في قلب كراتشي كبرى مدن إقليم "السند" الباكستاني يقطن التاجر، محمد فضل، في منطقة لياري. قبل شهرين رن هاتفه لدى عودته من متجره إلى بيته. على الطرف الآخر جاءه صوت شاب أمره في نبرة غاضبة بدفع 5 ملايين روبية باكستانية (49 ألف دولار) الى جماعته المسلحة.
يقول فضل لـ"العربي الجديد": "هددني المتصل بخطف ولدي إن رفضتُ الدفع، اندهشت كونه يعرف عنوان عملي، وعنوان المدرسة التي يدرس فيها ابني محمد".
رفض فضل دفع المبلغ، منع ابنه من الذهاب إلى المدرسة، بعد يومين تلقى اتصالاً آخر أمهله فيه الشاب يومين آخرين للدفع، وأعطاه عنوان المكان المحدد ليحضر إليه مبلغ الـ"بتهة"، أي الإتاوة، لكنه رفض الطلب مرة أخرى.
صباح اليوم التالي، وجد فضل رسالة أمام منزله، يسميها الباكستانيون الـ"برجة"، كتبت فيها كلمتان لا أكثر، "الموت" أو دفع الـ"بتهة".
أصر على موقفه الرافض، "المبلغ المطلوب كبير جداً ولا أستطيع دفعه"، قال فضل لـ"العربي الجديد". يومان وجاء رد طالبي الإتاوة، استيقظت العائلة في الصباح الباكر على دوي انفجار كبير أمام منزلهم، هرع فضل مسرعاً نحو الباب، وجد سيارته مدمرة، ورصاصة ملقاة أمام الباب. اضطر بعدها إلى التوجه نحو العاصمة، إسلام أباد، وترك متجره في كراتشي للنجاة بحياته وأرواح عائلته.
حظ فؤاد خان، أحد سكان مدينة بيشاور الحدودية مع أفغانستان، كان أفضل من فضل، إذ نجح في الوصول إلى قادة جماعة "طالبان باكستان" المحظورة، والتي فرضت إتاوة مالية على أسرته قدرها مليونا روبية (19 ألف دولار) بذريعة أن إخوانه يعملون في الحكومة. يقول خان لـ"العربي الجديد: "تمكنت من إقناع قادة الجماعة بفقري وعدم مقدرتي على دفع الإتاوة عن إخواني، غير أن الجهود التي بذلتها، عبر وسطاء، كلفتني 500 ألف روبية باكستانية ( قرابة 5 آلاف دولار) وهو مبلغ كبير جداً بالنسبة إليّ".
نسبة الانتشار
بحسب إحصائيات أجهزة الأمن الباكستانية، فإن مدينة كراتشي وحدها شهدت 1258 جريمة فرض إتاوة خلال عام 2013، فيما أكدت مصادر مطلعة في الشرطة الباكستانية لــ"العربي الجديد" أن عدد الجرائم ذاتها منذ بداية العام حتى منتصف شهر أغسطس/آب الماضي وصل إلى 1181 جريمة.
المصادر حملت الوضع السياسي المحتقن مسؤولية تزايد هذا النوع من الجرائم على الرغم من الحملات الأمنية الموسعة، وإعلان قوات الشرطة اعتقال مئات ممن يشتبه في ضلوعهم في جريمة فرض الإتاوات المالية.
وتكشف الإحصائيات الحصرية، التي حصلت عليها "العربي الجديد"، مقتل 12 تاجراً بعد رفضهم دفع الإتاوات المالية في مدينة كراتشي وحدها، بينما وصل عدد جرائم فرض الإتاوة المسجلة في مدينة بيشاور164 جريمة خلال العام الجاري، في الوقت الذي لم يتجاوز عدد الجرائم المماثلة خلال العام الماضي 40 جريمة.
"نطاق الظاهرة يتسع يوماً بعد يوم"، يقول مسؤول في شرطة إسلام أباد لـ"العربي الجديد".
