مع الذكرى المئوية للحكومة العربية في دمشق 1918-1920، التي تتمثّل هذا العام بيومين فارقين في التاريخ السوري (إعلان الاستقلال في 8 آذار/مارس 1920 وتبنّي نظام نيابي ملكي يقوم على اللامركزية لحفظ حقوق الأقليات، ومعركة ميسلون في 24 تموز/يوليو 1920 التي أنهت الحلم بدولة عربية مستقلة خلال ساعات)، لم تسمح الظروف للأسف باستعادة ما جرى ويجري وما صدر ويصدر من كتب بمناسبة الذكرى المئوية. ولا شك في أن هذه فرصة للمقارنة بين ما كُتب في العربية، وفيه تقصير من ناحية واجترار من ناحية أخرى، وبين ما صدر من دراسات في أوروبا والولايات المتحدة التي كانت معنية بما حدث في دمشق خلال 1918-1920.
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى الكتاب المهم للمؤرخ الأميركي جيمس ل.غلفن James L.Gelvin الذي صدر بعنوان "الولاءات المنقسمة: القومية والسياسة الجماهيرية في سورية مع انهيار الإمبراطورية" (Divided Loyalities: Nationalism and Mass Politics in Syria at the Close of Empire) الذي صدر في الذكرى الثمانين لإعلان الحكومة العربية، عن منشورات جامعة كاليفورنيا. وعلى حد علمنا، فقد مرّ هذا الكتاب المهم وكأنه لم يكن، حيث لم يحظ بعرض ولم يطّلع أو يستفد منه مَنْ كتب عن تجربة الحكومة العربية 1918-1920 في لغتنا، بينما كان من الضروري ترجمته الفورية نظرا للمقاربة الجديدة له في محاولة تفحص أسباب فشل الحكومة العربية في تنفيذ أجندتها القومية العربية التي كانت تهدف لبناء نظام سياسي جديد بالاستناد إلى جهود واضحة في حشد الشارع السوري بوسائل مختلفة لكي يدعمها في مواجهة دول الحلفاء للمطالبة بإنشاء دولة عربية مستقلة على نمط الدول المتمدّنة.
ومن هنا كان يؤمل من صدور هذا الكتاب أن يكون مناسبة لمراجعة شاملة ونقدية لتجربة الحكومة العربية في ذكراها المئوية، وليس مجرّد احتفالية تجترّ المعلومات وتمجّد ما حدث وتُلقي بمسؤولية فشل هذه التجربة على العنصر الخارجي فقط (التآمر الإنكليزي- الفرنسي).
خسرت الحكومة العربية معركتها قبل ثلاثة أيام من ميسلون
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الكتاب في الأصل رسالة دكتوراه في التاريخ الحديث شارك في مناقشتها مؤرخان خبيران في هذا المجال (فيليب خوري وزخاري لقمان)، وقد مهّد له المؤلف (أستاذ التاريخ المساعد آنذاك في جامعة كاليفورنيا) في نشر عدة دراسات في مجلات علمية معروفة مثل "استعراض الطوائف الدينية في سورية بعد نهاية الحكم العثماني" (1994) و "الأصول الاجتماعية للقومية الشعبية في سورية" (1994) و "قومية عربية أخرى: الشعبوية العربية السورية في إطارها التاريخي الدولي" (1997).
ويبدو من عناوين هذه الدراسات أن المؤلف يتابع ما بدأه فيليب خوري في كتابه "أعيان المدن والقومية العربية"(1983) بالحفر في الخلفيات الاجتماعية للشخصيات والحركات الفكرية- السياسية التي ظهرت في نهاية الحكم العثماني وتبلورت بشكل أوضح خلال عهد الحكومة العربية 1918-1920، قبل أن تدخل البلاد تحت حكم الانتداب الفرنسي- البريطاني، لكي يفهم ويفسّر انقسام السوريين في ولائهم بين طرفين اتّسعت الهوة بينهما خلال 1919-1920 لتصل إلى الاشتباك المسلّح في دمشق (20-21 تموز 1920) عشية معركة ميسلون التي تحولت إلى معركة رمزية بأسلحة بسيطة ضد الجيش الفرنسي المسلّح بالدبابات والطيران والمدفعية.
