتل أبيب.
كما تخلق الرؤية، بحسب بشارة، سابقة بأن القوة هي الحق وأن من يحتلّ أرضاً يملكها، ما يشكّل مخالفة لأبسط مبادئ القانون الدولي، ما يعني تبنّي الإدراة الأميركية للسردية الإسرائيلية بالكامل بما تتضمّنها من سردية توراتية تحتشد بالغيبيات، وانتزاع اليمين الإسرائيلي لأوّل مرة "شرعية" من الدولة الأقوى في العالم بما يريد أن يفعله.
ويلفت صاحب كتاب "الانتفاضة والمجتمع الإسرائيلي" (2000) أن الصفقة تعيد اللغة الوصائية الاستعمارية، التي تمنح "إسرائيل" المسؤولية الأمنية لدولة فلسطين حتى تتمكّن الأخيرة من إدارة أمنها الداخلي، وهي التي تقرّر الوقت اللازم لذلك، وفرض "قيم التسامح" في المناهج الدراسية العربية تجاه الاحتلال، وإغفال العنصرية والكراهية التي تبثّها المناهج الإسرائيلية.
في الجزء الأول، يقدم بشارة عرضاً مختصراً للمبادرات الأميركية لحل القضية الفلسطينية، التي طُرحت منذ عام 1967؛ مركّزاً على مبادرة وليام روجرز في حزيران/ يونيو 1970، ومبادرة مستشار الأمن القومي الأميركي في إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر، زبيغنيو بريجنسكي عام 1977، ومشروع الرئيس رونالد ريغان عام 1982، وإعلان الرئيس جورج بوش الأب رؤيته عام 1991، ومبادرة "خريطة الطريق" التي طرحها جورج بوش الابن، وصولاً إلى مقترحات باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري عن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
ينتقل الجزء الثاني من الكتاب إلى الحديث عن التطوّرات الإقليمية التي قادت إلى أن تصبح الوثيقة بهذه الخطورة، بدايةً من تراجع المدّ القومي العربي منذ سبعينيات القرن الماضي، وتوقيع بعض الأنظمة العربية "اتفاقيات سلام" مع إسرائيل، وتوقيع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقًا للسلام مع "إسرائيل"، وصولاً إلى الانقسام الفلسطيني. ويرى بشارة أن الصراعات بين الأنظمة العربية أثرت في الموقف من قضية فلسطين بموجب التحالفات الدولية، كما تَحدّدَ الموقف منها بموجب حاجة الأنظمة إلى الشرعية التي تمثلها هذه القضية في الوجدان الشعبي. ثم يناقش بشارة في هذا الجزء التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس، والكيفية التي استغلت بها "إسرائيل" ما يحصل في فلسطين والمنطقة العربية بهدف توسيع الاستيطان وتكثيفه.
في الجزء الثالث يتحدّث صاحب كتاب "من يهودية الدولة حتى شارون" (2004)، عن الاستراتيجية المأمول أن ينخرط أبناء الشعب الفلسطين فيها، في أماكن وجودهم كافة في معركتهم ضد نظام الأبارتهايد العنصري المتمخض عن المشروع الصهيوني الاستعماري، والتي تحتاج إلى درجة عالية من التنظيم والتنسيق، من دون التنازل عن خصوصية كلّ تجمع فلسطيني وطبيعة جبهة المواجهة التي يخوضها. ويرى أهمية وجود قيادات محلية تتمتع باستقلالية بشأن قضايا قاعدتها الاجتماعية ومواطنيها، وتوفّر إطاراً يُحدّد الأجندات الوطنية الجامعة.
توقف بشارة في الجزء الأخير من كتابه عند اتجاهات الرأي العامّ بخصوص الصراع العربي – الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية. وأكد، بالاستناد إلى استطلاعات "المؤشر العربي" منذ عام 2011 إلى عام 2020، أن انحياز الرأي العربي هو إلى النظام الديمقراطي، وأن أهم المعضلات التي تواجه بلدانه هي معضلات اقتصادية تتعلق بالبطالة والفقر وتدهور المستوى المعيشي أو عدم الاستقرار السياسي أو غياب الأمان، وهو الرأي العام نفسه الذي يقف باستمرار مؤيدًا للفلسطينيين، ويعدّ القضية الفلسطينية قضيته، ويرفض الاعتراف بـ "إسرائيل" إلا كدولة احتلال.