02 نوفمبر 2024
عزمي بشارة وتونس
في وقتٍ ينصرف فيه بعض المثقفين العاجيين في تونس وخارجها إلى التشكيك في الثورة، والتهوين من قيمتها، ويبذلون الجهد في تيئيس الناس من مشروع الانتقال الديمقراطي في تونس والمنطقة العربية، كتب الدكتور عزمي بشارة مقالاً جديدًا معبراً في صحيفة "العربي الجديد" (13 فبراير/شباط 2016) بعنوان "من أجل حماية الديمقراطية التونسية". وفيه بيان لأهمية التجربة الديمقراطية التونسية، وتأكيد على فرادتها، ودعوة صريحة إلى رفدها اقتصادياً وسياسياً، حتى لا يعتريها النكوص، ويكون مصيرها الانهيار في خضم ما تواجهه من تحدّياتٍ داخلية وخارجية. وقد شخص بشارة الشأن التونسي في المرحلة الانتقالية في تونس بعد الثورة وفق مقاربة عقلانية، وبالاستناد إلى أدوات تحليلية موضوعيةٍ، منبها إلى أن ما تواجهه تونس من صعوبات، في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخها، مردّه عدة أسباب، أهمها السياسات التنموية غير العادلة التي شهدتها البلاد عقوداً بعد الاستقلال، ومسألة التمييز بين المراكز والأطراف في توزيع الثروة، واستفحال ظاهرة البطالة في صفوف الشباب، وتراجع نسق الاستثمار والتمويل الخارجي بسبب التهديد الإرهابي، وعدم استقرار الوضع الإقليمي، خصوصاً في ليبيا، وهو ما أثر سلباً على الحركة التجارية، وجعل تونس في حالة "ضيق اقتصادي" غير مسبوقة. ونبّه بشارة إلى أن التجربة التونسية الوليدة تستمد قوتها من قيام تجربة الحكم في البلاد على التوافق، ومن احتكام الحاكم والمحكوم على السواء إلى دستور ديمقراطي/ تقدمي، أسهمت مكونات المجتمع المدني التونسي على اختلافها في صياغته.
لكن تحويل المنجز السياسي/الدستوري إلى منجز تنموي/اقتصادي يحمي التجربة الديمقراطية الناشئة، ويضمن استمرارها، أمر يقتضي تغيير السياسات التنموية في البلاد من ناحية، ويقتضي من المجتمع الدولي، والبلدان العربية النافذة، دعم التجربة التونسية من ناحية أخرى. والمُستفاد من خطاب بشارة أن الحاجة أكيدة إلى ترسيخ مشروع الديمقراطية والدولة المدنية في السياق التونسي، لأن نجاح هذا المشروع يعني بلورة القطيعة التاريخية مع عصر الدّولة السلطوية في تونس والعالم العربي، ويعني دمقرطة الواقع المجتمعي والنظام السياسي، ولو في دولة عربية واحدة.
وبشارة بهذا الطرح يستبطن الوفاء لعدد كبير من المناضلين، والشهداء العرب والتونسيين الذين بذلوا جهدهم، وضحوا بحياتهم في مقارعة الاستبداد، وفي المطالبة بإقامة أركان دولةٍ مدنيةٍ تقدّميةٍ، ويستبطن، أيضاً، الوفاء إلى مشروعه الفكري/التنويري الداعي إلى بناء دولة مواطنيّة، تولي الاعتبار إلى المجتمع المدني، وتنشر ثقافة الحق والواجب، وتحتكم إلى سلطة القانون والمؤسسات المُنتخبة، لا إلى سلطة العصبية الطائفية أو القوة العسكرية.
والواقع أن دراية بشارة بالشأن التونسي ومتابعته الدقيقة لتفاصيله ليست جديدة، والناظر في
كتابه "في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" يتبيّن أن الرجل قد تنبّأ مبكّراً بإمكان قيام حركة تغيير سياسي، وانتقال سلمي نحو الديمقراطية في تونس، وفسّر ذلك بوجود قاعدةٍ شبابيةٍ مثقفة في البلاد، وبارتفاع نسبة التمدرس، وكثرة خرّيجي الجامعات في تونس، فضلاً عن وجود منظمات نقابيةٍ ومؤسساتٍ مدنيةٍ وحقوقيةٍ وأحزابٍ سياسيةٍ عريقة، خبرت تجربة معارضة النظام الحاكم على مدى سنين، وهو ما أهلها للاضطلاع بدور حيوي، مهم في مجال الانتقال نحو الديمقراطية. وبعد الثورة، معّن عزمي بشارة النظر في الحراك الاحتجاجي التونسي، وأرّخ للثورة التونسية، وحفر بأدوات المؤرخ، والأنتروبولوجي في أسباب الحراك التغييري الشعبي في تونس، وديناميّاته، ودلالاته، وخلفيّاته وكيفيات اشتغاله، وذلك في كتابه "الثورة التونسية المجيدة". ونبه بشارة، في أكثر من موضع، إلى مخاطر الوقوف عند حدود الاحتجاج والمطلبيّة، مؤكدا أهمية التوجه، بعد الثورة، نحو البناء المؤسّسي للجمهورية الثانية، وتقديم البدائل عن سياسات الدولة الشمولية، مع العمل على تحويل محامل الدستور التونسي الجديد (يناير/كانون الثاني 2014) وفصوله إلى واقعٍ يحياه الناس.