وفي الحقيقة يقرّ غلفن في البداية بأنه لم يُرد أن يسلسل الأحداث التي جرت خلال عهد الحكومة العربية 1918-1920، على اعتبار أن هذه الأحداث غدت معروفة مع ما نشر في الإنكليزية أو العربية سواء مع كتاب ملكولم رسَل "الدولة العربية الحديثة الأولى: سوياً تحت حكم الأمير فيصل 1918-1920" (1985) أو مع كتاب خيرية قاسمية "الحكومة العربية في دمشق بين 1918-1920" (1982) وكتاب علي سلطان "تاريخ سورية 1918-1920: حكم فيصل بن الحسين" (1987)، بل يريد أن يفهم ويفسّر ما حدث من سقوط لمشروع الحكومة العربية في الداخل (المواجهات المسلّحة في أحياء دمشق مع ما بقي من "الجيش العربي" خلال 20-21 تموز 1921) قبل سقوط هذا المشروع أمام جيش الاحتلال الفرنسي في ميسلون في 24 تموز/يوليو 1920 وإرغام الملك المتوّج فيصل بن الحسين على مغادرة دمشق إلى المجهول.
ولأجل هذا البحث (رسالة الدكتوراه) فقد تمكّن المؤلف من حشد وثائق كثيرة سواء من مراكز الوثائق الأميركية أو الأوروبية (التي عكست اهتمام الحكومات الغربية بما كان يجري آنذاك في سورية) بالإضافة إلى مذكرات المشاركين في الأحداث والصحافة اليومية التي واكبت الأحداث ووفّرت مادة غنية للمؤلف مثل جريدة "الكوكب" التي كان يموّلها "المكتب العربي" (الواجهة الإعلامية للمخابرات البريطانية) في القاهرة وجريدة "العاصمة" الناطقة بلسان الحكومة العربية في دمشق الخ.
في المدخل النظري ينطلق المؤلف من مقاربة ديالكتيكية ترى أن ما تمّ حتى ذلك الحين من دراسات تركّز على حصر القومية في "الشرق الأوسط" في نطاق النخبة القومية غير مقنع أو غير كاف. فمع عدم التشكيك بدور تلك النخبة، التي يرتبط نجاحها بقدرتها على جعل شعاراتها تنسجم مع طموحات الفئات الأُخرى في المجتمع، إلا أن هذه المقاربة غير كافية لأنها تركز على لحظة واحدة من الديالكتيك القومي (القومية العربية التي جاءت مع النخبة الجديدة إلى دمشق) وتستبعد اللحظة الأخرى (القومية المحلية أو الشعبية التي تتمثل في اللجنة الوطنية العليا). وبعبارة أخرى، إن إدماج اللحظة التاريخية الأخرى (الحركة السياسية الموازية والمنافسة للحركة القومية العربية) في الديالكتيك القومي مع ما مهّد لها ونتج عنها (أحداث 20-21 تموز/يوليو 1920 في دمشق) للوصول إلى تركيب أو طباق جديد "هو الهدف من هذا الكتاب" (ص 9).
بالاستناد إلى هذه المقاربة يعتمد المؤلف في التحليل لمصادره الكثيرة والمتنوعة إلى التمييز بين الخطابين القوميين (الأول للنخبة القومية العربية التي كانت نواتها "جمعية العربية الفتاة" وكيانها الجديد "حزب الاستقلال" وتمحورت حول الأمير/ الملك فيصل، والثاني للقومية الشعبية أو السورية المحلّية التي تبلورت في "اللجنة الوطنية العليا" برئاسة الشيخ كامل القصّاب) من خلال تحليل أشكال المظاهرات والاستعراضات والشعارات واللافتات وافتتاحيات الجرائد والخطب والإشاعات والمسرحيات التي تباينت بين الطرفين المتنافسين للسيطرة على الشارع.
وبعبارة أخرى، يقوم المؤلف هنا بتفكيك الخطاب القومي لكل طرف لكي يعود في النهاية إلى تركيب المشهد من جديد ليفسّر ما حدث عشية معركة ميسلون في دمشق خلال 20-21 تموز 1920 حين استخدم السلاح في المواجهة بين الطرفين وسقط مئات القتلى والجرحى، وهو ما يشمل مراجعة "الأسطورة" المؤسسة للحكومة العربية في دمشق باعتبارها ضحية للتآمر الخارجي فقط.
