عسكرة الدولة المصرية
قد يتصور بعضهم أن تقلد عسكريين متقاعدين وظائف مدنية، وانتشارهم في مؤسسات الدولة المختلفة، السياسية والاقتصادية والإدارية والإعلامية، بل والثقافية وحتى الدينية، وبالطبع أن يكون الرئيس قادماً من لدن القوات المسلحة ومن خلفاء "الزعيم الخالد" البكباشي، جمال عبد الناصر، زعيم تنظيم الضباط الأحرار الذي انقلب على قيادة الجيش في ليلة 23 يوليو 1952، ثم اتجه نحو السيطرة على الدولة المصرية كلها تحت شعار "الحركة المباركة" التي جاءت من أجل تطهير الجيش أولاً، والدعوة إلى تطهير كل مؤسسات الدولة تحت مظلة الدستور القائم! ثم كان ما كان، وتحول الأمر إلى ثورة يوليو! الحقيقة أنه هكذا تكون ثلة من العسكريين قد تمكنت من السيطرة على قيادة الجيش، ثم من فرض سيطرتها على الدولة ومؤسساتها المدنية المختلفة، وإدارة الرچيم (النظام) الذي كان قائماً، ولا يعني عسكرة الدولة.
كانت تلك المرحلة الأولى، والتي استمرت من يوليو 52 وحتى مايو 53، عندما قرر مجلس القيادة "المجلس العسكري وقتها" إلغاء النظام الملكي، وإعلان الجمهورية، وتعيين أول رئيس للجمهورية، وهو اللواء محمد نجيب، ثم كانت نقطة التحول الحقيقية في هيكل الرچيم/ النظام في عام 54، عندما تم عزل نجيب، وإقصاء كل التيارات السياسية القديمة، من دون استثناء وتولي عبد الناصر السلطة كاملة.
جمال عبد الناصر ومحمد نجيب (1954) |
ومن دون الدخول في تفاصيل تاريخية كثيرة، تلك كانت البداية الحقيقية لبناء النظام السياسي الجديد، وهو ما عرف بنظام يوليو، وهكذا، بدأ التغلغل العسكري التدريجي في الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، وصبغ الحياة في المجتمع بصبغة عسكرية، شملت كل مناحي الحياة، وانعكس ذلك بشدة على الطبيعة المدنية للمجتمع، والأخطر أنه انعكس على القوات المسلحة نفسها، ودرجة احترافيتها وكفاءتها العسكرية، فكانت النتيجة الصادمة في أول مواجهة عسكرية حقيقية مع العدو الإسرائيلي في 5 يونيو 1967، وكانت الهزيمة العسكرية المريرة، وكان لا بد من خروج الجيش من الحياة المدنية تماماً وتفرغه لإعادة البناء العسكري والاستعداد والإعداد لتحرير الأرض المحتلة واستعادة الكرامة، وشهدت مصر فترة قصيرة من خروج الجيش من الحياة العامة من يونيو 1967 حتى منتصف 1979. وكان أنور السادات قد أتم ما عرف بعملية السلام وتوقيع معاهدة بلير هاوس، فأصدر القرار الجمهوري رقم 32 لسنة 1979، بإنشاء "جهاز مشروعات الخدمة الوطنية في وزارة الدفاع"، لتبدأ مسيرة جديدة لدور القوات المسلحة، وكان الهدف المعلن، وقتها، توفير قدر من احتياجات القوات المسلحة ذاتياً، للتخفيف عن الدولة، وأيضاً، استغلال فائض الطاقة فيها للمساهمة في استعادة البنية الأساسية والتنمية المطلوبة، بعد سنواتٍ، كان شعارها "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".
وبدأت مسيرة جديدة من تغلغل القوات المسلحة في الشأن العام. ولكن، بقدر أكثر مهارة وعمقاً، وتقبل الرأي العام هذا الدخول الهادئ من القوات المسلحة في المجال المدني بترحاب، من دون التفكير في أي عواقب، بل رحب كثيرون به. جاءت بعد ذلك مرحلة ما يمكن أن نسميها عسكرة الدولة، في أعقاب مشاركة مصر في حرب الخليج الثانية، وتعيين المشير حسين طنطاوي قائداً عاماً للقوات المسلحة وزيراً للدفاع ، واللواء عمر سليمان رئيساً لجهاز المخابرات العامة، واتخذ من اسم مجلس الدفاع الوطني ستاراً لإنشاء منظومة اقتصادية ضخمة وتطويرها، وأعقب ذلك، بعدة سنوات، تعيين اللواء حبيب العادلي وزيراً للداخلية، ليستصدر عدة قرارات جمهورية بإنشاء جهاز مشروعات الأراضي وغيره، وهكذا بدأ نشاط محموم لهذه المؤسسات التي اتخذت لنفسها مسمى "الأجهزة السيادية" للهيمنة على كل مقدرات الدولة الاقتصادية، بشكل مباشر وغير مباشر، ولم يكن مسموحاً لأي نشاط استثماري بالعمل، قبل المرور عبر هذه الأجهزة، وكان الدور الأكبر لوزارة الدفاع، نظراً للإمكانات الضخمة المتاحة لها.
وهناك تقديرات لخبراء دوليين في شؤون الشرق الأوسط وخبراء اقتصاديين، أمثال روبرت شبرنجبورج وبول سوليفان، أن اقتصاديات وزارة الدفاع بلغت في العام 2011 مبلغ 138 مليار يورو، وشملت كل قطاعات النشاط الاستثماري من تصنيع وتعدين وزراعة وخدمات وسياحة وفنادق وتجارة واستثمارات عقارية، وغيرها. وبالمثل، أنشأ جهاز المخابرات العامة مجموعة ضخمة من الشركات، تحت مظلة مجلس الدفاع الوطني، تعمل في مجالات المقاولات والاستثمارات العقارية، واستحوذت على قطاع تكنولوجيا المعلومات، وكذا مشروعات وزارة الداخلية. وإذا كانت التقديرات الخاصة بوزارة الدفاع تصل إلى ما بين 40% إلى 60٪ من الاقتصاد القومي، بإضافة أنشطة باقي الأجهزة "السيادية" قد يتجاوز التقدير هذه النسبة، وكان لابد من الإشارة إليها، حيث أصبحت كلها خاضعة لهيمنة المؤسسة العسكرية بعد 3 يوليو.
هذه مجرد أمثلة فقط، لكن الأكثر أهمية الحملة الإعلامية الممنهجة، والمركزة التي تسعى إلى ترسيخ فكرة عسكرة الدولة، واعتبارها أمراً جيداً وطبيعياً، بل ويجب الترحيب به؟
هناك حالة من التماهي الشديد للقوات المسلحة مع كل نواحي ومجالات الشأن العام في مصر من تنظيم دوريات أمنية مشتركة من القوات المسلحة والشرطة المدنية، تجوب الطرقات، إلى تمركز الدبابات والمدرعات على الطرق الرئيسية، وأمام المؤسسات المدنية والعامة، إلى إزالة المباني المخالفة، وإدارة الطرق السريعة، وإنشاء الفنادق الفاخرة والنوادي، وإنتاج المواد الغذائية، والتعدين وعشرات المجالات، وأخيراً النقل العام وتوزيع السلع التموينية. وانتهاء يتولى السلطة وإحكام القبضة على النظام السياسي للدولة .. نحن لسنا أمام دولة عميقة، ولا شمولية، ولا ديكتاتورية، ولا سلطوية، وليست دولة يحكمها العسكر. ولكن، دولة عسكرية بامتياز.