تكمن قيمة مقاربة عزمي بشارة للتجربة التونسية في أنها تنأى بنفسها عن التمجيد الفجّ، وعن التهافت المجاني على مشروع تونس في الثورة والانتقال الديمقراطي، وتحاول قراءة المُنجز التونسي وفهمه والتفاعل معه من منظور ثقافي مسؤول، يسائل الظواهر الاجتماعية المستجدّة في تونس الجديدة، ويتعاطى معها بالتحليل والنقد، والدعم والنقض من منظور عقلاني.
وتحضرني، وأنا أقرأ خطاب بشارة في فهم الثورة التونسية والانتقال الديمقراطي وتحدّياته، صورة المثقف النقدي/البنائي الذي تحدّث عنه إدوارد سعيد، وصورة المثقف العضوي الذي ينهمّ بهموم الجماعة وأحلامها، الذي نظّرله أنطونيوغرامشي.
سجّل التاريخ لجون بول سارتر دفاعه عن حق الشعب الجزائري في التحرير وتقرير المصير، وسجل لجيل دولوز انتصاره لثورة الطلاب في فرنسا سنة 1968، ولنعوم تشومسكي موقفه المعبّر من جانب القضية الفلسطينية، وسيسجّل التاريخ لعزمي بشارة مساندته الشعب التونسي في الثورة على الدولة المستبدة، وفي السعي إلى بناء مشروع أول ديمقراطية في العالم العربي.
لكن تحويل المنجز السياسي/الدستوري إلى منجز تنموي/اقتصادي يحمي التجربة الديمقراطية الناشئة، ويضمن استمرارها، أمر يقتضي تغيير السياسات التنموية في البلاد من ناحية، ويقتضي من المجتمع الدولي، والبلدان العربية النافذة، دعم التجربة التونسية من ناحية أخرى. والمُستفاد من خطاب بشارة أن الحاجة أكيدة إلى ترسيخ مشروع الديمقراطية والدولة المدنية في السياق التونسي، لأن نجاح هذا المشروع يعني بلورة القطيعة التاريخية مع عصر الدّولة السلطوية في تونس والعالم العربي، ويعني دمقرطة الواقع المجتمعي والنظام السياسي، ولو في دولة عربية واحدة.
وبشارة بهذا الطرح يستبطن الوفاء لعدد كبير من المناضلين، والشهداء العرب والتونسيين الذين بذلوا جهدهم، وضحوا بحياتهم في مقارعة الاستبداد، وفي المطالبة بإقامة أركان دولةٍ مدنيةٍ تقدّميةٍ، ويستبطن، أيضاً، الوفاء إلى مشروعه الفكري/التنويري الداعي إلى بناء دولة مواطنيّة، تولي الاعتبار إلى المجتمع المدني، وتنشر ثقافة الحق والواجب، وتحتكم إلى سلطة القانون والمؤسسات المُنتخبة، لا إلى سلطة العصبية الطائفية أو القوة العسكرية.
والواقع أن دراية بشارة بالشأن التونسي ومتابعته الدقيقة لتفاصيله ليست جديدة، والناظر في
تكمن قيمة مقاربة عزمي بشارة للتجربة التونسية في أنها تنأى بنفسها عن التمجيد الفجّ، وعن التهافت المجاني على مشروع تونس في الثورة والانتقال الديمقراطي، وتحاول قراءة المُنجز التونسي وفهمه والتفاعل معه من منظور ثقافي مسؤول، يسائل الظواهر الاجتماعية المستجدّة في تونس الجديدة، ويتعاطى معها بالتحليل والنقد، والدعم والنقض من منظور عقلاني.
وتحضرني، وأنا أقرأ خطاب بشارة في فهم الثورة التونسية والانتقال الديمقراطي وتحدّياته، صورة المثقف النقدي/البنائي الذي تحدّث عنه إدوارد سعيد، وصورة المثقف العضوي الذي ينهمّ بهموم الجماعة وأحلامها، الذي نظّرله أنطونيوغرامشي.
سجّل التاريخ لجون بول سارتر دفاعه عن حق الشعب الجزائري في التحرير وتقرير المصير، وسجل لجيل دولوز انتصاره لثورة الطلاب في فرنسا سنة 1968، ولنعوم تشومسكي موقفه المعبّر من جانب القضية الفلسطينية، وسيسجّل التاريخ لعزمي بشارة مساندته الشعب التونسي في الثورة على الدولة المستبدة، وفي السعي إلى بناء مشروع أول ديمقراطية في العالم العربي.