المسؤول، الذي فضل عدم الكشف عن هويته، أكد أن تجار سوق الخضار، الواقعة في ضواحي العاصمة، يدفعون شهرياً 5 ملايين روبية (قرابة 50 ألف دولار) لجماعات مسلحة كإتاوات مالية.
الأخطر، كما يقول، إن الظاهرة تحولت من التجار ورجال الأعمال إلى أصحاب المدارس والجامعات والموظفين في البنوك والدوائر الحكومية، بعدما كانت تقتصر على رجال الأعمال والتجار وأصحاب الثروات، وفي حال رفض الدفع، كما حدث في مدينة شارسدة المجاورة لمدينة بيشاور، كان القتل من نصيب مدير المدرسة الثانوية في المدينة، والذي لم يتم التوصل إلى قاتله، وهو ما تكرر مع مدير مدرسة ونجله في منطقة منجو بيرفي، في ضواحي مدينة كراتشي، بعدما رفض دفع الإتاوة.
الإتاوة منهج حياة
ما السبب في انتشار جريمة الـ"بتهة"؟ يرى المحلل الأمني، شفاعت خان، أن العملية العسكرية، التي تقودها القوات الخاصة والشرطة في مدينة كراتشي، منذ سنة، دفعت عناصر العصابات والجماعات المسلحة إلى مدن أخرى لفرض الإتاوات المالية على أهلها.
ويضيف لـ"العربي الجديد" أن العصابات الموجودة في المدن الباكستانية تأثرت بنظيرتها في كراتشي، واتخذت نهجها في تمويل أنشطتها وأعضائها.
ويوضح أن الجريمة صعبة الاكتشاف وهو ما يشجع كثيرين على ارتكابها، إذ تُستخدم فيها عادة شرائح هاتف غير مسجلة أو خطاب ورقي يصحب بطلقة نارية، في إشارة إلى التهديد بالقتل عند الرفض.
ويؤكد أن الظاهرة كانت مقتصرة فقط على مدينة كراتشي، العاصمة الاقتصادية لباكستان، وألحقت بها أضراراً مالية بالغة، لكنها في الآونة الأخيرة انتشرت إلى مدن أخرى، مثل لاهور وبيشاور وروالبندي وضواحي العاصمة إسلام أباد، فضلاً عن انتشارها في القرى والأرياف.
ويلفت إلى أن الـ"برجة" (رسالة الموت) أجبرت مئات التجار ورجال الأعمال على نقل أموالهم إلى دول عربية وأوروبية، وهو ما زاد وضع باكستان الاقتصادي سوءاً.
خطوات التنفيذ
يشرح أحد المعتقلين السابقين في جريمة فرض الإتاوات المالية، عرف نفسه باسم جمال بوغتي، عملية فرض الإتاوات بالقول "الأمر مخطط ويشمل خطوات عدة، الأولى هي البحث عمّا تصفه العصابات والجماعات بالصيد واختيار من يفرض عليهم الإتاوات المالية، وعادة تقوم مجموعة خاصة، ليس لها عمل غير ذلك، بالبحث عنهم باستخدام علاقاتهم القوية برجال الأمن ومسؤولين في الحكومة، يوفرون لهم معلومات كافية عن الأشخاص المطلوبين، وتحديد قدر الإتاوات المالية، بالنظر إلى قدرة الشخص المالية".
يتابع بوغتي، المفرج عنه قبل عام:"الخطوة الثانية، بعد تقديم المعلومات إلى الجماعة، تتولاها مجموعة أخرى تهدد الشخص عبر اتصال هاتفي أو رسالة ورقية، أو أحياناً رسائل عدة، وتستغرق أحياناً أكثر من أسبوع، ويتوقف الوقت على تعامل المستهدف مع الجماعة، ولدى وصولها إلى قرار الرفض أو القبول، يبدأ عمل مجموعة ثالثة تقوم بالخطوة الأخيرة، وهي إما الحصول على الإتاوة إذا وافق المستهدف، أو تنفيذ التهديد من قتل أو خطف أو تفجير منزل أو سيارة".
