علمانية بلا علمنة

10 نوفمبر 2015
+ الخط -
نجح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في اكتساح الانتخابات البرلمانية في بلاده. كنَسَ الخسارة السابقة بسرعة تنمُّ عن قوة ودهاء. هيمن حزب العدالة والتنمية على البرلمان، بما سيريحه في تكوين الحكومة مفرداً، وبلا وجع رأس. عاد السلطان إلى عرشه منتصراً. انطلقت الأهازيج والزغاريد في بيوت الإسلاميين.
لا شك في أن النموذج التركي يشكل ومضة لافتة لمحيطه المُنهار والملتهب، ولا شك أيضاً في أن الإسلاميين فخورون بنجاح حزب العدالة والتنمية، في المحافظة على السلطة أكثر من عقد، لكن هذا الزهو بالنموذج التركي لا يقترن بالاعتراف بفضيلة وجود نظام علماني فيها، حيث يتيح النظام المجال أمام تداول السلطة، ويعطي الإسلاميين فرصة للوصول إلى الحكم، من غير العنف أو سطوة المقدّس، والبقاء فيها رغماً عن الجميع، من دون الحاجة لحمل السلاح، وإرهاب الناس.
المشكلة الحقيقية أن هؤلاء يريدون علمانية بلا علمنة. يريدون النزر اليسير منها. يُهمل لبُها لصالح قشرها، وينحصر الحديث حول قوة حضور التيارات الإسلامية في الساحة السياسية العربية، وتوق الجماهير لمعانقتها، متى ما سُمح لهذا الجمهور بالتعبير الحر عن خياره السياسي. يقال هذا الكلام، من دون تمحيصٍ في أسباب هذا التفوق للإسلاميين، أي من دون تسليط الضوء على ما جرى من تجريفٍ للحياة السياسية من الأنظمة العربية التي دعمت، ولا تزال تدعم، الإسلاميين بسخاء منقطع النظير، خصوصاً دول الخليج. ويقال هذا أيضاً، على الرغم من خسارة التيار الإسلامي الانتخابات في تونس، على يد من يسمون العلمانيين، أو "الحرس القديم" بحسب توصيفات "الإخوان المسلمين" لكل تيار ينافسهم على السلطة.