الافتراق بين "القوميتين"
كانت السيطرة في البداية للنخبة القومية العربية، المدنية والعسكرية، التي جاءت مع الأمير فيصل إلى دمشق بطموح كبير لتأسيس دولة عربية مستقلة. وقد نشطت هذه النخبة مع واجهاتها الحزبية والثقافية ("حزب الاستقلال" و"النادي العربي" الخ) في تأسيس البنية التحتية للدولة المنشودة (مدارس وجامعة ومجمع علمي وجيش وقوانين ومشروع دستور الخ) وفي تحشيد الشارع بتسيير مظاهرات واحتفالات في الأعياد القومية الجديدة (عيد الثورة العربية في 27 نيسان/إبريل، عيد الفتح أو تحرير دمشق في 30 أيلول/سبتمبر الخ) التي كانت تتميز بشعار "الدين لله والوطن للجميع" للإيحاء لدول الحلفاء والعالم بأن الشعب السوري منسجم ومتّحد وراء قيادته المطالبة بالاستقلال. وفي هذا السياق كانت من المناسبات المهمة سفر الأمير فيصل إلى أوروبا للمطالبة بحق العرب في الاستقلال وعودته منها، حيث كانت تنظّم المظاهرات المؤيدة له.
تصارعت بالسلاح "القومية الشعبية" مع "القومية العربية"
ومن ناحية أخرى شكّل وصول الوفد الأميركي المؤلف من هنري كينغ وتشارلز كرين، الذي كان جزءا من اللجنة الدولية التي اقترحها الرئيس ولسون بعد سماعه لخطاب الأمير فيصل في مؤتمر الصلح ورفضت فرنسا وبريطانيا تسمية ممثلين فيها؛ ذروة التحشيد للشارع من قبل النخبة القومية في صيف 1919 الذي أصبح له هيئة تمثله أيضا (المؤتمر السوري العام)، وهو ما انعكس في تقرير الوفد الذي لم يصل إلى الجهة المعنية (عصبة الأمم) ولم ينشر إلا في 1922 بعد أن أصبحت الوقائع على الأرض مختلفة تماما.
في هذا السياق، يركز المؤلف عند الخلفية الاقتصادية- الاجتماعية التي تغيّرت منذ خريف 1919 وشكلت حاضنة لقومية أخرى (اللجنة الوطنية العليا برئاسة الشيخ كامل القصاب) تعبّر "عمّا هو موجود" وليس "عمّا هو منشود". والمقصود هنا الاتفاق البريطاني- الفرنسي في 15 أيلول/سبتمبر 1919 على تعديل اتفاق سايكس – بيكو 1916، الذي أدى إلى ضمّ ولاية الموصل إلى العراق وسحب القوات البريطانية من سورية لكي تحلّ محلها القوات الفرنسية وتعمّد تأخير دفع المعونة الشهرية للحكومة العربية كأداة للضغط عليها .
فقد أدّت هذه الإجراءات بسرعة إلى تخلخل اقتصادي في الشمال، مع انفصال حلب عن مجالها الاقتصادي الحيوي في الموصل والأناضول، وضيق في النفقات في دمشق لمواجهة تدفق اللاجئين من الأناضول (السوريون المسرَّحون من الجيش العثماني والأرمن وغيرهم) بعد تمنّع بريطانيا عن دفع المعونة الشهرية (75 ألف جنيه شهريا) في موعدها، إلى عجز الحكومة عن دفع رواتب الموظفين والجنود مما اضّطر هؤلاء في بداية 1920 إلى بيع ملابسهم العسكرية في سوق الخجا / الحميدية لشراء القوت لأسرهم. وفي هذا الوضع لم يعد أمام الحكومة سوى زيادة الضرائب 50%-100% والإعلان عن قرض عام مما زاد في أعباء المعيشة على السوريين. فقد كانت المشاركة في القرض تطوعية نظريا ولكن الحكومة كانت في حالة عجز دفعتها إلى دعوة الموظفين للمشاركة في القرض العام براتب شهر، وتفويض المخاتير في الأحياء بحضّ التجار على المشاركة (ص 36-39).