ويتابع إن عملية تنفيذ التهديد أسهل من عملية الحصول على الإتاوة، والتي تشارك فيها عادة ثلاث فرق، واحدة للمراقبة، وأخرى للتسلم، وثالثة للتواصل مع أجهزة الأمن. لكن جمال يؤكد أنه في بعض الأحيان تنفذ مجموعة واحدة الخطوات كلها، مثل جماعة طالبان المحظورة، التي كان ينتمي إليها.
المتورطون في الجريمة
يصنف المحلل الأمني، شفاعت خان، مرتكبي الجريمة إلى فئات عدة، الأولى الجماعات الجهادية المسلحة المحظورة، والتي على رأسها حركة طالبان الباكستانية، التي تعد الأولى في فرض الإتاوات، حسب الإحصائيات الحكومية، موضحاً أن 50% من دخل الجماعة يأتي من الإتاوات المالية ونهب البنوك، وخطف الشخصيات الحكومية وقيادات في الأحزاب السياسية، بحجة التعاون مع النظام.
الفئة الثانية هي الجماعات المسلحة الطائفية (السنية والشيعية) والمنتشرة في بعض المدن الباكستانية، وفي مقدمها مدينة كراتشي، حيث يدور الصراع منذ فترة طويلة بين الشيعة والسنة.
لكل طائفة جماعات مسلحة تحصل على دعم من الطائفة، تقوم في الوقت ذاته بفرض الإتاوات المالية على مناهضيها، وهو ما أثبتته التقارير الأمنية في مدينة كراتشي، والتي اطلعت عليها "العربي الجديد".
القسم الثالث يتمثل في الأجنحة العسكرية التابعة للأحزاب السياسية، وهو ما يؤكده حكم محكمة السند في شهر أبريل/نيسان الماضي في قضية تورط فيها عدد من المنتمين إلى الأجنحة العسكرية للأحزاب السياسية والقومية في كراتشي (الحركة القومية المتحدة، وحزب عوامي القومي الوطني، والحركة السنية) والذين أقروا بضلوعهم في جريمة فرض الإتاوات المالية بعد إحالتهم إلى المحاكمة بناء على التقارير، التي رفعتها السلطات الأمنية الى المحكمة، بعد اعتقال عناصر تلك الأحزاب من المتورطين في فرض الإتاوات على المواطنين.
مافيا المخدرات هي الأخرى لها نصيب في انتشار جريمة فرض الإتاوات المالية، إذ تخطف التجار ورجال الأعمال وأولاد الأثرياء، وتفرض الإتاوات المالية عليهم، ولا سيما في مدينتي كراتشي، جنوب باكستان، وبيشاور، في شمال غرب البلاد، كما يؤكد شفاعت خان.
دور الشرطة
عادة، لا يقوم الضحايا بتسجيل قضيتهم لدى الشرطة "لأنه لا طائل من وراء الامر"، كما قال محمد فضل وفؤاد خان، وهما من ضحايا الإتاوة، لـ"العربي الجديد"، ويؤكدان بذلك أن الشرطة لن تتمكن من الوصول إلى المتورطين، وحتى إن تم اعتقال المتورطين فإن القانون الباكستاني فيه ثغرات تمكنهم من الخروج بضمان مالي كبير وتهديد حياة الضحايا، كما أن الجماعات المسلحة والعصابات لها صلة بأجهزة الأمن تمكنها من معرفة معلومات المبلغين واغتيالهم، وهو ما حدث مع نوورز خان، مدير مدرسة ثانوية في مقاطعة شارسدة المجاورة لمدينة بيشاور،عاصمة إقليم خيبربتختونخوا، شمال غرب البلاد، والذي تلقى اتصالاً هاتفياً من جماعات مسلحة فرضت عليه إتاوة مالية، رفض وأخبر جهة أمنية، ليلقى مصيره بعدها بساعات، الامر الذي أثار ضجة في باكستان، دفعت جهاز المخابرات الى الإعلان عن اعتقال 37 ضابطاً وشرطيّاً ضالعين في جريمة فرض الإتاوات المالية، وتهديد المواطنين بـ"البتهة" أو الموت.