لا يشبه حزب العدالة والتنمية بقية أجنحة جماعة الإخوان المسلمين. هو حزب إسلامي القيم، علماني السلوك والعقيدة السياسية. لا تشبه قياداته قيادة تيار "الإخوان" في مصر والخليج. أردوغان سياسي محترف، يقبل قواعد الحكم الديمقراطي العلماني الذي غرَسَ جذوره الأب المؤسس لتركيا الحديثة كمال أتاتورك. يعرف أردوغان نفسه، حق المعرفة، فضائل العلمانية السياسية، له ولبلاده ولحزبه، إذا ما أراد التقدم والرقي للأمة التركية. لذا بادر بنصح جماعة الإخوان المصرية، حينما زار القاهرة بضرورة تكوين نظام علماني. أمَّا ما يوجد لدينا، نحن العرب، من نسخ إسلامية مسيسة فمعظمهم دراويش. لا يتعاطون السياسة إلا في شقها الصراعي الهوياتي الذي يشطر المجتمع إلى جماعتي المؤمنين والكافرين، من خلال تنزيه النفس، وتقديس مشروعهم السياسي الذي لا ينطقون فيه عن الهوى.
لم يفلح الإسلاميون في استثمار اللاهوت الإسلامي، وتحويله إلى عامل تعزيز لقيم الأمة، بل على العكس، استغلوا مفاهيم، مثل "تطبيق الشريعة" وحمايتها أو تأويلها، للاستفراد والتفرد، بما يجعلهم أصحاب "الاستثناء" بلغة كارل شميت. بالتالي، لا مكان للشراكة، ولا لشريك وطني يتقاسمون معه السلطة، فكل مختلف مع مشروعهم أو مخالف له في منزلة الخارج على "شريعة الله".
يريد الإسلاميون علمانية بلا علمنة. علمانية فارغة من مضمونها، مائعة، تتيح فقط مساحة لإجراء انتخابات مفتوحة، يتنافسون فيها مع النظام الموجود، والذي غالباً ما يكون مستهلكاً ومعزولاً؛ بسبب استبداده وطول بقائه في السلطة وتراكم أخطائه، بحيث إذا ما أتيح المجال لاستبداله، فلا يجد الناس سوى الإسلاميين أمامهم.
صحيح أن العلمانية في الغرب مرّت بتحولات كبيرة لاحقاً، لتصبح إيديولوجيا أو ينظر لها صيرورة تاريخية، كما رصدها بدقة الدكتور عزمي بشارة في مشروعه (الدين والعلمانية في سياق تاريخي) لكن جوهرها الأساس كان منطلقاً من لدن المسيحية والمسيحيين المتمردين الذين سئموا من طغيان المستبد، والملكيات المطلقة التي مزجت بين السياسة والدين، عبر استغلال الإمبراطور للمؤسسة الدينية، لتوطيد حكمه واستبداده. أي إن أوائل الذين طالبوا بالعلمانية هم من "مطاوعة" المسيحية؛ لأنهم وجدوا أن السلطة الحاكمة هي التي استغلت الدين، وطوعته لخدمتها، بدمج التاج والمذبح، كما حدث في بريطانيا في عهد هنري الثامن.
إذن، التمرد الأول قاده الإصلاحيون الملتزمون بالتعاليم المسيحية من خلال إعادة تأويلها. حتى إن فلاسفة زعموا أن المفاهيم الرئيسية الكبيرة في الحداثة السياسية لاهوتية جرت علمنتها. فإذا كانت العلمانية، في أهم تجلياتها، تعني، فيما تعني، إعادة السيادة إلى الشعب، بفصل الدين عن السياسة، عبر نزع قداسة الخطابات الدينية، أو الإيديولوجيات السياسية التي تستغل الدين لأهداف سياسية، وهو انفصالٌ يجب أن يكون من طرفين، لا من طرف واحد، فإن بوابة العبور الرئيسية نحو تحقيق ديمقراطية سليمة ومكتملة الأركان، هو العمل على علمنة المجال السياسي، بفصل كل ما هو أخروي عما هو دنيوي.
ما يمارسه الإسلاميون لدينا هو العكس تماماً، تعزيز حضور الدين في المجال السياسي، وتقسيم المواطنين على أساس انتماءاتهم الدينية والمذهبية، وترسيخ الانقسام الهوياتي داخل المجتمعات التي ينشطون فيها، ببث سموم النزاعات الهوياتية بين الإسلاميين والعلمانيين، ليس على أساس الشراكة في الوطن، والقبول بالمساواة في التنافس على إرضاء الجماهير، والانصياع لحكمها في قياس الأصلح، في فضاء سياسي نظيف، بل على أساس الاصطفاء الرباني. في دول الخليج، مثلاً، تجد الإسلاميين يصدحون ليل نهار بالنموذج التركي، وسماته التي قادت تركيا إلى هذه المكانة والحضور الإقليمي المؤثر. لكن، هبْ أنك سألت أحدهم عن مسار العلمنة الذي عبرته تركيا، وإمكانية تطبيقها لدينا، فإن تصريفة خصوصية مجتمعاتنا حجة جاهزة.
تتمثل العلمانية المرغوبة من الإسلاميين في حرية انتخابهم فقط. أما العلمنة المتمثلة في مصادرة المقدّس من بين أيديهم، وإعلاء منطق الدولة، بوضعها في منزلة تفوق التصنيفات الدينية، إذ تبقيها على مسافة واحدة من مواطنيها، بعدم تبنيها مذهباً محدداً، فهذا من الكفر البواح.

59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"