عصف العراقيين بشأن "14 تموز"
حدث في العراق، في 14 يوليو/ تموز 1958، انقلاب عسكري هزّ العالم أعقبته ثورة شعبية دموية، وقلب النظام الملكي إلى نظام جمهوري، وقام به ضابطان عسكريان كانا ضمن هيئة الضباط الأحرار، ولكنهما سارعا مع أفواجهما، فنجحا في قلب النظام، ونصّبا نفسيهما قائدين للنظام الجديد الذي شاركت فيه عناصر سياسيّة من عدّة أحزاب معارضة، فأخذ العراق يسير في اتجاه آخر، غير الذي ألفهُ على مدى الحكم الملكي. وأباد الانقلابيون الأسرة الهاشمية المالكة كلها، وسحل كلّ من ولي العهد ورئيس الوزراء، نوري السعيد، وولده وعدة وزراء وضيوف من الأردن وبريطانيا وأميركا في شوارع بغداد اللاهبة.
وقد تألم أغلب العراقيين، منذ ذلك اليوم، لمصرع الملك الشاب فيصل الثاني (حكم 1953- 1958)، وكان في الثالثة والعشرين من عمره. ودخل العراق، منذ تلك اللحظة التاريخية الحرجة، سلسلة من المآسي والتمرّدات والانقلابات وصراعات الأحزاب الدموية، خصوصاً بين القوميين/البعثيين والشيوعيين، وسفكت دماء غزيرة، وانقسم العراقيون، منذئذٍ، بين من يبكي العهد الملكي ومن يمجّد "الثورة" وزعيمها عبد الكريم قاسم وعهده الجمهوري، علماً أن رفيقه عبد السلام عارف الذي كان الأساس في تغيير النظام قد دخل في صراع مرير مع قاسم الذي ناوأ الرئيس المصري، جمال عبد الناصر، ولكن قاسم سيعدم عام 1963 بعد انقلاب دموي ضده، ليغدو عارف رئيسا للجمهورية.
الملك فيصل، في عهده القصير، أخذ بيد العراق، وطّور المرافق الاقتصادية والإبداعية، في حين تأخرت البلاد على يد العسكر والأحزاب المتناحرة
وسواء كان العراقيون من الشاتمين في "14 تموز" والكارهين لها، أو من الممجديّن لها والمتعّبدين في محرابها، فلكل طرف دوافعه ومبرّراته، ولكن ثورة المعلومات الحالية، مع وجود جيل جديد يعاني تداعيات التاريخ الصعب، ومتحرّر من سجون التاريخ الفكرية، وتتكشّف الحقائق أمامه، يجد الواحد منا نفسه إزاء حالة استقطاب وإثارة عصف شديد اللهجة بين الطرفين، طرف يبكي يلعن قيام الجمهورية ومؤسسها ويشيد بالمَلكية حيث "الاستقرار والتقدم ومجلس الإعمار والرخاء ومكانة العراق العليا في المجتمع الدولي"، إزاء طرف راديكالي يمقت المرحلة الملكية والأسرة الهاشمية وأسطوانته عن الإقطاع والرجعية والفقر والاستعمار وحلف بغداد.. إلخ.
وصلت حالة العصف اليوم إلى توظيف كلّ الشتائم والردح وتبادل الإساءات واللعنات، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث قادت إلى القطيعة بين الناس وغليان العواطف وهيجانها. كما افترق بعض المثقفين بعضهم عن الآخر، وخصوصاً من الراديكاليين والشيوعيين والقاسميين الذين يعتبرون "14 تموز" يوما وطنيا للعراق، ويخالفهم في ذلك الملكيون والقوميون والليبراليون وحتى الإسلاميون، فهؤلاء يعتبرون هذه الذكرى يوما أسود كالحاً، حيث مصرع ملكهم الشاب الذي قتل ظلما وعدوانا، وكان خلال عهده القصير قد أخذ بيد البلاد، وطّور مرافقها الاقتصادية والإبداعية، في حين تأخرت البلاد على يد العسكر والأحزاب المتناحرة، وقادت، في النهاية، إلى المهالك والصراعات والإعدامات والحروب والانفرادية والدكتاتورية.
تغير النظام في العراق من ملكي إلى جمهوري، ولكن المؤسسّات نفسها بقيت تعمل على تنفيذ خطط الخمسينيات الضخمة
يعيش العراقيون أزمة أخلاقية بالدرجة الأولى، وهم غير منسجمين ألبتة، حتى في أبسط الأشياء، ويكذب من يقول عكس ذلك.. نوازعهم وسايكلوجياتهم وتربوياتهم البيئية تتحكّم بهم، وليس عقولهم أو تفكيرهم أو مستوياتهم، فقد ترى شاباً منهم، وهو يحمل عقلاً كبيراً وأفقاً واسعاً إزاء شيخ متحزّب طاعن في السن، ضيق الأفق وسيئ العبارة وتافه التفكير. إنه من بقايا المتعصّبين من دون أن يعلم أن هذا الحدث التاريخي ليس مُلكا لهم وحدهم، بل هو ملك الأجيال القادمة على امتداد التاريخ، فلا يمكن احتكاره أبدا.