في هذا الإطار الجديد، وخاصة مع عودة الأمير فيصل إلى دمشق في كانون الثاني/يناير 1920 بعد توقيعه على الاتفاق مع رئيس الحكومة الفرنسية كلمنصو الذي اعتبرته المعارضة الصاعدة "خيانة" لفلسطين، لم يعد الشارع حكرا على النخبة القومية كما كان بل برزت فيه أيضا بقوة القومية الأخرى ("اللجنة الوطنية العليا" حسب المؤلف) التي كانت تعبّر أكثر عن الأحياء الدمشقية العريقة (حي الشاغور والميدان والقنوات وغيرها) التي أصبحت حاضنتها الشعبية والتي كانت لها إديولوجيتها أو "نظرتها المختلفة تماما عن العالم" (ص 21).
كانت بداية نقطة الافتراق بين القوميتين حسب المؤلف في صيف 1919 مع اقتراب قدوم الوفد الأميركي للجنة الدولية التي أقرّتها عصبة الأمم لاستطلاع آراء السكان حول مستقبلهم. فقد أعدّت النخبة القومية العربية مظاهرات وحملات دعاية بهدف إقناع الرأي العام الخارجي بصورة أُمّة متطوّرة ومستعدة للاستقلال ولكنها فشلت في أن تضمّ إلى برنامجها القومي غالبية الشعب، حيث أنها لم تتفاوض مع الشعب حول أيديولوجيتها أو برنامجها القومي ولم تعدّ خطابا سياسيا مناسبا لغير النخبة، ولم تُقم صلات مع السكّان تشابه ما كان موجودا بين النخبة القومية والشعب في أرجاء العالم (ص 35).
في هذا السياق من تفاقم السخط بسبب تراجع الأحوال الاقتصادية والمعيشية جاء قرار الحكومة العربية بإصدار قانون التجنيد الإجباري في كانون الأول/ديسمبر 1919 ليفجّر السخط لأول مرة على شكل احتجاجات ضد الحكومة العربية في دمشق ودرعا وحاصبيا وغيرها، وظهرت ملصقات على الجدران تجاوزت الخطوط الحمراء مع مقارنة الحكومة العربية بحكومة الاتحاد والترقي البغيضة، واضطرت الحكومة العربية إلى إرسال 400 جندي لإخماد أعمال الشغب والاحتجاجات في حيّ الميدان (ص 43)، الذي كان قد استقبل الأمير فيصل بالهتافات والزغاريد لدى دخوله إلى دمشق في 3 تشرين الأول/أكتوبر 1918.
ولذلك، في تحليله للتنافس على كسب الشارع، يلاحظ المؤلف أن "اللجنة الوطنية العليا" كانت أولا تسيّر المظاهرات الاحتجاجية التي تنتهي بتقديم عرائض الاحتجاج إلى "الحكومة العربية" لكي تسلّمها بدورها إلى ممثلي دول الحلفاء. ولكن مع تعاظم دور "اللجنة الوطنية العليا" في الشارع تجاوزت "اللجنة الوطنية" الحكومةَ العربيةَ حيث أصبحت تقوم في نهاية المظاهرات بالتوجه إلى ممثلي دول الحلفاء لتقديم عرائض الاحتجاج بشكل مباشر، وسيّرت خلال ربيع وصيف 1920 الكثير من المظاهرات الاحتجاجية في دمشق وحلب وحمص وحماه وغيرها التي كانت تندّد بالهجرة الصهيونية إلى فلسطين وسياسة فرنسا في لبنان ومقررات سان ريمو (ص 281)، بما يتجاوز موقف الحكومة التي كانت تعبّر عنه الصحافة الناطقة باسمها في دمشق وحلب.
المسرح أداة تحشيد
ولكن الشارع لم يعد وحده المجال الذي تتنافس فيه القوميتان، حسب تعبير المؤلف، أو النخبة القومية العربية الممثلة في "الحكومة العربية" والقومية الشعبية الممثلة في "اللجنة الوطنية العليا" التي أصبحت المسافة بينهما تتباعد. فقد غدت المقاهي والمسرحيات مجالا مهما لحشد الشارع أيضا نظرا لأن غالبية السوريين لم يكونوا يقرأون الصحف الناطقة بلسان الحكومة أو المدعومة منها. وفي حين أن الحكومة العربية دعمت عرض المسرحيات التي تستلهم "الثورة العربية" سواء في المدارس الحكومية أو الحربية نجد أن اللجنة الوطنية كانت مقصّرة في هذا المجال بسبب سلفية رئيسها الشيخ كامل القصاب، الذي كان في الوقت نفسه مديرا لـ "المدرسة الكاملية" التي أسّسها في حي البزورية العريق. فقد كان أسعد الحكيم معلما في المدرسة وانشغل أيضا بتدريب الطلاب للتمثيل، ولكن وجهاء الحيّ لم يرحبوا بذلك وقام رجال الدين بجمع الفتاوى التي تحرّم مثل هذا النشاط (ص 559).