تغير النظام في العراق من ملكي إلى جمهوري، ولكن المؤسسّات نفسها بقيت تعمل على تنفيذ خطط الخمسينيات الضخمة، وتشير كلّ الوثائق إلى ذلك. وعلى العراقيين أن يكونوا موضوعيين، وأن يتم الاعتراف بأخطاء كلّ عهد ومنجزاته، ملكياً أم جمهورياً. وينبغي أن تكون الأحكام تاريخية وغير سياسية، فقد أصبح الحدث في عداد التاريخ، وأن تخفت المجادلات التافهة، وتكون الرؤية نسبية، من دون أن نقدّس هذا، وننكّل بالآخرين، فالكلّ أصبح في ذمّة التاريخ، وعليهم تقبل الآراء جميعها إن آمنوا فعلا بالديمقراطية، بعيدا عن الديماغوجية والغلو والتعصّب. ونسأل: هل من المعقول أن يتم تغييب تاريخ العراق التراكمي؟ ذلك أن مآسي نهايات القرن العشرين لم تأت من فراغ؟ فلا يمكن أبداً لجم رأي سديد، وإسكات مؤرّخ لكشفه معلوماتٍ جديدة، ومهاجمة من له بصيرة في الزمن المنكود، كي تبقى الأحقاد والكراهية مغروسة في الصدور.
انحدر مثقفون عراقيون إلى مستنقع آسن، خصوصاً مع فقدانهم المرونة والفهم، وتقبل الرأي الآخر
لقد استخدمت، خلال الأيام الفائتة، على وسائل التواصل، لغة عدائية فاضحة وسافرة، وتشهير بالغ لتسقيط كلّ طرفٍ الطرف الآخر.. عدا عن انقسام واضح في المجتمع، حتى لدى المثقفين. ما يجري مجرد قبض ريح لا طائل منه، إن لم يكن هناك حوارات هادئة محترمة لتبادل الآراء والأفكار ضمن مجال التاريخ، لا السياسة. لقد انحدر مثقفون عراقيون إلى مستنقع آسن، خصوصاً مع فقدانهم المرونة والفهم، وتقبل الرأي الآخر.
وليعلم الجميع أن النظرة إلى ذلك الحدث ستتغير مع مرور الزمن، خصوصاً لدى الأجيال القادمة، وسيتوفر مؤرخون موضوعيون، غير مهووسين ولا متعصبين. وعليه، لا يفيد هنا أيّ موقف متشنّج لهذا الطرف أو ذاك، وحده المؤرّخ سيعلم بواطن الأمور علمياً ووثائقياً، ويكشف للناس بعض المخفيات، سواء عن الملكيين أو عن الضباط الأحرار أو عن الشيوعيين والقوميين والبعثيين والإسلاميين. وعليه، على كل العراقيين التخفيف من غلوّهم، سواء باتجاه الحدث الدموي في 14 يوليو/ تموز 1958 أو بالضد منه، فالحدث أصبح جزءاً من الماضي، وينبغي من الجميع فهمه موضوعياً قبل التخندق معه أو التمترس ضده. كما ينبغي أن يسود الحوار بين مختلف الاتجاهات الفكرية والتيارات السياسية، فهو يشخّص أخلاقية المثقف ونزعته في الوصول إلى خطوط التقاء، لا إلى افتراقات وكيل اتهامات. وفق النزعة الديمقراطية التي لم يعرفها حتى المثقفون العراقيون، فهم لا يقبلون أبداً المرونة والاعتراف بالخطأ، بل يبدأ مسلسل التعنّت وإلصاق التهم بالمناطقية والطائفية والفاشية، وما إلى ذلك من كليشيهات، لم تكن معروفة قبل هذا الزمن الصعب. والتعصب الماضوي باتجاه حدث خطير تترجمه شتائم وسباب ولعنات لا يمكن أن يقبلها أي عاقل في هذا الوجود. ولنعلم أن العراقيين ليسوا طيفاً واحداً فكرياً أو سياسياً، ولكنهم لم يكونوا كما حالهم اليوم من التفكّك والانقسام، مقارنة بما كانوا عليه قبل عقود.
العناد والتخندق وجعل هذا نبيا وملاكا والآخر شيطانا وعميلا رؤية خاطئة. تاريخ العراق أو أي حدث فيه لا يمكن أن تحتكره جماعة أو حزب أو شخص. هو ملك للآخرين أولا وللأجيال ثانيا. وحدها الوثائق ستعلم الأجيال القادمة ماذا قدّم كل عهد من العهود للعراقيين إبّان القرن العشرين.