في نهاية الكتاب يرى المؤلف أن الحكومة العربية ورغم سبقها في الحشد الجماهيري لأجندتها القومية العربية من خلال الصحافة الناطقة بلسانها أو المدعومة منها وتسييرها للمظاهرات بالاعتماد على طلاب المدارس الحكومية "لم تنجح لأن هذه الأيديولوجية بدت غريبة للكثير من السوريين". ويبدو هذا في المظاهرات التي سيّرتها الحكومة للترحيب بالأمير فيصل بعد عودته الثانية من باريس في كانون الثاني/يناير 1920، التي بدت أقل حماسة من تلك المظاهرات الأولى التي خرجت للترحيب به عند عودته الأولى من باريس في أيار/مايو 1919، بل إن هذه المظاهرات حملت شعارات تمسّ الأمير فيصل نفسه "الموت لمن خان فلسطين" في إشارة إلى توقيعه للاتفاق المذكور مع كلمنصو (ص 571).
ومع هذا الانعطاف تزايد تأثير "القومية الشعبية" بتعبير المؤلف أو "القومية السورية" التي كانت تشدّد على عدم التفريط بفلسطين واستقلال سورية الطبيعية بما فيها فلسطين في المؤتمر السوري العام، ولذلك يؤيد المؤلف ما قاله آنذاك الجنرال ألِنبي من أن الأمير فيصل كان يعرقل دعوة المؤتمر السوري العام إلى الانعقاد بعد عودته من باريس وتوقيعه للاتفاق مع كلمنصو، الذي يمنحه نصف استقلال على المنطقة الشرقية أو سورية فقط، لعلمه بنتائج ذلك ولكنه رضخ أخيرا في 6 آذار/مارس 1920 ودعا أعضاء المؤتمر إلى الانعقاد بعدما أدرك أن زعامته أصبحت في خطر.
ولكن يلاحظ المؤلف هنا أن الأمير فيصل في دعوته لأعضاء المؤتمر إلى الانعقاد طلب منهم اختيار نظام حكم مناسب لسورية في المستقبل دون الإشارة إلى إعلان الاستقلال، تاركا بذلك الباب مفتوحا لحلّ وسط مع فرنسا وبريطانيا. ولكن المفاجأة جاءت من رأس اللجنة الوطنية العليا (الشيخ كامل القصاب) في اجتماع المؤتمر السوري يوم 7 آذار/مارس 1920 حين رفع السقف إلى الاستقلال الكامل لكل أرجاء سورية الطبيعية، بما في ذلك فلسطين، وهو الخطاب الذي بادرت اللجنة الوطنية إلى توزيعه في الأحياء عشية قرار المؤتمر بإعلان استقلال سورية الطبيعية باعتباره يعبّر عن الأمة (الممثلة في المؤتمر السوري) التي هي مصدر الشرعية وليس الحكومة العربية (ص 247).
كان كامل القصاب نفسه هو بطل المشهد في أحداث 20-21 تموز 1920 حين كان يجول الأحياء ليحثّ السكان على التجمّع والتسلح والذهاب إلى ميسلون للدفاع عن الوطن، بعدما قامت الحكومة العربية بتعليق جلسات المؤتمر السوري وحلّ الجيش بعد إنذار الجنرال غورو المعروف. وبعبارة أخرى فقد كانت الحكومة العربية خسرت المعركة في دمشق مع اللجنة الوطنية قبل أن تخسرها بسقوط وزير الحربية يوسف العظمة في أرض ميسلون أمام الجيش الفرنسي. وهكذا يقول المؤلف في السطور الأخيرة من كتابه إن العهد الفيصلي في سورية على الرغم من قصره (5 تشرين الأول/أكتوبر 1918-24 تموز/يوليو 1920) شهد "بروز سياسة القومية الشعبية في "الشرق الأوسط" العربي، وهي التي استمرّت حتى الآن بشكل أو بآخر" (ص 247).
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري